حمودي عبد محسن

 

| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

 

الخميس 4/1/ 2007

 

 

جدنا الأول و طائر العنقاء

 

حمودي عبد محسن

نبينا الأول ، جدنا الأول _ أبو البشر آدم _ سميعا جيدا ، بصيرا جيدا ، هكذا كان يقف بردائه الأبيض قرب بيته الوحيد شرقي جنة عدن التي طرد منها ، متأملا نهر الفرات الصافي الهادئ ، مستأنسا بصوت جريانه ، و بأصوات الطيور المغردة ، العذبة ، و هو يتابع تحليقها ، رفرفة أجنحتها ذات الألوان الزاهية ، و دورانها أسرابا و أفرادا حول نخلته الشاهقة العلو في وسط بستانه ، تحيطها أجمل الزهور ، أطيب العطور ، نخلته شامخة برأسها ، بتاجها الأخضر ، مندمجة ببوابة السماء ، بنور شروق الشمس .نبينا الأول ذو وجه حزين تسترسل لحيته البيضاء على صدره ، ذو رأس أشيب يعانق شعره كتفيه ، و رقبته ، ذو يد متكئة على عصا تعبث في تراب الأرض ، ذو قدم قوية ثابتة في مكانها .جدنا الأول _ شيخ عجوز _ يشاء له أن يدرك أنه الأول بين الخليقة _ إنه خلق من تراب _ و إن نقيضه الأول إبليس _ خلق من نار _ لم يمتثل هذا لأمر الرب أن يسجد لآدم ، متحججا إنه لا يسجد إلا للرب ، إنه علوي نوراني ، و آدم سفلي ظلماني ، فهو موهوب من نار ، و النار مادة وهاجة ذهبية أرقى من التراب ، لعنه الرب ، طرده من الجنة لاستكباره ، لاستبداده برأيه ، ثم سمح له أن يدخل الجنة ثانية ، إلا أنه مسخ نفسه أفعى ، وسوس ، و أغوى حواء أن تأكل من الشجرة المنهى عنها _ شجرة الخير و الشر _ أكلت حواء من ثمرها ، تمردت على المحرمات ، و أغوته بدورها أن يأكل منها ، أكل ، و تمرد على المحرمات .آدم أبو البشر يشاء له أن يتذكر أن الشجرة تلك تشبه شجرة تفاح إلا أنها ليست شجرة تفاح ، كم حاول أن يغرس فسيلة تفاح ، يطعمها بغرين الفرات ، بالروائح ، بالبخور ، و يكحلها بسماد حيوان ، لم تنتج له مثل تلك الشجرة ، لم تنتج له مثل ذلك الطعم ، و تلك الرائحة ، و ذلك اللون ، ربما _ تراب الأرض يرفضها ، أو يخشى منها لأنها مغوية بطعمها برائحتها ، بلونها ، لأنها أجبرت حواء أن تحمل الخطيئة الأولى ، لأنها أجبرته أن يحمل الخطيئة الأولى ، لأن حواء ضلع من ضلوعه المعوجة ، جزء منه ، تكتنفها أعراض شخصيته الكلية ، فهي لم تكن واحدة فقط ، ثنائية من صنف دمه ، صنف طبعه ، مترتبة في اثنين ، و قد يكون في نوعين ، فيها جزء مشابه منه ، متحد مع تكوينها ، إنها خطيئته في تكوينه ، و مطابقته ، باختلاف الجنسين .تحسس آدم ضلعه ، ضلعه معوج ، مكسور ، يحس بانحرافه قليلا ، فقد سقط قبل عدة أشهر على الأرض ، و تمرغ وجهه بالتراب ، و غاب في ألمه ، في طبعه البشري ، نهض ليحدد مكان ألمه ، و يكتشفه بنفسه _ ضلعه معوج ، مكسور _ دهنه بزيت نباتات ، ليرفع الألم عنه ، و يتخلص منه ، و يشهد بذاته زواله ، و يخلع عنه العذاب ، ثم يضفي معنى ، و ضمانة لوجوده ، و يمنح وحدته شيئا من الطمأنينة .جلس على جذع يابس لشجرة ضخمة ، منهارة ، كي يشاء لنفسه أن يتذكر ، لكن ما هي تلك الشجرة ، تلك الثمرة التي لم تنتج الأرض شبيها لها ! الأرض التي كد عليها طول عمره ، التي كانت واجب وجوده ، لا لشيء سوى إنه ارتكب الخطيئة ، سوى أن جهد ذهنه عليها ، و كد بجسده من أجل بقائه المحض ، فلم تكن هناك إرادة منتظرة تنتظره سوى إرادته هو ، فأدرك مقتضى وجوده ، و فطن للظواهر التي أحاطته ، و صراعه مع الأرض التي سخرها لبقائه ، ليبقى نوعه البشري الذي وجد هو عليها بجسده ، بصورته التي لم يستطع أن يخلع نفسه عنها ، الأرض التي زال أحجارها ، و أشواكها ، و عوسجها ، ثم أنبتها بزرا ، و غرسها فسائلا ، فصارت أشجارا مثمرة ، أكل ثمارها بعرق جبينه بعد أن كانت جرداء في ظلام ، ثم في نور ، ثم ليل و نهار ، ثم سماء و مياه ، و قد أشرقت الشمس عليها نهارا ، و طلع القمر عليها ليلا ، و اغتمرت بالمياه ، إلا أنه لم يستطع أن ينبت شجرة دنيوية تشبه شجرة المنهى عنها في الجنة ، تطلع إلى جميع الأشجار في بستانه ، لم يجد شبيها لها ، حتى شجرة التفاح لم تكن شبيه بها .انحنى ، و اقتلع دغلا من الأرض ، و شاء له أن يتكلم : ( أيتها الأرض ، من ترابك خلقت ، و إلى ترابك أعود ! ) ، كان آدم قلقا على بنيه ، على نسله البشري .سحق الدغل بقدمه ، و نهض يتمشى في بستانه ، لم يكن في بستانه شيئا ما يشبه ما موجود في جنة عدن ، لا في أشجاره ، و لا في طيوره ، و لا في مياهه ، سوى نخلته السامقة ، كان وجوده في جنة عدن لذاته ، يستمتع بخياراتها المشتهاة من طعام و شراب ، وجود لا إرهاق للذهن فيها ، لا إرهاق للجسد فيها ، مضبوط هو في كله ، و كماله ، معزول ، لا بشر في جنة عدن ، كل شئ متيسر فيها ، جمال و بهاء ، كان راضيا في الكمال الأبلغ وجها ، الأتم خلقا ، أما حواء التي لم تلد له هناك أبناء ، فقد بلغ معها أوفر الكمال في المتعة ، كم ارتبكا عندما صوت الرب و هما يخفيان عريهما بأوراق التين بعد ارتكاب الخطيئة ! كم أخافهما جلدي الحيوانيين الذبيحين ليسترا بهما عورتهما بدلا من أوراق التين ! و هناك في جنة عدن سالت الدماء الأولى ، الذبيحة الأولى ، الآن يتشوق إلى ذلك الوجود في كماله ، و خيره ، ( آه ، لولا إبليس لتواصل جوهري ) ، هذا ما زمزم به ، و قد أيقن أن زلته لم تغفر ، و إن الآلام لا تحلها في حقه ، و حق ذريته ، ذلك حصل من إبليس الذي لا ذات له ، و نقصه في عدم السجود له ، ذلك حاصل في طبع الشيطان ، مقتضى بالغم الثابت في نفسه ، في لفظه ، في خلقه ، تخصه وحده ، غالبة عليه ، فشره مطلق ، و متواصل ، لا تصورا في تغيره ، فهو عاشق له ، يستلذ به كمرور لعلة وجوده ، ليس مثل شر قابيل مر بقتل أخاه هابيل ، تلك كانت أول جريمة قتل في التاريخ ، علته الأنانية ، و الألم ، تذكر آدم أشياء كثيرة ، تذكر عقاب حواء الذي تجلى بالآلام عندما ولدت الأبناء ، بآلام الدماء ، و الصراخ ، خاصة عندما ولدت شيث مباركا من الرب لخسارته هابيل ، إلا أن آدم أحس بالغربة في بستانه ، فهابيل طريد ، غائب على وجه الأرض ، و شيث غادر البيت ، و حواء ماتت ، و إبليس حر طليق ، ها هو يحس بانفصاله عن كل ما يحيط به ، فجأة رأى طيور البستان تصاب بفزع مفرح ، تغرد ، ترقص ، تحوم حول النخلة ، يالها من بهجة ، و جمال لا يضاهي ! لا يكاد آدم أن يصدق ما يراه ، أهو حلم أم دموعه التي طفرت من عينيه توحي له بشيء غريب ؟‍‍‍‍ لا لقد رآه في الازدهار و الخير ، في الأيام السارة ، في الفردوس ، إنه الوحيد ، المنعزل ، لا رفيق له ، لا يتزوج لأنه لا ذكر و لا أنثى ، يتغذى على العطور الذكية ، لم يتخاصم مع أحد و لا أحد يتخاصم معه من الطيور ، لا يخاف أحد و لا أحد يخاف منه ، لا يتسلط على غذاء طير أو على حبيبة آخر ، أليف مع الجميع ، محبوب ، يعيش بسلام مع الكل ، نقي لا يعرف الخداع ، معطر ريشه بأذكى الروائح ، و ربما _ كان ملك الطيور في جنة عدن .إنه بديع في شكله ، ضخم ، تزين رأسه ريشتان ممتدتان إلى الخلف كما لو أن أنسام الشروق تداعبهما ، تداعب ريش جناحيه الذهبيين ، المنتهية نهاياتها إلى ألوان قوس قزح ، تداعب ريش بطنه الأبيض ، ريش صدره البرتقالي ، ريش ذيله المزخرف بالسواد ، ريش عنقه الطويل الناصع البياض ، المطوق بألوان زرقاء كلون السماء في صفائها ، حرك ساقيه الطويلتين العاريتين ، و صوب نظره إلى الشمس ، ثم فتح منقاره الطويل الحاد كأنه يريد أن يكلم الشرق ، يكلم مصدر النور ، مصدر بدأ الحياة اليومية ، كان يشعر بسعادة لا مثيل لها ، إذ نظرة آدم كانت تلتقي بنظرته ، و تسرح كل النظرات إلى عالم الفردوس ، أراد آدم أن يكلمه ، و يسأله له : هل تتذكرني ؟‍ هل غبت ، و سترجع ؟ من مات ، و من سيرجع ؟ إلا أن الطيور تجمعت حوله ، تعانق ساقيه ، و ترفرف بأجنحتها قربه ، كما لو أنها تتوسل إليه ، تطلب منه شيئا ، أو لتحظوا باهتمامه ، حرك عنقه ، فارتدت الطيور إلى أغصانها ، إلى أعشاشها ، و صمتت ، فراح العنقاء يغني ، و يشدو ، تارة يصفق بجناحيه ، تارة يرفع ساقيه ، و يدقهما بسعف النخلة الذي صار يهتز ، و يرتجف تحته ، و تارة يهز عنقه بحزن ، إلا أن عينيه لم تفارقا الشرق ، عيناه اللامعتان البراقتان ، الحادتا البصر ، لم تفارقا النور ، كان غنائه عذبا جميلا يرتد إلى صدى خمسمائة عاما ، ألف عاما ، صدى الخليقة الأولى ، الخطيئة الأولى ، الموت الأول ، رفع جناحيه ، و صار يدقهما بقوة ، و سرعة ، فسقط سعف النخلة على الأرض ، ففرت الطيور من أغصانها ، من أعشاشها ، و سقط العنقاء على السعف ، على الأرض ، و سال دمه ، فسبح السعف بلون أحمر ، و سبحت الأرض بلون أحمر ، وهو يصفق بجناحيه حتى التهبتا نارا ، تثب إلى أعلى ، و التهبت النخلة نارا وهاجة متراقصة ، برتقالية ، حمراء ، تراجع آدم إلى الوراء ، و ابتعد عن البستان ، و ألسنة النار تتطاير إلى الفضاء ، و تتلاشى فيه ، و هي تأكل كل ما زرعه ، تحرق بيته ، تلحس مياه الفرات ، تقدح ، ثم تضرم قليلا ، تهسهس ، و تنبعث منه شرارات متناثرة ، تدحرجت قربه ، لم يعرف آدم سر هذه النار ، هل ستخلق جمرا ، و إنها ستخمد ، و ستخلف رمادا ، إنها فقط ألسنة نار ، ذلك شغل باله ، إذ لا مقياس لها ، لا نهاية لها ، كان خوفه يتراكم على ذريته بعد يوم الحساب الأبدي المؤلم ، الذي لا رحمة فيه ، لا رجعة فيه ، هناك الجحيم ، هناك العذاب ، هناك المصير ، يشاء له أن يتذكر الآن النار و التراب ، الخطيئة الأولى ، الموت الأول ، لم تدم حيرته طويلا ، و لا اندهاشه ، فقد خمدت النار ، فرأى الجمر المشتعل ، و تكاثر الرماد ، و اختفاء الدخان ، و انبثاق رأس دقيق ، و عنق أنيق ، و جناحان يرفرفان ، تبعدان الرماد عنهما ، ثم ساقان طويلان ، فظهر العنقاء خالدا ، مجددا نفسه ، يهز عنقه ، و يتبختر بمشيته ، ثم صفق بجناحيه ممتطيا الفضاء ، حائما حول آدم ، ثم هائما تجاه غروب الشمس ، تاركا الموت الأول ، لأنه لا يعنيه .

12 . 3 . 2005