حمودي عبد محسن

 

| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

 

الخميس 7/12/ 2006

 

 

تنبؤات كاسندرا الطروادية

حمودي عبد محسن

أولا : كاسندرا وابولو :
ها هو ابولو - ابن زيوس والآلهة ليتو ، والأخ التوأم لآرتيمس ، ابول _ إله الشمس ، والموسيقى ، والشعر ، وجمال الرجولة الخالدة ، الذي كان يطير على ظهر بجعة ، على رأسه تاج غار ، ويملك قيثارة ، الإله غير الحسن اتجاه النساء ، ، إذ بسببه مسخن الكثير منهن أما إلى أشجار أو حيوانات ، فهذه دافني تحولت إلى شجرة غار ، وتلك كليتيا تحولت إلى عباد شمس ، ولا يتنافس أحد معه على القيثارة ، فهذا المسكين مارسياس كبير السن سلخ إلى أفعى ، والملك الكبير السن ميداس نال آذان حمار ، وتلك العرافة كوماي منحها الخلود وأبقى سنها يتقدم ، ها هو بنفسه يطارد كاسندرا بنت بريام ، بنت هيكوبا الطروادية ، التي تستحم الآن في بركة بين نهرين ، وعلى ضفاف نبع " سكامانديرا " ، وقرب تل " كاليكولوني " وتمثال " اليوس " ، فهنا المياه تنساب بهدوء ، ولم يستطع التل أن يعترضه ، وهناك البحر يتجلى بسكون وفضاء أزرق ، تحت لمعان القمر أبان الليل ، كانت كاسندرا تبلغ النجوم بعينيها السوداوين في أعماق هذه الليلة ، أو بالأحرى تبلغ روح الزمان الماضي برؤية المستقبل ، وبوضوحها تقرأ الغيب ، وتكشف الحجاب ، وتمزقه عن النجوم ، التي تتلفع بالأسرار ، إنها ترى ما لا يراه أي طروادي ، وتتشرب بسطوع النجوم ، فهدهدة السكون في هذا المكان الذي يمتد إلى مروج خضراء متأنقة الأزهار ، وحقول القطن ، وفيافي ، يضفي نشوة روحية على كاسندرا التي كانت تنظر إلى السماء ، فهذه عادتها في عمق الليل ، وهي صبية عذراء في غاية الجمال ، أن تتأمل في النجوم ، لذلك أحبها ابولو ذات مرة ، وقد وهبها التنبوء الصادق ، فلما صدته أصابها بلعنة أن لا يستمع الطرواديون إلى نبوءاتها الصادقة ، ها هو ابولو متخفيا خلف الأشجار ، وأنفاسه تتصاعد فيتصاعد الحب ، مجرد أن وقع بصره المولع عليها ، فتجددت رغبته فيها بعد أن تكرر التيه ، ومضت الأيام ، وهو في خيبته ، إذ لا سعادة له دون كاسندرا التي لا تسمع شكواه ، ولا مناجاته أن تقترن به ، وهي تردد : ( ماذا يحدث لي بعد الزواج منك ، أجل مثلما حدث لأيون وأمه ) ، فكانت كاسندرا الفاتنة قد رفضت كل المسرات والثروات والمباهج التي عرضها عليها ابولو ، خائفة أن تفرض عليها حياة الشقاء ، والبؤس في ظل الثروة والنعيم والرخاء ، لذلك رفضت بكل إصرارا لاقتران به والتضحية بحب طروادة ، مما أغاظ ذلك ابولو وعاقبها ، فهو لم يستطع استرداد ما وهبه بها على عادة ما يجري للآلهة ، وكان ابولو يكرر : ( وا أسفاه ! ) . كانت شكواه ترن في رأسه مجهولة ، وثناؤه لها يشيع في قلبه الجزع ، وقد هام على وجهه شريدا ، واستولى عليه الحنين الجاد إليها ، محنة شديدة هو الحب ، فيعود ، ويهمس أشبه بعزف هارب ، وهي لا تولي له باهتمام ، فيحلق مع همسه مثل نغمات حزينة ، غي محددة ، يتملكه الألم ، وها هو يراها ، فيشعر أن قلبه القاسي صار رقيقا طريا ، وما يراه سوى جمال كاسندرا التي احتوت قلبه حتى ولو كان في البعد ، لذلك عزف على قيثارته لحنا صافيا بنغمات سماوية رقيقة ، يدعوها من القلب إلى الحب الإلهي ، فيه الدفء ، الحنان ، اللطف ، ذلك دفعه إلى فيض من الدموع التي سقطت على قيثارته ، وهي تواصل رنينها بأنغام عذبة ، وكانت هذه لحظة سعادة ابولو تدفئ روحه ، بينما كانت كاسندرا تسمع بتوجس خائف ، وتقول : ( يريدني أن أنسى طروادة الحبيبة ، وأرقص له وحدي على أنغام قيثارته ، وفي الهواء الطلق ، هذا ذوقه ! وأمشي أمامه بأناقة ، وأتهادى بخطى هادئة ، وبخدود متوردة ، هذا ذوقه ! ) .
صمتت القيثارة ، فخرجت من الماء مرتبكة ، تنز قطرات الماء من جسدها البض على الأرض ، سحبت ثوبها من الشجرة ، وهي تتطلع مدهوشة ، ها هي خطوات تقترب منها ، ففرت هاربة بين أشجار الزيتون ، الخطوات كادت تبلغها ، كان وقعها يقتفي أثرها ، وقد أدركت إنه يخاطبها :
ابولو : أخشى على قدميك أن تزلان ، لماذا تهربين مني ؟!
كاسندرا : لا أريدك يا ابولو ، لا أريد أن أتخلى عن طروادة ، طروادة سعادتي .
ابولو : أخشى أن تنغز شوكة قدميك أو أوراق أعشاب برية حادة ، لا تهربي مني !
كاسندرا : وأنا أخشاك !
تعثرت وسقطت على الأرض ، وفلت من يدها الثوب الأبيض المنمق بالورود الخضراء ، وهو يردد : واأسفاه ، يا ويلي ، يا ليتني كنت الأرض لحميتك بجسدي ، هل توجعتي يا حبيبتي ؟! ) . لم تمض برهة من الزمن ، وقد أصبح فوق صدرها ، ووضع القيثارة على ثوبها ، وها هي الكلمة ترن في قيثارته …بسرعة …بسرعة … هنا يتوهج الألق الغريب أمام تنهدات ابولو ، وتمجد المفاجئة العنيفة ، هكذا تجري الأمور على يد الإله … الكلمة ترن … بسرعة …سخر ابولو قوته لاغتصاب كاسندرا فوق العشب الطروادي الذي يزين نفسها بالأزهار . كاسندرا تشكو بهدوء ، ومرارة ، وتأن ، إن الأمر سئ جدا ، فها هو يضغط بصدره المضطرب صدرها الشاكي الأجمل من النجوم ، فلا شئ ممنوع عليه إن أخطأ أو تورط أو قبل خدي كاسندرا المحمرين ، أليس هو واحد من اثني عشر من أرباب الأولمبي ؟! لم يدر ببال ابولو أن منازعات ، وثارات ، وخلافات ، ربما _ حروب تجري بين الأرباب ، وهو ابن زيوس الرب الأكبر العظيم وفوق الجميع ، الذي يسكن جبل الأولمب فوق مرتفع عال ، بينما كاسندرا تحاكي النجوم ، وصار ليلها بهيم حيث رقد فيه بفعل الكلمة ، وهي تقول بصوت خافت ، وعيناها تذرفان الدموع :
كاسندرا : حسنا ، ها أنت اغتصبتني ، وبلغت غرضك ، واستلذيت من جسدي ، وامتلأ صدرك بنشوة النصر ، وأطعمت ظهري بتراب طروادة ، وماذا تريد بعد ؟!
ابولو : أنت ، أن تكوني لي وحدي ، وسأهبك كل ما تتمنيه ، وتكوني أم أولادي .
كاسندرا : كلا سأضل عشيقة طروادة ، سأظل أبغضك تماما ، وأتحاشى ظهورك ، أنا لست لك .
ابولو : واأسفاه ، أنت برفضك هذا تنتزعين السرور مني ، يا ليتني ما أحببتك ، ألم تشاهدي عذابي في سهري ، ليتني لم أحلق فوقك ، وأتجول في مزارع طروادة الغنية ، سيبصرك أهل طروادة معذبة بملامحك الصافية ، بزينتك التي ترن أشبه بأجنحة طيور ، ستذبل روحك ، وستصرخين ولا أحد يسمعك أو يصدقك ، ها هي الغيوم تتجمع فوق أسوار طروادة ، وتحجب ضياء القمر ، ها هي السفن آتية متسترة بالضباب ، سيتمزق قلبك ، وأنت تتواثبين من بيت خرب إلى آخر ، وأنت تتوسلين أباك بريام ملك طروادة ، مبهورة الأنفاس دون أن يصدقك ، سوف لن تستولي عليه شفقة نحوك ، وأنت تصدرين النداء تلو النداء ، ستكونين مضطربة ، مذعورة في كل أعماق حياتك ، وسوف يرميك بريام في السجن تائهة في عزلتك ، في تيارات التنبوءات ، وأنت في عاصفة الانفعالات ، وحيدة ، مخلوقة خانعة ، بائسة ، يليق بك أن ترفسي باب سجنك الحديدي ، واأسفاه !
كاسندرا : الآن أشعر بقربي إلى التنبوء ، وأشعر بقواي تتماسك نحو النبوءة ، وتنتابني شجاعة لا مثيل لها على تحمل المجازفة ، ومغالبة الاضطراب ، ها أنني أقترب إلى أهل طروادة لأنني أشعر بقربي منهم ، أواه ! بحق أنغام قيثارتك المقدسة ، لا تدع الصدر يضيق والقلب يظلم ، دع الأمل يزهو ، والشوق يكبر إلى ينابيع الحياة في طروادة ، فها أنت نلت مبتغاك ، فماذا تريد أكثر ؟!
ابولو : أريدك أنت سواء نزلت من السماء إلى الأرض أو صعدت إلى جبل الأولمب ، يا كاسندرا .
كاسندرا : لا تتذرع بهذا ، فإن الرضا لا ينبثق من القلب ، وأنا لا أحتمل عقوبتك ، أريد على الدوام مساعدة طروادة ، أنا أعرف من أنت ، وماذا بمقدورك أن تفعل ضدي ، أريد أن يصدق أهل طروادة نبوءاتي ،وأنا لذلك سخرت روحي .
ابولو : أنت تنكريني أكثر من مرة بالرغم من أنني وهبتك النبوءة ، وها أنت تنشدين لهم الحياة الجميلة .
كاسندرا :
أيها الحلم العذب !
حرا طليقا
ثوبا أرتديه كل صباح
أنشودة دائمة
طوال الأيام
كلها ، طوال الأيام
أن طروادة تسكن لروحي
وتهزني من الأعماق
ابولو :
يا نغمتي العذبة
قيثارتي المقدسة
أنكرتني كاسندرا
ابتغاء الانتصار
خداع الأحلام
طمعا في طروادة
وتبدأ الأغاني
وأناشيد جديدة
في مجرى الحياة
في ذات الخراب

ثانيا : باريس
لقد غلب النعاس هيكوبا حتى نامت على فراشها الوفير في القصر الملكي الفخم ، وهي في حلم وحشي ، أحاطها ، وأغرقها في شعلة مجنونة التي تتجاسر ، وتتقدم من بيت إلى بيت وتعدو الرياح لتلتهم الحقول والمزارع ، طروادة ستدمر ، حينئذ لم يبق منها إلا الذكرى ، هذا الحلم تشرق منه الآلام ، وتنبثق منه الأحزان ، ارتبط بهيكوبا ، لم ترد أن تخاطر به ، فطروادة نجمة حبيبة ، وحياة سعيدة ، وهيكوبا زوجة بريام الملك ، فقد أنذرته من هذه الشعلة ، استدعى العراف الأكبر ، وتطرق إلى الشعلة ، لم يكن الصباح سعيدا ، خاصة وقد نطق العراف بعد أن عرف أن الجنين يتحرك في بطن هيكوبا : ( اعرضيه على جبل ايدا ! ) ، هذا ما قاله العراف باختصار كي لا تدمر طروادة بهذه الشعلة ـ أبدا لا تريد أن تدمر ، وتصبح أنقاضا ، وتنشأ على أنقاض ، تريد هيكوبا طروادة مزهوة بتراثها ، بكنوزها ، بمينائها المسيطر على شواطئ آسيا ، ولربما _ لا ينشأ عالم آخر بعد الخراب ، لم تريد أن تسمع المزيد من الكاهن ، فعندما ولدته لفته بقماش ، ووضعته في صندوق صغير ، وحملته إلى جبل ايدا ، ورفعت يديها للسماء ، وصرخت صرخة أم : ( سأعطيك يا جبل ايدا ما لم تعطيه أي أم سابقا ، سأعطيك وليدي فخذه من أحضاني أرعاه ، أعطيه اللذة الإلهية ، والثمرة التي لا تعطب حتى بعد قطفها ) ، تركته على الجبل وعادت كأم خدعها الحلم ، ولتكن هكذا نهاية ، وليبدأ تاريخ جديد ، أم تتخلى عن وليدها ، موافقة أن تنهشه الوحوش في أية لحظة ، طروادة تتخلى عن وليدها لمجرد حلم خادع ، ضحية لمجرد حلم ، إنها مراهنة مع الأيام ، وليصرخ الوليد ، وتأتيه الوحوش ، فهذه أنثى الدب ترضعه من حليبها ، وينمو قويا ، ثم يتلقفه الرعاة من الجبل .
هدؤوا أعماقه ، وهيئوه إزاء أية معجزة في دوامة الزمان ، دوامة الزمان وراء حجاب التخلي ، وليتصاعد الألم ، والسخط . علمه الرعاة الفروسية ، ونظرا لشجاعته سموه المحارب ، وأبلغوه إنهم وجدوه على جبل ايدا بعد أن أرضعته الوحوش ، وهم يهتفون له : افعل ما يحلو لك في المراعي ، تذوق الأرض ، التقط الحجارة واطرد الوحوش ، أو ارميها بالسهام ، إنها متعة أن تحمل السخط على من تركك للضواري فوق جبل ايدا ، وقلبك ينبغي أن ينفتح للعالم ، استمتع بالحياة دون ألم ، وابلغ الأعلى ، وكدس شجاعتك لتتسع للحرب ، وفي النهاية لا مجال لك في هذه المراعي ، اذهب إلى طروادة ، أعلن شجاعتك ، ومجدك ، أنك ابن هيكوبا ، وبريام ، وأخوك بطل الأبطال هكتور ، واختك كاسندرا ذات التنبؤات الصادقة ، اذهب إلى طروادة أعلن مجدك يا باريس !
آنذاك كانت تعقد في بهو الأولمبي وليمة عرس بيليس ملك ثيسالي وثيتس وهي واحدة من إلاهات البحر ، ودعي كل آلهة وإلاهات جبل أوليمبس ما عدا " إيريس " إلهة النزاع والشقاق ، ولذلك حاولت إثارة خلاف في وليمة العرس فألقت بين المدعوين تفاحة ذهبية ،كتب عليها " للأجمل " فشب نزاع بين ثلاثة إلاهات : هيرا _ آلهة الزواج ، وزوجة زيوس ، أثينا _ آلهة الحكمة والحرب ، وهي ابنة زيوس المفضلة ، وافروديت _ آلهة الحب والجمال ، وادعت كل واحدة منهن إنها الأحق بالتفاحة ، ولذلك لجأن إلى رب الأرباب زيوس للحكم فيما بينهن ، وحسما للنزاع قرر زيوس أن يلجئن إلى تحكيم أجمل البشر من الرجال ، وهو باريس ، وعلى هذا ذهبن الإلهات الثلاث إلى باريس ، وهو يرعى الماشية في جبل ايدا ، وسعت كل واحدة منهن أن يحكم لصالحها ، فوعدته هيرا بالعظمة الملكية ، ووعدته اثينا بالنصر في الحرب ، ووعدته افروديت بأجمل نساء العالم لتكون زوجة له ، فحكم باريس بالتفاحة الذهبية لافروديت ، مما أغاظ هيرا واثينا لاسيما كان هناك خلاف بين الأثنى عشر آلهة في جبل الأولمبي بسبب غنى ، وثراء طروادة ،فقد أصبحت مجال خلاف وتناحر بين الآلهة ، هذا وقد نصحت افروديت باريس أن يذهب إلى طروادة :
افروديت : عليك أن تتطلع إلى المدينة ، وتتركي الجبل ، فمن هناك تفوز بهلين أجمل نساء العالم .
باريس : الجبل وهبني كل شئ ، وأنا أستمتع فيه ، ومنحني القوة ، واصطياد الحيوانات الوحشية ، وعلمني الصبر ، والتحمل ، إنها من صفات الرجال .
افروديت : هنا لا يمكن أن تفوز بهيلين ذات الشعر الجميل ، وهل ستقضي طول حياتك بالجبل ، ترعى الماشية ، وتطارد الضواري .

فاتجه إلى طروادة تاركا الجبل ، وبهذا حققت وعدها لباريس ، فأخذته إلى المدينة ، وقدمته إلى أهلها الذين ابتهجوا بعودته أميرا بعد أن كشفوا سره بشجاعته ، وذكائه ، وقوته .

ثالثا : تنبأ كاسندرا الأول
ها هو القمر بين النجوم أمام ناظر كاسندرا ، يتصاعد صافيا ، يشيع الرقة في قلبها ، فتهتدي إلى نشوة التأمل ، ويتاح لها أن تشعر ما لم يشعر به أي طروادي ، تنبعث في أعماقها عجائب كثيرة ، تقربها من التنبوء أكثر فأكثر ، لا يمكن أن تستغني عنه ، ولا يمكن أن يحط من إمكانياتها ، التنبوء قدرتها ، ونار شوقها في إصرار تام ، تستمتع به ، وتجربه مرة تلو مرة ، إنها تتطلع إلى النجوم الساطعة ، وترسم حركتها في هدوء ، ودون ذلك تحس بالضجر والملل ، وإنها لا تستطيع أن تقضي حياتها بلا تنبأ ، إنه يشفي خيالها عذبا جميلا ، وتختفي لوحدها ، لتستمد تنبئها في استمتاع ، فيعطيها طاقة حيوية ، وتنتهي من الركود اليومي في الليل ، وتحت السماء الصافية في شغف تام ، متحسسة الأيام القادمة ، فخورة إنها تكشف أسرارها ، وتبوح بها لأهل طروادة ، هذا الأمر يسر قلبها ، وجدانها ، إنها تفعل شيئا صادقا ، وتتمادى فيه طويلا ، فأهل طروادة بانتظار شئ مفزع ، فضاقت روحها ، وذرفت الدموع حزينة ، تريد أن توقف الانهيار ، الخراب ، وكانت تخشى أن لا يصدقها أحد ، ها هي تكشف السر ، " باريس سيدمر طروادة " ، فجمعت في روحها كل الصفات النبيلة ، وثابرت في إقناع والدها بريام ، حاولت أن تجمع بين عظمة النفس ، والدهاء في نبوءتها ، وهي تصرخ : " من أنا أذن ؟! أظفر بالنبأ الصادق ، وأنتم تخاطبوني : " أنت في النهاية أنت كاسندرا " ، إنها تدرك أن لا أحد يصدقها ، ولم تزداد سموا ، ولم يقترب منها أحد ، فكانت تنادي والدها :
كاسندرا : ها أنت ترى الأمور ليس مثلما أنا أراها .
بريام : ماذا ترين ؟!
كاسندرا : باريس سيخرب طروادة .
بريام : وماذا علي أن أفعل ؟!
كاسندرا : اطرده من طروادة ، أبعده عنها .
بريام : لا أستطيع ذلك ، أنه ولدي .
كاسندرا : وهو أخي كذلك .
بريام : إن كنت على قدر من التنبؤ ، افعلي شيئا لطروادة .
كاسندرا :كل هذه التنبؤات توحي لي أن لا تجعل باريس الجميل سفيرا إلى إسبرطة ، ولا تحمله الذهب والفضة ، وذخائر الكنوز هدايا ، لأنه سيعود إليك بالجيوش التي ستدمر طروادة .
بريام : هذا مجرد هراء يا كاسندرا ، دع كل هذه الخرافات ، وخوضي غمار الحياة في مراع طروادة الخضراء الغنية المترفة .

رابعا : الحرب
هيلين هي أجمل نساء العالم ، بنت زيوس ، ومن زوجته ليد ، وعندما كانت في سنة العاشرة اختطفها ثيسوس من إسبرطة ، وخبأها في افيناي ، ومن هنا أنقذها أخواها كاستور وبولوكس ، وكان أيضا من خطابها البطل اوديسيوس الذي اقترح على خطابها حرية الاختيار ، وتعاهدوا على احترام رغبتها ، والوقوف إلى جانب زوجها عند الحاجة ، و لأن مينالوس كان الأغنى بينهم فقد اختارته زوجا لها وعاشت معه لعدة سنوات ، إلى أن ظهر باريس ليغريها بالهروب معه في الوقت الذي كان زوجها غائبا ولما عاد مينالوس ، دعا مع أخيه الأكبر اغاممنون زوج كلوتمنسترا ، أخت هيلين ، كل الإغريق لتسير حملة ضد طروادة خاصة وإن أطماع اغاممنون كانت أن يمد نفوذه على ميناء شواطئ آسيا ، ويضم طروادة إلى مملكته ، وكانت الحملة تتكون من مائة ألف مقاتل و 1186 سفينة ، وكان ضمن الحملة بطل الأبطال أخيل ابن لبيلوس ملك ميرميدون ، وأمه ثيتس من الحوريات ، وحتى يصبح من الخالدين قامت بغمره في مياه نهر سيتكس إلا وحين غمرته كانت بعقبيه من الوتر ، فكان هذا المكان الوحيد في جسمه الذي لم تغمره المياه ، وأصبح نقطة ضعفه ، وقد تنبأ كاهن بأن أخيل سيقتل في حرب طروادة ، وإن طروادة لن تفتح إلا بمساعدة أخيل ، ولذلك أرسلته أمه إلى جزيرة سيكاروس للعيش في أمان متخفيا بملابس بنات ، إلا أن اوديسيوس اكتشف أمره ، فأقنعه الاشتراك في الحرب .
توقفت سفن اغاممنون في عرض البحر بفعل عاصفة قوية ، فأمر اغاممنون جنوده بجلب بنته " افجينينا " لتقدم قربانا لإلهة الحرب " لارتيميس " مطيعا كلام العراف لكي تسمح لسفنه من جديد أن تتحرك وتواصل سيرة الحملة .
وقفت " كلتيمسترا " باندهاش خائف في أبهة الموت حينما أخذ منها جنود اغاممنون بنتها الصبية ذات النهود الصغيرة ، وقالت بإجهاد وصوت خافت : ( إنها ضحية الأب ) ، ثم سحبت نفسها بتثاقل عبر الصمت الجنائزي كما لو أن وجهها خال من الدم .

وضع افجينينا مرتعبة بائسة ، متيبسة على مذبح الموت ، وهو صندوق مغطى بالقماش في سطح سفينة اغاممنون الأب ، نعم ، أبطال الإغريق يشيعونها لتتخلص من الأحزان ، وسينزف دمها ، وينفجر وجهها في وجه السماء ، ، لأنهم أرقدوها على ظهرها ، وداعبوا شعرها الأسود الناعم ، دمها أحمر قاني ، وتكاد تكون موهومة لكل ما يجري حولها ، وفي عينيها دموع ذكرى ، تظهر فيهما أشكال صامتة ، بيضاء ، وأيادي رمادية مرفوعة فوق جسدها ، ساكنة ، متحركة ، إشارات إلهية لأشكال وحشية بيضاء عجيبة ، أشكال متكررة ، محتشدة في عينيها ، متدفقة منها أشياء من الماضي أثناء لعبها وهي طفلة ، مفجوعة والدموع متماسكة في عينيها ناظرة إلى السماء التي يحلق فيها طائر أبيض يبحث عن إشارة منها للبكاء بعينين سوداوين في عذاب مهلك ،كأنه يسأل : ( لماذا هكذا افجينينا ممددة ؟! ) ،لم ير الطائر هكذا صبية راقدة في استسلام ، كان يتأملها ، آه ، لو يستطيع أن يهبط ويحملها على ظهره ، كان يتأمل الأبطال أيضا ، كان يخشاهم أن يرموه بسهامهم ، ويسقطوه في البحر ، صدمة عظيمة كأنه يقدم تعازيه لها قبل موتها ، مصاب أليم ، حداد تذكاري ، كل شئ من أجل أن تتحرك السفن ، إلا أن الشيء الوحيد الذي لم يقف بينها وبين الطائر هو الوداع .
توقف الأبطال قربها ، وهم في كامل عدتهم الحبية ، ينظرون إلى عنقها النحيل ، وإلى شعرها الممشط المفروش على المذبح ، وذراعيها الممدودتين إلى جنبها ، يا للصبية الضحية ! هل كان عند الأب رحمة إزاء ابنته ؟! أب يستجيب لرؤيا العراف ، فيستريح ذهنه في اللحظة الأخيرة ، ويقبل أبنته للمرة الأخيرة ، ويتمتم : ( أنت قربان لارتيميس ) هذا كل ما يقدر أن يفعله ، وهو يفهم كيف وضع رأسها تجاه جبا الأولمب ، بعد برهة دق السيف عنقها ، رامشة بعينيها ، في العاصفة المحجوبة ، فوضع الرأس قرب جثتها بعد أن تدحرج بلهاث ضعيف ، إنه الدم الفائض أمام السماء ، القلب المقدس ، العيون ، الصوت ، نعم ، يسمعون صوت جدهم الأكبر ، ماء البحر ، العاصفة ، والسفن ، نعم ، انتحى اغاممنون جانبا حتى يفسح المجال للأبطال : ( اخيل ، أوديسيوس ، بينالوس ) ، أن يشيعوها في تابوت ، ويحملوها خارج السفينة ، إلى أغوس مملكة اغاممنون ، لأن عادتهم أن لا يرموا الضحية في البحر ، بهدوء بكت أمها ، وأغلقت عينيها بحزن ، وهزت رأسها متوعدة ، وقرأت مراسيم الصلاة بسرعة إلى زيوس ، هازة رأسها ، منعمة النظر في العيون المحتقنة ، عيون خفية، عيون تفتش عن السر ، لا سر سوى أن تتحرك سفن الأب ، ويتحقق طمعه أن يلحق طروادة إلى مملكته ، وبقت قاعدة المذبح دون شموع مشتعلة في أركانها الأربعة ، ولا إكليل فوقها ، بل ركعوا إلى ( لارتيميس ) ، نادبون ، مطأطئي الرؤوس ، وشرعوا بالصياح باسم زيوس ، والمصيبة وقعت على رأس الأم ، وهي تقول لنفسها : ( افجينينا ضحية أطماع الحرب ) .
حوصرت طروادة عشر سنوات واستطاع الطرواديون تكبيد الإغريق خسائر فادحة ، خاصة بعد أن اعتزل أخيل الحرب في خيمته بسبب سبية حصل عليها ، وهي ( برسيس ) بنت بريام ، واستحوذ عليها دون حق اغاممنون ، فنشب خلاف بين الطرفين ، وفضل أخيل عدم الاشتراك في الحرب ، ودعت أمه زيوس مستعطفة إياه لإهانته أخيل ، ووعد بذلك ( زيوس ) في معاقبة اغاممنون .

خامسا : تنبأ كاسندرا الثاني
هناك عملاق ضخم في ظلال الليل ، قصة أشباح ، نعم ذلك في ليلة حالكة ، جنود يقبلون عليها في منتصف الليل ، وكاسندرا تغط في نوم ، وشرعت ترى المصيبة تنزل على أخيها ( بوليدورس ) التي نصحت والدها أن لا يرسله مع الكنوز إلى صديقه ( بوليمنستر ) في تراقيا ، أخوها متروك على الأرض ، أحد يرش عليه الماء ، يهز رأسه ، لم ينهض ، ثم يرش عليه الماء من جديد ، لم ينهض ، يرقد ميتا ، شكل صامت ، كتب عليه أن يموت ، وجه أحمر ، فم مفتوح ، يبدو مرعبا ، وجهه ينزف دما ، جسمه ينزف ، ربما ينزف أكثر ، ينفجر الدم من بطنه ، خرجت أحشاءه بسرعة ، الآن رمادي اللون ، مسجى على الأرض ، جثته ساكنة ، راكعة ، إشارات رسمت على التراب ، أشلاء ، أشكال ، مرعبة ، عجيبة ، فوق جثته تحلق طيور سوداء ، تصرخ ، لكنها لا تهبط ، مناقيرها طويلة ، وسيقانها طويلة ، لا تهبط ، تدور حوله ، كاسندرا في منامها ، دائما مفجوعة ، ترى نفسها تبكي ، ناظرة ناحية جثة مشى خلفها أهل طروادة ، عذاب مهلك ، صدمة عظيمة ، تقدم تعازي عظيمة ، مصاب أليم ، حداد تذكاري ، نادبة ، لا أحد يصدق تنبؤاتها ، كل شئ في قصة شبح ، عملاق ضخم ، يهدد طروادة ، الطيور تنادي بأجنحة رهيبة ، كاسندرا تصرخ في منامها ، ففرت الطيور السوداء بأجنحة رهيبة ، ويخلو المكان ، تريد أن تطير به إلى نجومها ! حيث مكانه هناك ، ويخلو المكان ، ترد أن تطير به إلى طروادة ! حيث مكانه هناك ، ويخلو المكان ، قاتله يستحوذ على كنوز ، وثروة طروادة : تيجان ، خواتم ، كؤوس ، لفائف ، سبائك ، كلها ذهب …اشتد الحصار ، خاف بريام على ثروته ، فليس هناك تراجع أو فرار من نار الحرب ، فأوفد ابنه مع الكنوز ، فهكذا تستفيق كاسندرا من نومها وتصرخ " يا أبي أن بوليدورس يصطحب معه قاتله " يتصايحون : هذا ذهب طروادة ! هذه ثروة طروادة ! ويقتل ( بوليمنسر ) ( بوليدورس ) ، وهذه كاسندرا تصرخ : ( أيها الأب العجوز فقدنا الابن و الثروة ) ، وكاسندرا تغط في النوم ، وتستفيق دموعها .

سادسا : مقتل هكتور
كانت كاسندرا تراقب ما يجري عن كثب من فوق حصون طروادة ، وبعينين خائفتين ، تخبط ، جزع ، جياد متهاوية ، عربات مدمرة ، دروع مصقولة ، والحرب شعلة كابية ، وحكاية من حكايات التاريخ ، عجز عن الانتصار ، كانت تراقب الوجوه : أشباه ، تطعن حتى الموت ، ذكرى لا تمحى ، الزمن كفيل أن يفضحها ، بكت كاسندرا ، وكفت عن البكاء ، لأنها تعرف نهاية الحرب ، مفجوعة ، كفت عن البكاء ، أجساد متدافعة ، صراع حاد بالسيوف ، الزمن يرتد كفيل أن يفضح خدعة الآلهة ، صدمة أثر صدمة ، ضجيج معارك ، مقتولين ، صيحة رماح مسننة مطعمة باللون الأحمر ، أجساد مدماة ، فارس على صهوة جواد يسقط ، تسحقه الأقدام ، ضوضاء عالية مؤطرة بالصراخ ، خيول يمتطيها أبطال ، عربات فوق عربات محطمة ، ملطخة بالدماء ، حصان يعدو ، خطوة مسرعة ، أصوات حادة في نزاع ، ومغالبة ، ومتشاحنة ، هياكل كثيرة تلتم ، وتفترق ،أشعة الشمس متوهجة ، دم شاحب ، هياكل مرتجفة ، افتراس بالسيوف من عيون لامعة ، خالية من الرحمة ، نفس عالم الحرب ، تنفتح عيون أوسع في لمعان الشمس : ( هكتور ، هكتور ) ، صرخة محارب ، يدعوه للمنازلة ، ينازله ، يقتله هكتور ، ويجرده من سلاحه ، اغتاظ ، وحدق فيه بجهامة ، ذكرى مجيدة ورعة ، خالدة ، إنه ( باتروكلس ) صديق اخيل ، تنكر بأسلحة وعربة وخوذة أخيل ، انفضوا متفرقين ، غادروا ساحة الحرب ، وتنبعث غضبة اخيل ، وصرخته : ( هكتور ، هكتور ) ، ويجن جنونه ، فيرتدي عدة جديدة ، وينسى خلافه مع اغاممنون الذي استولى على سبيته ( برسيس ) ، وهو يدور أمام الحصن ، والأسوار مثيرا الرعب في قلوب الطرواديين ، واثينا تحرضه على المبارزة ، بينما ( زيوس ) يريد إيقاف الحرب التي أهلكت الكثير من الطرفين ، إلا أن هيرا واثينا تعترضان على ذلك ، فتنزل اثينا من الأولمب متنكرة بزي أختها ( زيفوب ) لتعطي الجرأة لاخيل ، وتخدع هكتور ، مقتربة منه برمح ، ولكن اثينا تساعد اخيل على تفادي الرمح الذي صوب تجاه اخيل ، فيلتفت ليأخذ الرمح من ( زيفوب ) فلم يجدها حينئذ يدرك أن اثينا خدعته ، ويبدأ النزال الكبير وجها لوجه في مواجهة عنيفة ، يتقاتلان بشراسة ، بشتى أنواع الأسلحة ، وهكتور يقول " إذا كان لابد أن أموت فلأمت على الأقل بما تتناقل ذكراه الأجيال الآتية " فيوجه اخيل طعنة ، فيسقط ( هكتور ) على الأرض ، ويموت ، أمام زوجته ( اندروماكي )، وأهله ، ويذهب اخيل بالجثة إلى خيمته ، وهذه ( اندروماكي ) تقول : ( لقد ذهبت من الحياة ، وتركتني يا هكتور الفتاك أرملة في بيتك ، وفي حضني رضيع تعيس ابني وابنك ، أخشى أن لا يبلغ مبلغ الرجال ، سيجتاحون المدينة ، وتنقلب أسوارها رأسا على عقب ، أواه ، ذهب عنا المدافع والسبيات سيذهبن إلى السفن الجوفاء ) .

سابعا : تنبأ كاسندرا الثالث
الآن السماء مرصعة بالنجوم ، وهكتور ينازل اخيل ، ها هي اثينا تخدع هكتور ، إنهما يتقاتلان ، يتصايحان ، يتضاربان ، يسقط هكتور على الأرض ، أواه ، فقد قام صراخ يدور من الحصن حول القتيل ، ها هو هكتور قتيل ، وجثته سحبت على الأرض ، الآن أمام خيمة اخيل تتعفن ، أية مصيبة هذه ! هنا تولد الهزيمة ، شقاء مظلم ، انه مات بسرعة ، دم أريق في ساحة الحرب ، وفي طروادة يولولن ، وندبن على الموتى ، هذا يقلق كاسندرا ، ويقلقها التنبوء الصادق ، الغضب يقبض على قلب كاسندرا ، ليتها لم تملك التنبأ الصادق ، ضاق بها كل شئ ، وانعزالها في غرفتها يسحقها ، ماذا ينفع الاختباء ؟! ويلك لك أخرجي إلى النجوم النورانية ، كم هو محزن أن قرص القمر الناقص ! مع توهج خافت ، ويلقي ضوءا شاحبا ، هناك في السماء تبصر النجوم ساطعة بلذة وتلهف ، أجل أطفأت شعلة طروادة بموت هكتور ، وأطفأت الحياة المشتعلة ، وحلة الهزيمة ، هنا في السماء أصوات لها صدى يتردد على الأرض : القمر ناقص .
القمر : أنت ساهرة ، يا كاسندرا !
كاسندرا : قل لي يا قمر ، متى تنتهي الحرب ؟
القمر : تنتهي بخسارة طرف من الأطراف .
كاسندرا : ومن يخسرها ، يا قمر ؟!
القمر : طروادة .
يبدو في خيال كاسندرا أن طروادة تشتعل ، وتحترق ، وكلها ستقع في الهاوية ، يتصاعد النار في قصورها ، وتتشقق أعمدتها ، ويلمع اللهب في كل مكان، وتنهار القصور ، وتزمجر النيران بأضلاع البيوت القديمة ، وتشتعل الأشجار ، وتتكسر ، وتهتز الجذوع المنهارة ، كل شئ يتهاوى على بعض في اختلال مروع ، وتصفر النار ، وتعوي ، وتسمع أصوات النساء والاطفال ، واختناق ، نزلت كاسندرا إلى أبيها راكضة ، وهي تصرخ : أبي ، أبي ، اسمع تنبوئي ولو مرة واحدة ! وهو يعد نفسه أن يتسلل خفية في معسكر الإغريق ليطلب جثة ابنه هكتور من اخيل عارضا عليه ثروة مقابل الجثة لتعبر روحه الهائمة على شواطئ ( أخيرون ) ، ولتعبر روحه إلى الدار الأبدية ، فالتفت إليها ، وقال : ( ماذا تريدي يا كاسندرا ؟! ) ، فسقطت عل قدميه ، وهي رافعة رأسها إلى وجهه ، فسالت الدموع من أبيها ، ورفعها من ذراعيها ، وقال : ( تكلمي ، يا كاسندرا ) ، كانت تذرف الدموع ، وتقول ، ( اعرض على اخيل ثروة هائلة مقابل السلام والرحيل ، ليس فقط مقابل الحصول على جثة هكتور ) ،هز رأسه ، وتحرك ، وهي تشيعه بنظرات أسف ، لأنه لم يصدقها ، فتسلل خفية إلى خيمة اخيل ، وقابله وجها لوجه ضارعا ، طارحا فدية مقابل جثة هكتور قائلا :
بريام : أنا ملك طروادة اخترت أن أقبل يدك ، لتكون في موضع رضا ، يا لشقائي ! أتوجه إليك كأب بقلب مكسور ، صافي ، نبيل ، وروح تعاني العذاب ، ووجهي شاحب منذ أن قتلت هكتور ، وجثته لا تزال في العراء ، أريد أن أقدم له مراسيم الموت تليق به كأمير ، مع كل هذا أعرف إنك حانق على هكتور ، قتلته ، والانتقام لا ينبغي أن يدوم مع الموت .
اخيل : إن ما يحدث في الحرب أمر مروع ، فأنا أعاني من الهموم ، والغموم والدم المسفوح ، فلازال الشحوب المفرط يغطي وجهي لموت ( باتروكلس ) ،خذ الجثة ، وخذ ( برسيس ) معها .
وعقدت هدنة أحد عشر يوما بغية إنجاز مراسيم دفن هكتور .

ثامنا : تنبأ كاسندرا الرابع وحصان طروادة
الريح لا تسكن ، والأيام تمر على حصار طروادة ، فانجم يهرب والقمر يختبئ ، وشريعة الحرب خداع ، وعرفها الدماء ، فساءت أحوال الإغريق على اختراق حصون طروادة ، حينئذ يقوم اوديسيوس أكثر الرجال حيلة وذكاء ، بخطة تمكن الإغريق من الدخول للمدينة ، فيوهم الطرواديين بأن جيش اغاممنون انسحب ، ويتم صناعة حصان ضخم عظيم من الخشب ، ليدخل في جوفه أشجع المقاتلين الإغريق ، وعلى رأسهم اوديسيوس ، فمن المعتاد لا أحد يثق بكاسندرا ، وهي تصرخ : ( هذه خدعة يا أهل طروادة ، سوف لن تعرفوا الراحة ، فلا تدخلوه المدينة ، لأنكم ستكونون أول ضحاياه ، فمعلفه أنتم ) ، بل يصدقون العميل السجين الإغريق ( سينون ) الذي ادعى إنه نصر من الآلهة ، فهذه هدية السلام ، وإن الحصان مقدس ، ويجلب حماية الآلهة ، وفي خضم فرح الطرواديون بالانتصار المزيف يقومون بإدخال الحصان الذي وجدوه من بقايا جيش اغاممنون ، وعندئذ يأتي الليل ، ويخرج الجنود من الحصان ليستولوا على أبواب المدينة ، ويفتحونها للجيش الذي يعود سريعا ، فيعيث فسادا في المدينة حتى أصبحت تحت سيطرتهم ، فنثرت شرر النار في دوي هائل ، وعم عياط ، وزحام ، واصطدام ، وتدافع ، والتحام بين الجنود ، وتلك شعلات متوهجة ، ودخان يتصاعد ، والعالم يضيق ، على الطرواديين ، في ضوضائهم ، وضجيجهم ، وآلاف النيران تحترق في المدينة ، وآلاف السيوف تطعن من الخلف ، وكاسندرا تتمتم : ( يا لكم من شعب ، كيف تتجاسرون على تدمير طروادة ) ، فهي شاحبة واقفة بعيدة مهمومة وحدها بين الخرائب ، أواه ، كم قلبها ينقبض ! حائرة ، فزعة ، إلى أين تذهب ؟! دمرت طروادة ، الرجال قتلوا ، النساء سبيات ، البيوت تشتعل ، يا للويل ، لقد قضي على طروادة ، لتهرب الفتيات بعد أن ارتعن من الخوف ، إلى أين يهربن ؟! من يستطيع الهروب ؟! صراخ في يوم الموت والقتل ، طروادة المخربة ، ليلة من ليالي طروادة لما سقطت ، الاضطراب محتدم ، والصراع محتدم في ساحة المعركة ، فهذا باريس يرمي بسهمه ، ويصيب أخيل في وتر كعبه ، ويقتله ، وهو يبحث عن (برسيس ) لئلا تقع في يدي جندي إغريقي ، ونفسه باريس يتلقى سهم من سهام هرقل التي يطلقها ( فليوكتيتس )، ويذهب إلى زوجته ( أونونة ) فترفض معالجة جروحه ، ويموت ، ، ولكي تكفر عن ذنبها تنتحر ، وهذا مينلاوس يحرر هيلين من زوجها ( ديقوبس ) ابن مريام و هيكوبا الذي تزوجها بعد مصرع باريس ، غير أن ( مينلاوس ) مثل به ، وذبحه لدى سقوط طروادة .
لهيب النار يقفز من بيت إلى بيت ، وينتشر في طروادة ، ومن يهرب يشاهد الدخان والحرارة والنيران ، المتواثبة ، وبفعل الرياح دمرت الأسوار ، فزع ، ورعب أزاء من يشاهد ، وهذه كاسندرا إنها تتهاوى في مكانها ببطء كما لو أنها صنم ، ليس فيها حياة ، بنظراتها المتحجرة أشبه بعين ميت ، لم تغلقهما بد ، فعرفها المقاتل الإغريقي ( ليزر أجاكس ) فنزل إليها ، وأغتصبها في الخراب ، إلا أن اغاممنون أخذها منه ، فصارت سبيته ، وقيل أن سفينة ( ليزر أجاكس ) قد تحطمت أثناء العودة لوطنه ، وعاقبه إله البحر ( بوسيدون ) فأغرق سفينته ، وأغرقه لغروره ، فمات في البحر غريقا .

تاسعا : تنبأ كاسندرا الخامس ومقتل اغاممنون
أهوال فضيعة في مدينة الاشتعال طروادة ، والمعذبون من الطروادين لا أمل لهم في النجاة ، وجنود الإغريق يسحقون كل شئ ، ويستأنفون الطريق في السحق ، وفي الزوايا يستكشفون الكنوز ، أهوال فضيعة حتى أصبحت طروادة جرداء في خراب ، أية حماقة هذه ! حينما يمسكون بالهرب ، هالة من المجد تسقط ، طبائع تحد آثارا لا تمحى من شيمة الجحيم بذاته ، الحق أن الإغريق أفرطوا في التدمير والقتل ، وأظهروا كل شجاعتهم في الذبح ، لأن اللهيب يغريهم ، يا للفضيحة ! كل هذا لا ينتسب للبشر ، الاضطراب ، والقهر ، لا يمكن تحمله ، أما ما بقي من ثروات فوزعت بين الأبطال ، بعد أن يقترع عليها ، فكانت من غنائم اغاممنون كاسندرا ، وهي تنظر إلى أحمال الذهب مع اغاممنون ، فقالت له : ( دعني واذهب أنت وحدك إلى بلدك ( أرغوس ) انك تحمل قاتلك معك خلف باب قصرك تلتمع شفرة البلطة ، فواجهها وحدك ودعني هنا فخير لي أن أهيم في خرائب مدينتي من أن أقتل في دهليز قصرك ، سينتقم ابنك ، ولكن ما قيمة الانتقام إذا وقع الفأس في الرأس ، وفات الأوان ) فدار عنقه بحثا عن الكنوز ، وهذا ما حدث له ، وهو يحرك رأسه صوب الغنائم ، وهو في نزاع مرير مع القرعة ، وكانت نظرات معادية حادة لكل شئ طروادي ، وهذا ما يليق به كغازي ، ويسره الأمر ، ويبدو له طبيعيا ، فبعد العشرة من السنين التي خاضها قائدا للجيوش يعود إلى مملكته ( ارغوس ) مستصحبا معه كاسندرا التي اغتصبها في السفينة أثناء العودة لوطنه ، وهي تقول :
كاسندرا : أنا أفزع من رؤيتك ، أنبذك ، وأنت تشعر بالنصر ، والفخر على أميرة طروادية .
اغاممنون : أنت بثوبك الطويل المحتشم تثيرين الرغبة المحمومة .
كاسندرا : تأمل نفسك بعمق واستبصار ، أنت تنعم بفريستك كما لو هبطت عليك من السماء .
اغاممنون : إلى من تشكين الآن ، من يعيدك إلى الخراب ، طروادة أصبحت في الذكريات .
كاسندرا : لقد انتزعتم النصر بمكر ودهاء ، وهذا يدعو إلى العار .
اغاممنون : الحرب كانت لذة دنيئة ، والمحنك فيها سيطر في النهاية عليها ، وسقوط طروادة لم يكن بالأمر الهين .
كاسندرا : تبختر صامتا ، وعش لهيب النشوة الدائمة ، ولأعش أنا ألمي الذي يغلي في صدري ، نجمتنا اللامعة ، بذرة الحياة طروادة قد نفذت السهام في ظهرها ، والرماح في صدرها ، سحقت للابد ، يا ويلاه .
اغاممنون : عصفت بروقنا فوقها ، وهوت تحت الأقدام ، واعدم كل شئ ، ألم يكن هذا انتصار ؟!
كاسندرا : المكر والخديعة …وستهبط البلطة الحادة الفضية عل رأسك حين تطأ عتبة باب قصرك.
وقفت كاسندرا قرب سياج الفينة ، وهي تنظر إلى الأمواج ، والويلات حدثت لها ، وأودت بأرواح غفيرة من الأبطال البواسل إلى الموت ، والأولمب في خلافات الآلهة ، وحروبهم ، كم تمنت أن تبقى في طروادة المخربة ، وهي تتنبأ بموت اغاممنون فزوجته ( كلوتيمسترا تعد العدة مع أخيه ، عشيقها ( أوجست ) على قتله ، وزوجته لا تريد أن تراه ثانيا عجوزا في مملكتها ، فلا يحميه صولجانه الملكي ، وأوشحته ، وكاسندرا كانت تفكر في نفسها إنها ستشيخ في بلد غريب ، وهي تغزل على النول ، لا، سيكون مصيرها البلطة الحادة الفضية أيضا ، مثلما ذبح الإغريق الطروادين ، كم حاولت أن تقنع والدها بريام بتنبؤاتها الصادقة ، لم تفلح على الإطلاق في ثنيه عن عزمه بقبولها ، لأن الإله ابولو انتقم منها ، لأنها لم تستجب إلى حبه ،لم تستجب إلى لهيب النشوة ، فكان حبه مثل هاوية صخور ، لا يمكن الإستقرار عليها ، أهي المذنبة بكل ما حدث ؟! كان هذا السؤال يعذبها عندما رست السفينة في الميناء ، ونزلت مع كنوز طروادة إلى الأرض ، وسارت خلف اغاممنون ، وهي متوترة ، خائفة ، بعد أن تنبأت بمصيره ، فما أن وطأت قدم اغاممنون عتبة باب القصر هبطت البلطة على رأسه ، وقتلته ، تسمرت كاسندرا في مكانها لأنها تعرف أن دخولها بوابة القصر الكبير ، يعني أن البلطة تنتظرها ، وطالما حذرت اغاممنون ورجته أن لا يربط مصيرها بمصيره ، خرجت كليتيمنسترا من القصر ، وخاطبت كاسندرا التي تسمرت في عربتها أن تنزل ، وتدخل القصر ، القصر الذي يحفظ أسرار التاريخ ، لم يدم ذلك للأبد فالتاريخ يتكرر بمعاناة ، فها هي أبنة بريام و كليتيمنسترا والتي تدعى ( إلكترا ) تشجع أخاها أوريست على الانتقام ، فيقوم بقتل العم أوجست ، والأم كليتيمنسترا ، فتظل تلاحقه ربات العذاب على جريمته قتل الأم ، إلا أن اثينا تتدخل ، وتعفو عنه ، ويزال العقاب ، إلا أن عقاب التاريخ عما كل ما حدث لا يزال .