| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

حمودي عبد محسن

 

 

 

الأحد 7/9/ 2008



صورة جدي

حمودي عبد محسن

ينتابني اشتياق لا حصر له في مدينة النجف كلما وقفت ، ونظرت إلى صورة جدي المعلقة في الهول ، وهو بعمامته ، ولحيته البيضاء ، وبعينيه السوداويين ، وكان ذلك بعد أن توفى ، وأنا على صغر ، ولهذا كنت أتوق إلى ذكراه دائما ، وكانت صورته تكاد تنسيني ضجر ساعة الشروع بالتعب الذي أحس به في بعض الأحيان ، وساعتها أتبسم بغبطة ، وأقول مع نفسي : أننا فقدناه !
كان وجهه يلهمني ودا رائعا وعظيما ، وأنا أحاول أن أحدد تعبير نظرته الغير العادية ، وكأني لم أر أبدا نظرة تتلألأ لامعة ، وتبث بي حنينا وتوقا ، وسعادة مجهولة . نظرة كالسحر المرتعش في انبلاج فجر غامض ، وقتها يأخذني شرود لا مثيل له ، لأغوص في أعماق صورته ، أعانقها بعيني ، وروحي التي تضج بضجيج موت تفر منه شكوى جامحة ، كتومة ، بعدها أسبر أغوار السنين التي مرت ، وأنا الآن في الخمسين من العمر ، فعبثا حاولت التمرد على حلمي ، فهو أقوى مني بكثير ، وليس في قدرتي التحكم به ، ولا تجاوزه ، فهذا يتناقض مع وقفتي التي أنزلت بكل شخصه من إطار صورته في أعظم تأمل ، تخاطبه أفكاري بلغة الماضي ، لغة لا تحدد ، بلا صوت ، لغة تقلقني ، إنه الماضي على الدوام ، فإنني أرى الماضي موجودا على الدوام ، رغم غيابه ، رغم أنه لا يعود ، لكنه ليس ضائعا ، أنه متهيب ، محدث ضجة هائلة في داخلي ، كان جدي عاكفا على نفسه ، حنونا ، متواضعا ، صادقا ، وزاهدا ، له نظرة مرهفة ، يقول الشعر ، ويعرف أجناس الأدب .
كنت أستغرق في تأمله ، وأنسى نفسي عندما أتأمله ، وهو ينظر إلي كي أرى نفسي ، الصورة تتأملني ، وأنا أتأملها ، تراني وأراها ، وهي أشد وقعا علي ، تنبعث منها رائحة طيبته التي لا تضيع أبدا ، وهذا ما يعيد الشعور به لذاتي ، هكذا أعطيت نفسي فكرة التأمل ، وأنا أراه ، رغم المسافة التي تفصل بيننا ، والأعوام التي مضت ، ليست هي مسافتنا عن العالم ، المسافة ذرائع وانعكاسات كل الأشياء ، تتدخل عفوية معطرة في ارتجاف الهواء ، وهذا إدراك مباشر لكوننا ، وأنا أنظر إلى نفسي من الداخل ، وتمسك عيناي من الخارج بالصورة لأفتش عن طبيعة ، وكينونة ، وخصوصية جدي ، عيناي اللتان تتركان الرتابة اليومية في الحياة ، وتنظران روحانيا إلى وجوده الآخر على رتابة نفسي في مجرى أفكاري ، وفي نفسي ألفة لكل النواحي الآتية من حياة سائبة اليوم ، مملوءة بفيضان التماسك ، والحكم ، والملاحظة ، وفي قيادتها ، ورؤيتها بوضوح ، والتصاقها بالصورة ، الفتي يرى نورا مبهرا ، أنا وحدي أستطيع أن أرى جدي ، وهو مجهود لتعويض موته ، أراه بوضوح عندما كان ملفوفا بالكفن ، وأنزلناه إلى لحده في مقبرة العائلة ، كنت أبكي ، وأصرخ : ( جدي ) ، تلك كانت مواجهة بيني وبين الموت ، لا أملك سوى عيني اللتين من خلالهما أشعر بالموت وجها لوجه ، وهذه المواجهة كانت الخطوط الأولى التي ارتسمت في عيني ، وأدركت من هو جدي ، ومن أنا ، هذه الازدواجية قد أثرت علي كي أفصل بين الحياة والموت ، فكنت شاهد نفسي ، أتعذب ، كامل الاتحاد مع الموت ، لم أنجح آنذاك في رؤية نفسي كاملا ، بل كنت أنبش في داخلي كأن هناك جرح يعمقه نحيبي ، وهذا ما امتلكني ، وأعاد خلقي ، في تبادل عاكس في وجداني ، هكذا اندهشت من نفسي في عفوية محيرة كطفل ، ثم عدنا إلى البيت بعد أن دفنا جدي ، والنسوة في بكاء شديد ولطم الخدود ، وتمزيق الشعر ، كلهن في أسود الملابس ، وهكذا وضعت نفسي في مقابل نفسي ، واكففت عن البكاء ، وتظاهرت بالاستسلام مثل الرجال ، لأضع نفسي فجأة كشخص أمام نفسه ، أو كشخص أختلف عن الطفولة ، كان ذلك يفاجئني أن لا أبكي وراء اندهاشي ، أنني لا أرى جدي ، وقد أقنعتني جدتي أننا كلنا نموت ، فأنت ليس شخصا آخر ، أنت نفسك ستكبر ، وتصبح عجوزا ، وتموت ، هكذا اختارت لي لأرى نفسي ، نسجت عندي صورة شهيرة ، وامتلاك حقيقي في الموت ، عندها تملكني ضجر نقي ، وكرهت طعم الوجود بكل هدوء وفظاعة ، وأنا في انتظار الموت ، هذا هو المنظر الداخلي الذي صنع لي منذ الطفولة ، صنع حزني ، وغضبي ، وظلت تتناسخ في موت جدتي ، وأقاربي ، والقريبين لنا ، وقد أدركت بوضوح أن المنافذ قد سدت علي في التعويض عن جدي .
الآن في وقفتي كنت أحلم بعذوبة أن جدي يحيا في جنان مضاءة بشموس أبدية ، ندية ، برقراق ماء شلالاتها ، وأنهارها ، وهي موسومة بجمال أخاذ ، كل شئ منسق وشهي ، فاخر ، وهادئ ، زهور تمتزج بعطور أريج زهور ، دافئة ، تحمل نغمات تهب مثل النسيم في أوج الربيع .كنت أحلم بهدوء بال كأنني أنهض من عدمي واقفا ، أتحسس طرق ألف لغز ، وأودع ألف فجر ، وأنتفض ، ، أتورق متناثرا ، سابحا بألف أفق ، ووهم ، عالم ينفتح ، يبحث في الخلود ، يمتلأ قلبي بالضياء ، تحية للخلود ! هذا الحلم الدائم النداوة ، يعطر الجو بعطر يعبق سرا ، مختبئا في أعماق أبدية ، هكذا كان يمضي بي الحلم ، مرفوعا على كتف جدي بين الحشود بكفن أبيض ، ورأس محلوق كما تحملني دقات الطبول إلى ( خيمكة ) في كربلاء ، فأزجي بشراعي ، بضجيج الأصوات : ( يا حسين ، واحيدراه ) أشق الأيدي المرفوعة ، وأجوب بعيني فوق آلاف السيوف المرفوعة ، النازلة فوق الرؤوس ، المدماة أكفانهم ، تهدهدني الأصوات ، بلا آلام تدفنني في سرير عابر ، كان يحملني جدي على كتفه ، ويتجاوز الحشود البشرية ، وافجر لحظة انتصار على الخوف ، لم أبك ، وأنا طفل صغير ، أنه زمن الإعلان عن شق الرأس (التطبر) ، عادة عند جدي ، فجر ملتهب ، عتيق ، جائع إلى الثواب ، وتدمير الذات ، كانت الباب الضخمة مفتوحة على مصراعيها ، كنت مفتونا بطلعة الشمس حينما أشرقت لتعلن خبر طقوسها وتفاصيلها اليومية ، كربلاء تفيق بالعالم المدمى ، تمزق الستار ، وتوهب النفس كمقياس للزمن ، في تجاعيد الصباح الذي كانت له فتنة أكبر ، حين يهدر بحر الحشود البشرية ، متحلقة حول الباب ، عالم ينفتح ، يبحث عن الخلود ، ورغبة الناس بحياة الثواب ، تسكب الطبول الهمم ، والشجاعة ، وليس هناك آلام خرساء في شق الرؤوس ، فرصة سانحة لعاشوراء في الشوارع ، والساحات ، و الأزقة ، والبيوت ، أرى السيوف لامعة مضرجة بالدم ، جريئة النفوس ، تختزل الزمن الأقصى ، انتصارات حزينة ، بأنفاس أخاذة ، ترانيم الأهازيج ، وجدي يندفع نحو حاملي القامات الصغيرة في ( خيمكة ) ، وقال لأحدهم بصوت جازم ، صارم : شق رأسه بثلاث ضربات ، ومسك يدي إلى صدره بقوة ، وهو يقول : ( يا علي ) ، واستجاب إليه فشق رأسي بثلاث ضربات ، لم ينفجرا جفناي بالدموع ، ولم أسبح بالألم ، فسال الدم على وجهي ، فداعبته بأصابعي ، والطبول تدوي ، وكنت هادئا أنظر إلى ( المتطبرين ) باندهاش ، خرجنا من الباب ، وجدي يبكي ، ويصرخ صرخة عظيمة: ( يا حسين ! ) فامتدت أيادي النسوة المتلفعات بالسواد ، وتحمل قطع من قماش أبيض ، لتمسح الدم عن وجهي ، لم أر في يوم من الأيام أن جدي يبكي ، وهذه المرة الأولى التي رأيته ينحب ، فقبلت عمامته البيضاء ، وأغرقتها بالدماء ، ذهبنا برحلة قدسية بين العزاوات ، وجدي حافي القدمين ، ، وأنا حافي القدمين ، أنزلني عن كتفه وهو يقودني من يدي ، فإن عمق المشهد التي رأيته بعيني ، أصبح رمزا لي ، وتوحدت فيه الرقة ، والخوف ، وحدة التناغم مع إيقاع الطبول ، وانسجامي مع تلك الوجوه التي يغطيها الدم ، وجوه جريئة تريق الدماء من رأسها ، كنت أهيئ نفسي لشيء آخر .
كنت وسط حشد هائل من البشر ، ينساب ، ويندفع مرعدا نحو مرقد الإمام الحسين ، مطلقين صيحات : (واحسيناه) ، كان جدي يتلو دعاءات مع نفسه بلغة رصينة ، لطيفة ، أردت أن يكون بيننا كلام ، وأنا أحاول أن ألتقط كلماته وأحتفظ بها ، وأشرد في حلم بهن وسط عالم من البشر المكفن بأكفان بيضاء ، مضرجة بالدماء ، والسيوف تجيش في الهواء ، وتسقط على الرؤوس ، أعجز عن وصفها ، وحل صمت وسيع بيننا ، كنت أنا الجانب المحزن ، التي ينظر إلي ( المتطبرون ) ، وأنا ألقي بعيني في هذا المشهد غير المألوف ، الذي أرعبي ، واتقد ذهني إليه ، ثم رحت أنصت إليه من جديد ، وهو يردد الدعاء ، ويهزني صوته ، فيه نغم ، ورقة ، كأنه يهدئني من أوجاعي ، وهو يأخذ بيدي ، وأنا أصعد نظري في عالم خاص ، أعجز عن فهمه ، أنا لا أعرف لماذا ينظرون إلي ؟! إلا أنني كنت أحس بدفء يد جدي التي تمسكني من يدي ، وأتحسس أفق واسع .
صعدنا السيارة العائدة إلى النجف ، فأحسست بتعب شديد ، كان النعاس يغالبني ، فاستغرقت في النوم ، لقد حلمت بهم ، حوافر جيش الشر تمزق الصدور البريئة ، تحرق الخيم ، فانطلقت من أعماق رقادي صرخة مدوية : ( وا حسيناه ! ) ، قبلني جدي فأحسست بدقات قلبه ، وأنفاسه ، وهو يقف ظل ليحميني من جيش الشر ، وإذا بالسيارة تقف في النجف ، فننزل منها ، وسرنا إلى الميدان ، ثم إلى أزقة الحويش ، فاستقبلتنا أمي ، وهي تلطم خدها ، وتقول بصوت وقور : ماذا فعلت به ؟! لم يرد جدي بل ذهب مباشرة إلى غرفته ، ونزلت أنا إلى بيت النساء ، فتجمع حولي الجميع ، وهم يسألوني بصوت واحد :
ألم تخاف ؟!
لا… لا…
غسلتني والدتي بماء دافئ ، ونشفتني ، ثم أبدلت ملابسي بأخرى ، وذهبت إلى الفراش ، فاضطجعت هادئا ، وخلدت إلى النوم ، وحلمت مؤخرا : الشمس تتجه نحو المغيب مختفية ، إن حدتها قد خفت ، وتضاءلت ، وجيوش الشر تقتل أحفاد رسول الله ، ناهبة ، مشعلة النيران ، فتحت عيني ، أحملق في السقف ، كنت ساهيا غير مهتم بشيء ، فنهضت ، وغادرت الفراش ، وأنا أسأل أمي :
أين جدي ؟!
…في غرفته ، ينبغي أن تنام …
صعدت سلما ، واندفعت بهدوء إلى الباب، وبهدوء فتحت يدي الباب ، ومع ذلك أصدر صريرا ، خافتا ، وما أن رآني حتى قال بفرح : ( ادخل ) ، وحالما اقتربت منه أجلسني إلى جانبه ، وواصل قراءة القرآن بعد أن تفحص رأسي ، وهو يردد : ( ستطيب عن قريب ) ، وراح يشرح لي السورة ، فتمددت على السجادة ، أغمضت عيني ، وأنا أردد : ( أنا تعبان ، يا جدي ) .

ألقيت نظرة سريعة حولي لم أجد أحدا من أهلي ، فخرجت من البيت إلى الزقاق بعد أن أحكمت سد الباب ، وصورة جدي تتراقص في عيني ، فقلت مع نفسي : لأذهب في زيارة مرقد الإمام علي .
 

6 \ 9 \2008
 


 

free web counter