| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

حمودي عبد محسن

 

 

 

الثلاثاء 5/3/ 2013

 

رواية في قيد الكتابة

حب في ظلال طاووس الملك
فصل : الولي الصالح في بعشيقة

حمودي عبد محسن

حكي أن كان في سالف الأزمان قيصر أحد ملوك روما الأول مولعا في اقتناء الطيور الجوارح، وهذه عادة من عادات الملوك الأوائل، إذ هم يتباهون بقدراتها على ملاحقة الطريدة واقتناصها، وما تتمتع به من حسن هيئة وبهاء ألوان، وفطنة وذكاء، وإنها مطيعة وفية لمليكها، وكانوا أحيانا يتبارون بها وهي تتلقف القنيص في الهواء بين مخالبها الحادة ونقرات منقارها المدبب، وتعود مزهوة مرفرفة لتحط على أيديهم بعد أن بذلت جهدا متفانيا في الانقضاض على الفريسة، وقد نالت كل ما يبتغيه مرسلها.
فذات يوم قد بان ضوء الصبح في طلوع بعد أن تعرى الليل من ظلمته، فغدا القيصر يبغي الصيد في ضوء الصبح، فرأى باشقا أقمر اللون، بل أقمر من القمر، سريع الطيران، خفيف الجناحين، يزج نفسه صاعدا نحو السماء، وهو يرد جناحيه ردا، ويسمو إلى ذروة الصعود، وفجأة إذا به يضم جناحيه إلى الوراء، ويلف طيرانه هابطا منقلبا على ظهره، ويأوى شجرة ملتفة لها شوك ودغل كثير، فأعجبه ذلك ، فقال:
ـ هذا طائر نادر عجيب !
أمر بجمع أنواع طيور الباشق الجيد والمحمود بمختلف أخلاقها وأمزجتها وألوانها، ويأتوا بها إلى مجلسه، وهذا ما كان في قديم الزمان، وراح القيصر يمتحنها ويجربها، وجاء دور الباشق الأبيض، فعرض إليه حية، فوثب عليها مثل برق شهاب، فاندهش القيصر، وصار مأخوذا بفطنته، تائها في حسن هيئته، عندئذ أمر أن يحملوه إلى العراء، ويضعوه على مجثم من خشب، وإذا به ينطلق في الهواء وهو يحرك رأسه يمينا وشمالا، باحثا بحدة نظره عن طريدة، وكان هناك أرنب قد مر تحته، فهبط عليه بلحظة خاطفة، ولم يتركه إلا وهو مخضب بالدماء، معفرا بالتراب، وعاد إلى مجثمه متباهيا مزهوا جبارا مطيعا ظافرا، ثم أطلق مرة ثانية ، فإذا به يرمي بنفسه في غوطة ماء، ثم يحلق ثقيلا في الهواء، ويرمي نفسه على أرض ترابية، ويتمرغ في التراب، ويحلق من جديد حتى وقع على هامة غزالة ثم راح يصفق بجناحيه على عينيها فملؤهما ترابا، فلم تر الغزالة أين تذهب، ولم تقدر على الفرار، فسكنت في مكانها مرتعبة بينما الباشق الأبيض عاد كما هو مزهوا جبارا، فقال القيصر:
ـ هذا طائر ملوك !
فردد مرافقيه بصوت واحد:
ـ أنه طغرل يقتنص في الهواء وعلى الأرض.
هز القيصر رأسه، وقد بدت على وجهه علائم الرضا، وهو يقول:
ـ طائر كريم النسب، نبيل المعشر.
هكذا تآلف معه القيصر وهو يتفحص ريشه القليل وعينيه الحمراوين وعنقه الطويل وساقيه الطويلين وفخذيه المسرولين بالريش وأصابعه المتفرقة العارية ومخالبه الحادة السوداء، وصار وفيا مطيعا لا نظير في ذلك، متميزا عن بقية طيور الجوارح التي بحوزة القيصر، هذا القيصر الذي أراد له أن ينشأ في الطبيعة ، فأبقاه مع أنثاه في شجرته لتكون له مأوى ومسكنا ووكرا التي سقفها طغرل تسقيفا جيدا يقي أفراخه من البرد والمطر في الشتاء وحر الشمس في الصيف، وذات صيف فرش بيته بالريحان وهو ينظر إلى أفراخه التي ظهرت عليها قوادمها، فصوب نظر أفراخه إلى شعاع الشمس فثبتت عليه، حينئذ تحقق أنها أفراخه، لأنها لو حاد نظرها عن أشعة الشمس لاكتشف أن أنثاه لم تكن محافظة له، وأنها كانت مؤاتية غيره، حينئذ سيكون مصير أفراخه الموت، وسوف يضرب أنثاه الزانية، ويقتلها ، خاصة وإن أنثاه تبيض من كل طائر يغشاها، فتكون الأفراخ ذات أخلاق وأمزجة الذكر الذي غشاها.
امتلأ طغرل فرحا، وهو يأتي بالغذاء إلى أفراخه، ويطعمها من منقاره، وعلمها أن تتجاوز الخوف والقلق والذعر، وأن تكون قوية مستأنسة لا مستوحشة، وعاش طغرل وفيا للقيصر، وكان القيصر عادلا مع جنوده، ويوزع الثروة بالعدل، وأحب العمران وتشيد القصور وفتح قنوات الري، وأسس اشبه ببرلمان لإصدار قوانين البلاد إلا إنه لم يكن عادلا مع العبيد الذين كانوا أسرى الحروب، فتعرض الكثير منهم إلى الموت بالأعمال الشاقة أو المصارعة الوحشية التي لم تكن إلا ترفيه عن النفس الرومانية ، وقد خاض حروبا عديدة تارة مع بلاد فارس، وتارة ضد الإغريق، وتارة ضد هانيبال الذي وصل إلى مشارف روما مستخدما الفيلة عابرا جبال الألب بها في الشتاء المثلج، وقد كبد الرومان خسائر فادحة غير أن ذلك لم يدم طويلا في المعركة الحاسمة قرب قرطاج التي سحق الرومان جيش هانيبال، ففر الأخير إلى مصر، وقد اختفت آثاره، ثم تواردت أخباره أن الرومان قتلوه، ولم يكتف الرومان بهزيمة جيش هانيبال بل نهبوا قرطاج، وفتكوا بالناس واغتصبوا النساء ومارسوا أبشع أنواع القتل، تلك كانت جريمة لا تغتفر وهم يحرقون قرطاج ويدمرون مينائها الشهير. حينئذ صار الرومان سادة البحار وفرضوا سيطرتهم الكاملة عليها.
وفي هذا الوقت هرم طغرل، وثقل جناحاه، وضعف بصره، وشاعت أخباره بين الملوك أنه إذا انقض على طريدته ولم يأخذ بها فإنه سوف يتركها لتنجو بنفسها، ولم يحاول الكرة مرة ثانية، وإنه لا يقترب من فريسة صيد طائر جارح آخر، ولا يقترب أيضا من فريسة مقتولة أو طائر ضعيف ولا يأكل الميتة، ويأكل الحية إلا رؤوسها، ويأكل الطيور إلا قلوبها، وإنه ذا اشتكى من كبده ينقض على طائر ويأكل فقط كبده ، وبذلك يتعافى، وهو يصطاد فريسته وهي طائرة وهي على الأرض، فلقب بالباشق النبيل أو طغرل الحر. وكان يجدد قوته أن يلتمس غديرا، فينتف ريشه القديم ليعود له ريش ناشئ جديد إلا أن ذلك لم يدم طويلا، فقد عجز عن النهوض، فصارت أفراخه تحمله على ظهرها بعد أن أظلمت عيناه، وصارت تعوله إلى أن مات.
وذات يوم كان القيصر يفكر ويتفكر في غزو بلاد فارس لكن الحروب أنهكت جيوشه، فعدل عن ذلك، فتذكر ذكاء ابن طغرل، فأرسله هدية إلى كسرى، وقد كتب إليه خطابا، وهو يكتم في داخله سرا، وجاء في خطابه:
ـ هذا طغرل ذو مخالب ومنقار، شريف النسب، عظيم السلاح، لمليكه خاضع غير مرتاب، يأنس الملك بمخلبه المعوج، نظره دائما يتأجج.
اعجب به كسرى لحسن هيئته، وشدة ذكاءه، فجوعه ليصيد به، وهذا كان الخطأ الفادح الذي ارتكبه كسرى، فطغرل لم يجع يوما عند قيصر، وقد اعتبر هذا التجويع إهانة ليس له فقط بل لقيصره، ولذلك بغفلة من كسرى وثب على صبي من حاشيته، وقتله، فقال كسرى كلمته المشهورة:
ـ غزانا قيصر دون جيش.
وشاع هذا الخبر أن قيصر صاد كسرى في قصره دون جيش غير أن الباشق الأبيض أو الطغرل الابن لم يرجع إلى القيصر ولم يحلق في أراضي الإمبراطورية الرومانية خوفا أن يكون قد أغضب القيصر بتصرفه، وقد يكون سببا في نشوء حرب طاحنة سيكون ضحيتها الأبرياء، لذلك هام في أجواء الدنيا، وصار سيد الفضاء، صبورا مغرورا بنفسه، لا يخاف الرياح التي تحرك الغمائم، ولا يخاف البرق والرعد التي منها تأتي الصاعقة، فتصعق وتحرق وتهلك حتى صار يركب البرق والعاصفة الهادرة بصوتها المرعب، ويركب السحب الداكنة التي تنحني لها هامات الأشجار تحت سوط الرياح، وهو يطير في الريح والبرق والرعد حتى صار منزله حافات الجبال العالية، وذات يوم لم يستطع أن يحلق تحت المطر، فاختار له بيتا في جبل ، وكان ذلك جبل بعشيقة أو وادي من وديانها، فمن هذا الباشق جاءت تسمية بعشيقة لكن الكثير من الباحثين والمؤرخين لم يتفقوا مع هذه القصة، واعتبروها أسطورة من صنع الخيال خاصة وإن بعشيقة أقدم من تاريخ القيصر وأقدم من الإمبراطورية الرومانية، لذلك اعترضوا بشدة أن تكون بعشيقة جاءت من بشق أو بشك، وقدموا دلائل مهمة وكثيرة سواء تتعلق في علم الآثار أو المصادر التاريخية الأساسية، فبعضهم يقول أن بعشيقة كلمة أرامية من كلمتين بيث عشيقا أي بمعنى بيت الظالم أو من بيث شحيقي أي من بيت المنكوبين، وآخرون يؤكدون برأيهم أنها كلمة سريانية تعني الظالم أو المتسامح، والكثير يقول لو توقفنا على كلمة البعشقة فسوف نرى أن عيون المياه كثيرة في بعشيقة، وهذا دليل إنها جاءت من البعشقة التي تعني خروج الماء من انحساره لكن هناك من يميل إلى الرأي انها تعني نهاية الجبل أو الفتحة بين شقين او فتحة الوادي بين جبلين.
 
لكن البعشيقي يمتلك ذاكرة عجيبة تتوارثها الأحفاد عن التاريخ تتماثل مع المفهوم الحديث أي إنه ليس فقط يعني التاريخ سرد أحداث وأسماء مدن وملوك ووقائع حروب بل هو صراع بين شعب وحاكم منذ زمن سحيق، إذ هذا الحاكم الأخميني الفارسي الذي يحكم منطقة الأيزيديين من قصره في قلعة حصينة ما زالت آثارها باقية وتسمى ـ هوري ـ أو قلعة بني الأصفر كان يطلق عليه في البدء ـ دهقان ـ أي رئيس الأقليم بالفارسية غير أن مجموعة من ـ الهرابذة ـ وهم خدام النار كانت تحيط به، وتعظمه، فأصبح يدعى ـ مرزبان ـ أي ملك على ربع أرباع المملكة الأخمينية. كان ذلك في عهد ملك الملوك ( داريوس ) دارا الذي أسقط امبراطوريته الاسكندر المقدوني عام 331 ق. م، وراح يطارده في الجبال ثلاث سنوات، فوجده قتيلا غدر به أعوانه، فتملك الاسكندر غضبا، وقتلهم جميعا، وهو يردد: من يخون ملكه يخون الآخرين.
في هذه المرحلة العصيبة الجديدة من التاريخ ازداد الملك الأصفر غضبا، وصار غشوما، عظيم البطش، سفاكا للدماء، وفرض جزية عالية على الناس، إلا أن في قصره كانت ابنته التي تختلف عن طبائع وسلوك أبيها، وكانت تشمئز من تلك السلطة القمعية التي يفرضها على عامة الناس فكان اسمها شيرين حسناء في غاية الجمال، رقيقة القلب، صافية الروح، غالبا ما كانت تتأمل صفاء السماء من نافذة غرفتها، وتستغرق طويلا في ضوء القمر، وتغوص في حلم جميل فريد، وتصمت ساكنة في حلمها شغوفة به، مبهورة بضيائه، فهو في نظرها يبدد الظلام، وكم كان يعجبها أن ترى القمر يخرج بنوره من غمام أو سحاب عابر، فيلوح لها شعاعه باهر خلاق يهتز في عينيها، وينزل إلى حجرها، دائما كان القمر يأخذها إلى حلمها، خاصة وقد أصبحت ثمرة ناعمة، هادئة بارعة الجمال، بل ساحرة بجمالها الطاغي تهيم مثل طائر متوخية أن ترى وجه الشاب الوسيم الجذاب الذي ظهر لها في القمر.
وغالبا ما كانت تتابع القمر وهو يغير شكله، ويمر بمراحله، ونموه من هلال مثل زورق عنبر إلى امتلائه بدرا، ثم تنتظر حين يغيب في ليلة السرار، وتظل تنتظر حين يظهر من جديد، عندئذ تتنفس عميقا، وترى صورة الوجه الذي صار لها حبيبا دون أن تدري، وتظل تحلم به. أحيانا كانت تسقط السحب من نظرها، ويسقط الليل هشا، وتسقط أيضا الأنغام العذبة الرقيقة الوديعة التي تخفق في قلبها ، لذلك كانت تذرف الدموع، وتمسحها بمنديلها الأبيض الذي طرزته بزهور حمراء، لأنها أحست بنفسها أنها ثمرة دانية للحبيب أن يأتي ويقطفها من غريزتها الأنثوية المندفعة المحاصرة في سجنها القصر.
في صباح ذات يوم دبار من أيام الربيع كانت الأرض خضراء حيث نفثت البراعم في تفتقها المبكر أنسام الصباح لتزهو النفس ببشائر الشروق عابرة الشفق الأحمر بنور يهبط ببطء على بعشيقة التي ربما يعكر صفو سكونها صياح الديكة، ثم تسقط أشعة الشمس الباهتة على السطوح، وتتسلل أيضا ببطء من أعلا إلى عتبات البيوت، ومن قمم الأشجار إلى جذوعها، وتتلاشى قطرات الندى من تعلقها بأوراقها وتتساقط بترو، إذ في هذا الصباح المشبع بروائح الزهور التي تفوح من نفسها، وتضم وجه إليها وهي تروح وتجيء لتقطف الزهور من سيقانها، فها هي تزكي نفسها، وتقويها بعيدا عن أجواء سلطة الأب مندمجة بعالم آخر فيه الرقة والحلم، بل لتدخل عالما خاص بسحر جمالها، ليس فقط في خضرة مشبعة بالمياه، ولا عبير الأرض، ولا الألوان اللطيفة، ولا حتى معالم النهار الباهي المنير المتناغم مع سجع الطيور، وزقزقة العصافير، وخرير سواقي مياه منحدرة من ينابيعها لتروي الحقول والبساتين ... لا ... ليس كل هذا، ولا تنفس نسمة عذبة ناعمة من هواء أو الندى ينفض نفسه من أغصانه، ولا حتى النباتات الوسنى في حفيفها الخافت أو الدروب المشبعة بالرطوبة، فوقفت منذهلة مندهشة ليس بعيدا عن قصرها، وهي تمسك باقة زهور، وتنظر إلى طائر فضي لم تر مثله على الاطلاق وهو يصفق بجناحيه ويسجع سجع الحمام المطوق باللون الأحمر: شي ... شي ... شي ... ثم لم تمض لحظات وإذا أصوات عذبة من أعشاش الطيور تتعالى كما لو أن العالم بأسره يزغرد ويهلهل ويغرد في نغمة تناجي نغمة، وعلى حين غرة انبثق صوت من من تحت شجرة صنوبر ضخمة، حينئذ رفرف الطائر الفضي، واختفى بين ذرى الأشجار، وساد صمت عميق، فاستدارت شيرين وإذا بها ترى معجزة الزمان، ومماطلات الأيام حيث نفس الوجه الذي رأته في القمر والحلم، فاطرق رأسه استحياء لها، ولم ينبس ببنت شفة بينما راحت شيرين تتفحص مسحة من جماله فيه البهاء والضياء وعبق الرائحة إلا أن وقفته تجمع بين العزم والمحاسن، وظلت لحظات تبصره، وتنظر إليه، وكانت نفسها تميل إليه وتلائمه، تلك لم تكن فطنة منها، وقد استغرقت في النظر لتلتقط حقيقته، عندئذ سألته بكلام عذب رقيق:
ـ أنت تحاكي الطيور ؟!
فأجاب دون أن يرفع رأسه إلى السماء التي صار قرص الشمس في أعلى ارتفاع، وترسل أشعتها فوقهما كي تبارك هذا اللقاء البهيج بجلالة النور وعظمته:
ـ نعم ...
عندئذ صارت شيرين تنقل نظرها إلى أعشاش الطيور التي راحت أشعة الشمس تدفئها وتضمها بحنان، وهي تسأله بخفوت:
ـ ما أسمك ... ؟!
فرفع عينيه إليها، والتقت عيونهما ببريق سرور ونهم إذ كل شيء كان يتألق ويتلألأ في هذه اللحظة بالذات حتى صارت ظلال الأشجار تغطيهما فأخرجت منديلا مطرزا من جيب فستانها الأنيق الأصفر، ومسحت العرق الذي راح يتصبب من جبينها، ويضم عبق أنفاسها كأنها أرادت أن ترسم صورتها فيه، ثم مدت يدها وقدمت المنديل إليه، فتناوله من يدها، وهو يتفوه بأحلى كلمة :
ـ محمد ...
بينما كان قلب شيرين المرهف، المرتعش فرحا يدعوها أن تقول:
ـ أنا أسمي شيرين ...
ثم استدارت ومشت ببطء تاركة محمد يشيعها بنظراته وقد ثبت قدميه في الأرض كالوتد، وهي قد أعلنت عن حلمها الذي ضمرته وكتمته في قلبها، وتحوكه الآن بنفسها، وفي ذلك الأثناء كانت ترمي بصرها في جميع الاتجاهات دون أن تبالي من قد يكون أمامها بعد هذا اللقاء الذي أوغل في النظر.
 
فكانت شيرين تلتقي خلسة مع محمد حتى صارت تستأنس بقربه، وتستوحش لبعده، وذات يوم أدخلته من باب الحريم ليقابل أمها المتضامنة مع حبها في غليان البهجة العارمة، وإذا بالملك الأصفر يفاجئهم غاضبا متوعدا مهددا، ثم وجه كلامه إلى محمد:
ـ إني أدعوك إلى النزال.
فضحك محمد مما أثار إستغراب الأصفر، وهو يسأله:
ـ مم تضحك ؟!
فأجاب محمد بصوت خافت:
ـ لا أحب أن أقتلك.
فرد عليه الأصفر:
ـ أنا أحب أن أقتلك.
في صباح مشرق نادى منادي بأعلى صوته وهو يدق على الطبل:
ـ مبارزة، مبارزة، مبارزة.
حينئذ هرع أهل بعشيقة إلى الميدان تاركين أعمالهم، ولم تمض فترة قصيرة حتى لاح لهم الأصفر بين صفوف حراسه بكل سلاحه وعليه الحلل متنكبا فرسه الأبيض الذي عليه قطيفة من ديباج، ودعا مرددا:
ـ هل من مبارز ؟
فخرج له محمد من بين الجماهير المدهوشة يختال في مشيته متبخترا نحو الأصفر، متقلدا سيفه، يحمل درعه، وقد عصب رأسه بعصابة حمراء، وشد منديل شيرين في معصم يده، عندئذ اقتحم الأصفر عن فرسه ثم أقبل على محمد، وهو يقول:
ـ ما لك، ادن مني !
فاستل محمد سيفه من غمده، ودنا منه، وكذلك اخترط الأصفر سيفه، وهزه، ثم حمل على محمد، وضربه، فاتقاها بدرعه، فتنازلا وتجاولا فترة طويلة، واختلفا في ضربات، فلابد أن يقتل كل واحد منهما صاحبه أو يقتل أحدهما، إذ كان هذا تقليد المبارزة آنذاك، عندئذ ضرب الأصفر محمد فجرحه بيده، وقد انتهز محمد لحظة فرحه فضربه في عنقه فوقع الأصفر مخضبا بدمه دون أن يستوي قائما، فتركه ينوء، عندئذ هجم حراس الأصفر على محمد وهو يدافع عن نفسه بشدة وضراوة، وقد اتكأ على الصخرة المقدسة في الميدان التي كانت نيشان مقدس عند الأيزيدين، فثار أهل بعشيقة وقد أجلبوا وصاحوا واختلطت أصواتهم، فحملوا حملة رجل واحد بالعصي والمناجل والمساحي والفئوس والحجارة على الحراس، يضربونهم حتى نغضت صفوفهم وانكشف بعضهم منهزمين لا يلون على شيء، وقد وضع أهل بعشيقة حدا لغطرستهم وظلمهم، فأجهضوا عليهم وانطلقوا يتبعونهم، وهم يرددون:
ـ الآن حمى الوطيس.
ثم هجموا على كتائب الأصفر التي ولت منهزمة شدة هزيمة لا تنتهي هزيمتها دون الجبال، ولا يلوى أحد منهم على أحد، فأدركوا بعض من انهزم، فاشتدوا عليهم من كل جانب حتى ولى بعضهم هاربين مثل النعام، وقد تفرقت أوصال بعضهم من الرعب فارين من غير قتال، أجل فروا من الموت والقتل. لقد ثار الشعب، وكانت هذه بذرة نموذج أول ثورة ضد الظلم في كردستان.
كانت شيرين في قصرها يومئذ تمسك قارورة السم تارة تقربها إلى شفتيها وتارة أخرى يتملكها الصبر كي تتفادي الموت الذي تدعوها نفسها إليه، إذ كانت تلك لحظات قاسية عليها، أتحزن لمقتل الأب الفاتك الذي ركب طرق الظلم وابتلت به بعشيقة أم على مقتل الحبيب ؟! كانت وحدها تفيض عيناها من الدمع حزنا، ثم سمعت صراخ فرح، وأهازيج نصر وهلاهل نسوة عندئذ أدركت أن المساحي التي نطفت دما، والمناجل التي تقطرت دما رفعت إلى أعلى، رفعت طينة الكرم، وسلالة المجد، فبها نال أهل بعشيقة حريتهم، وبها ستشيد حياة جديدة جميلة لا ظلم فيها. هكذا في ذلك اليوم المشهود برق وجهها من السرور، وزينت شيرين بأحلى زينة، وزفت إلى محمد الذي نشر العدل والمساواة، وعم الخير والرفاه في بعشيقة، وكان مولى الزهد والصدق والخير لذلك سمي الولي الصالح. يوميئذ رقص أهل بعشيقة رقصة ـ كوفند ـ الخالدة فرحين وقد تحرروا من شر الحاكم الظالم، وقد ترقرقت دموع كبار السن من السرور حتى أخضلوا لحاهم، فلم يبق من محمد إلا أن يقول لشيرين:
ـ ناوليني يدك.
فناولته يدها وهي في فستان الزفاف الأبيض، وراحا يرقصان مع الشعب ـ كوفند ـ الخالدة.
 
هذه بعشيقة الآن التوأم الحقيقي لبحزاني سواء كانت في التاريخ أو في العادات والتقاليد أو في كثرة بساتين الزيتون أو في تعدد ينابيع المياه العذبة أو في كثرة المزارات بينما الجبل نفسه يحتضن ألفتهما ، فهو جبل بعشيقة وبحزاني.
هذه بعشيقة دار السلام التي تهللت فيها أسارير وجوه الأيزيدي والمسيحي والمسلم بفضائل التآخي والتفاهم والتكاتف والتضامن والتعاون من أجل عالم جميل.
 وها هي صغار النجوم تنهزم مغادرة، ولم يبق منها إلا أحسنها وأضوؤها وأكبرها، وكانت حشود هائلة تطوف حول مزار الشيخ محمد حنيفة فرحة مبتهجة مع أنغام القوالين على الدفوف والمزامير، وهي بهذا الطواف تقدم تقديرها إلى الولي الصالح، ثم بانت تباشير الصباح في ضياء في هذا الربيع الذي يتفتح فيه النبات وتزهر الأشجار وتورق النباتات ويهيج الحيوان للسفاد وتسيل الأودية بالمياه، إنه ربيع الطوافات المستنير الذي يردد فيه الجميع: (أتاك النور ينير بالنور، فالزمان متعطر والطائر نشوان، والنفس الانسانية متهللة بالأفراح)، فهذه بعشيقة التي أرضها وشي خصب ونسيمها معطر وماءها راح وطيورها قان لها طوافتها الخاصة المميزة. هذا اليوم الذي يحتضن بعشيقة بسرور، ويفيض براءة وخضرة، ويضم روض زهور تغرد فيها طيور، وأرواح طيبة تستنشق نسيما باردا يحمل روائح بهيجة، إذ لم تبق نبتة في أرجاء بعشيقة إلا وفاحت في شروق، فكانت بعشيقة في هذا اليوم الصالح يوم الجمعة الذي أعقب رأس السنة نسخة من رياحين وسرور فيه سجع بلابل وأنغام أوتار.
 فها هي هنار المتألقة الأنيقة بثوبها الأبيض وبحليها وزينتها، الرائعة الجمال مثل لؤلؤة بيضاء تقف وسط حشد هائل من النساء المتزينات في أروع الحلل والقلائد والأسوار، والملابس الرائعة، كانت هنار تمسك يد صديقتها أخت الآخرة التي كانت في ضيافتها، وأكلت معها عشية الطوافة السماط الطعام اللذيذ الشهي الذي طبخ داخل المزار من قبل ( مجيور ) المزار وخدمة ( كاريه )، وكذلك أكلت من السفرة ( السفخة ) التي قدمتها العوائل بعد أن تم إزالة الأغلفة عنها التي هي من القماش المخملي الملون يطلق عليه ( الجنانكي ) ، ثم ساهمت في الطقوس الدينية داخل مزار محمد التي امتدت إلى مطلع الفجر، وقد وجدت فرصة أن تكشف لأخت الآخرة سر الحب الأعظم، هذه أخت الآخرة السخية الكريمة مثل أهلها البعشيقين الذين يمتازون بالكرم والسخاء وحسن الضيافة، لكن هنار كانت متحفزة متوفزة، إذ لا تقدر أن تهدأ شعلة الحب المتأججة في داخلها، وهي تراقب ميرزا بين الصبايا والنساء والرجال والصبيان يرقصون بغبطة غامرة على أنغام عزف القوالين بنفخ الناي والنقر على الدفوف، ثم فجأة توقف العزف، وتوقف الرقص حينئذ أعلن بصوت جهوري عن رقصة ـ كوفند ـ التي فيها يحق للرجل أن يطلب أي فتاة لهذه الرقصة دون أن تعترض، فاندفع ميرزا سريعا إلى هنار ليتفادى أن يطلبها شخص آخر، فضحكت هنار، وهي تقول:
ـ تخاف ... يطلبني غيرك !
فأجاب دون تردد:
ـ لا ... أريد أن أرقص رقصة خالدة معك.
ولم تمض لحظات فتشكلت حلقة رقص طويلة مقوسة، ثم بدأ العزف، وتعالى صراخ الراقصين فرحا، وهم يدقون الأرض بأقدامهم، على أنغام الموسيقى التي صارت تدوي وتلهب الراقصين حماسا لا مثيل له، وأقدامهم تنتقل برشاقة فريدة واتساق متناسق مع صوت الناي ودوي الطبل المرتفعين اللذين يسيران حركة إيقاع الأقدام التي تنتقل مثل موج هادر من حركة إلى حركة ، وتدفع الراقصين ليسيروا على شكل قوس، كانت الأقدام تدق بعنف الأرض، ويد تمسك يد، وكتف يلامس كتف، فشعر ميرزا وهو في ذروة حماسه أن نهد هنار يداعب كتفه، وهو ينظر إلى وقع قدميها، وهي تنظر أيضا إلى وقع قدميه وقد أحمر وجهها وتصبب عرقا، كانت حركة حلقة الرقص مدهشة بانتظامها واتساقها، وكانت تشجع الراقصين تلك الأهازيج والهلاهيل الآتية من حشود النسوة، فصار الحماس يأخذ بالراقصين لتندفع من أفواههم كلمة: ( يعيش ) إذ صار أحدهم يشجع الآخر كما لو أنهم أرادوا أن يشقوا الأرض أو أن يقفزوا إلى السماء، وصارت الأجساد ترتفع وتنحني وتميل كأنها أمواج طوفان، وكان يقود الرقصة رجل مسن وهو يمسك بيده منديلا أحمر يهزه في الهواء، وذراعه تارة تنخفض وتارة ترتفع كما لو أنه قائد اوركسترا. آنئذ وقف العزف، وأعلن عن نهاية الرقصة، فشرعا هنار وميرزا يندمجان سوية مع مهرجانات عيد الطوافة، وهما يشعران بأنهما في أزهى سعادة بينما كانت أخت الآخرة تنظر إليهما بفرح غامر، وهي تردد مع نفسها:
ـ عسى أن يتوج هذا الحب بالزواج !
 



 

free web counter