| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

حمودي عبد محسن

 

 

 

الثلاثاء 2/9/ 2008



صورة القاص في متاهته

حمودي عبد محسن

فرش أوراقه على الطاولة ، وأقام قلمه ، ومد يده من أجل إشباع رغبته في الكتابة ، ترجى أن يحصل على القصة التي من أجلها جلس إلى الطاولة بالرغم من أن الفترة الأخيرة أغرق نفسه بالتفكير أن يكتب شيئا جديدا ، وهو بحاجة للكتابة التي تستبد به ، وتجذبه في حيرة وارتباك . مشهد موجع وحزين الذي يحدث في وطنه المنفى ، فحاله اليوم يختلف عن أي يوم آخر ، أنه في حالة الجزع يليق به الألم ، لم يكسب منه خطوة من خطواته سوى توبيخ الذات ، شئ عجيب ، المرء يولد ، وينشأ ، ويتحول ، ماذا يبصر على الورق ، وعلى قلمه المنزلق بالكتابة ؟! أثار ذلك دهشته ، ووقع في التشوش ، فليحاول تغير أسلوبه في الكتابة : أشرعة بيضاء منشورة فوق الأمواج ، حوريات البحر فرحات ، بشعر أسود منفوش مع الريح ، يغنن أغاني سامية ، محبوبات منذ القدم ، يحتفلن ، ويسيطرن على البحر الغائم ، الممتد ، المستبد بالأشرعة المجتثة المخيفة بتمزقها كذوائب شعلة منطفئة . أن القاص يهزأ من إله البحر ، فرأى السفن كيف تسبح ، كيف تزحف كأنها خرجت من العدم ، يا للأسف ، تحطمت السفن ، من يحمي البحارة ؟! حوريات البحر لم يردن الظهور ، وخشين الأضرار ، لم يكن لطيفات ، ناصعات البياض ، وهن مليئات بالشوق لحماية البحارة ، إلا أنهن متعطشات إلى غيرهم ، إلى ما لم يستطع البحار الوصول إليه ، لم يظهرن مثل النجوم الصغيرة التي تنشر الضياء ،مشهد موجع حزين ، ظهر ثعبان عملاق هاجم البحارة ، وانقض عليهم ، وقد أخفق البحارة أن يفلتوا منه ، فكان يطوق واحدا تلو الآخر ، فيستميت هذا في صراع دون جدوى ، فيعصره الثعبان ، ويغرس أنيابه في جسده ، ويرميه إلى أعماق المياه ، موت زائف ، ينتقص من قيمة وعظمة ، ومجد الإنسان ، ومن شهرة أبطاله ، ومن خرافة قديمة ، أينما اختبأ يلاحقه الثعبان ، وتتجسد آلام الاعتصار ، ووخز اللدغات ، فيبث الرعب في روح القاص ، أن هذا المشهد يعذب الضحية ، المغلوب على أمرها ، وهي لم ترتكب إثما يذكر ، حاول أ يصب فيضا من الضوء على الضحية ، كأن يجعل البحار يمسك شعلة نار على شكل سيف معقوف ، وغير شكل البحارة ، وحجب توتر عظلات الوجه ، و الأذرع ، وكل لحظات الجهد الإنساني المضني والمعذب في المقاومة المستميتة ، وسمات الألم المبرح التي ينطق بها وجه القاص ، حجب أشياء كثيرة ، واستطاع أن يرى عن قرب المجهود في شكل المقاومة الهائلة النبيلة ، فالقاص يعرف الحكمة الدنيوية ، لم يتراء له هذا من قبل ، إلتواءات خائرة حيث دم البحار في يديه ، وهو يقاوم بيديه ، ورجليه ، اضطراب ، وحركة ، وصراع ، لا تعوزه الصفات الروحية ، تدثره ، وتعبر عنها في المهارات العينية التي لها جسد ، هذا المحك الذي يجلو قدرته أن يجسده في القصة الغافلة عن جوانب الظلم والعدالة ، في قضية إنسانية كمصير البحارة كأنه عقاب في رشاقة الكلمات ، وأناقة الإيماءات كي يرضي نوازعه من شغف بالمعنى ، والشك في قيم الحياة الخيرة ، وفضائلها ، ها هو ذا موجود ، يبدو له من ناحية أخرى أن ثمة رؤيا ، لتطيل التفكير ، والتدبير ، وقد ابتدأ من البحر ، أن هناك ألوان يحاول أن يحرر ذاته من إسار القيود التي تصفده ، انفعالات تمور داخل وجدانه الغريب في الكلمات التي بسطها على الورق ، شاء إضاءتها من ظلمة شديدة ، البحر يبتلع السفن والبحارة ، هذا كان مقصده ، تلك الحالة التي تجول الإنسان الواعي بكنه الحقائق الغائبة عن بصائره ، فتنكشف له على غرار ما تنبثق عنه ومضات الأحلام المنسية معنى أدق يزداد ارتباطا بالحياة ، ارتباط تسمو على ما يعهده ، ويتكامل ارتباطا بالحياة ، ارتباط تسمو على ما يعهده ، ويتقرب إلى الحقيقة ، هناك تشويه أجراه عن قصد في القصة بوصفه حيلة الارتفاع بمستوى الكلمات عن مستوى نظر القارئ حتى تبدو القصة في أعينهم شامخة أ فأبرق الرعد فوق البحر ، وأنزلت السحب مطرها ، والأمواج تتدفق تلو الأمواج ، فطوح بالسفن ، وابتلعتها الأعماق ، هزيمة مخيفة ، ماردة ، عظيمة ، هذا في أعلى وفي أسفل يتغير ، ويتبدل كل شئ ، ثعبان وقتل ، توحش ، وهزيمة من براثن الحرائق ، وهذا التفسير سبب في نعته البعض له بالجنون إلى الحيلة البعيدة عن الواقع ، كما ذهب البعض الآخر إلى إصابة عينيه باختلال في الرؤيا ، ناجم عدم تساوي العين في الاتجاهات العمودية والأفقية ، حرمه من تحديد صورة القصة في بعدها الأسطوري الساحر ، الشيء غير المرئي في كل الاتجاهات ، وولع بالزخرفة ، لمجرد زخرفة واحتدام ، هذا الولع على مر الأيام كيف انتهى إلى اعتبار الشكل الآدمي نفسه عنصرا خياليا زخرفيا شديد الجاذبية ، على أن قد قدم إلى جواز كلمات نمطية متخيلة مبتكرة عناصر أخرى جديرة بالتقدير كرشاقة الصور ، فهنا وحش آخر في جوف البحر كأنه معلق بين السماء وسطح المياه ، بفكين فاغرين ، وهناك حورية البحر مقيدة بالأغلال إلى صخرة تقع على شاطئ البحر ، هلعة ، عارية ، تغشيها الأغلال ، والظلال ، مستترة من فكي الوحش ، لذلك تطلب من القاص أن يعلق على هذه المرحلة بمهارة ، وتنوع ، وأكثر إقناعا ، وجهد على التكيف مع الزمن الماضي في مضمون الشكل وشكل المضمون ، يهتدي إلى الحاضر بحكمة الماضي ، يستقي لغة القصة بما تلمعه العين التي يراد بها أن تنفذ إلى أعماق النفس البشرية ، فللبحر لون أزرق ، فوقه غيوم بنية تنذر بالعاصفة ، وكلما انفصل القاص بالكتابة يرى أن السكون الظاهر واللون الغائم ، والتكوين الصارم وتتابع الإيقاعات المتوازية في موضوع المصدر أن الحورية عارية الانطباع بصلابة التجسيم رغم بساطته ، ونقاوته ، فالعينان تشدهان إذ يستعصي عليه أن يسبر أغوار النور المنطلق منهما ، فينأى عن إبراز الخوف الذي لا شك هي تكابده أمام فكي الوحش الفاغرين المتأهبين لالتهامهما ، والقاص يسكب في جسدها البض اختلاجات من النشوة في عينيها حتى تبدو غريبة ، وقد حاول أن يعير نفسه ضوء القمر ، والظلال ، وقبلات الحب يستدفئ بها ، ويشيد عالمه القصصي ، رحيما بنفسه ، محتفظا بها لنفسه ، راقدا رأسه على الطاولة بين ذراعيه ، وهو يدرك لابد أن ينفصل عن أسرار البحر بلطف الذي يموج ، ويصخب في ذهنه ، وإنه لم يشعر من قبل بما يشعره اليوم أن يوثب من البحر باضطراب ، ويمضي بحزن ، ويمضي ، فالحورية تضئ خلال الألم ، وتتألق على الرغم إنه من صنع خياله ، تلمع بإصرار ، وصفاء ، وتمضي ، تمضي بوثبات في البحر …إنها صورة القاص في متاهته .آه ، أصيب بالإرهاق ، فرقد على السرير ، وهو في السبعين من عمره ، محاطا بكتبه ، كما لو أن جسده ثوى ، تحرك ذهنه القصة التي كتبها ، وقد استحال السيطرة عليها ، وهو يضع حصيلة حياته في كل ما كتبه ، وهذه الحصيلة في كل مكان كان ، جهد نفسه من أجلها ، وهو يحاول أن يقنع نفسه ، أن كل ما كتبه كان جيدا ، وها هو يستعيد كل ما كتبه في مسار حياته الطويلة ، عاش حياة هامشية ، يتيما ، ربته خالته ، وعرف الحنان في حياته ، وقد أحب حبا شديدا زوجته زمرد ، وهي شابة حسناء ، وتحدى ظلم الحكام ، وعنفهم ، واشترك في الثورة في كردستان ، وكان له حنان آخر هو أولاده الثلاثة ، وأنه جسد مواضيع كثيرة ذات طابع سياسي في قصصه ، أنه مشبوب بالعاطفة إزاء الفقراء ، والمظلومين ، لأن الأعوام التي صنعته ، ومنحته بالقناعة ، وشعوره بالحرية ، والحب الكبير ، ولدت عنده الحس الخاص بلغة الكتابة ، لغته هو ، مستعملا حقه في التخيل ، لقد دخل إلى عالم الكتابة ، وهو صغير ، وقال الشعر ، وهو صغير ، وقد قال الكلمة التي تحرر الناس من الاضطهاد ، الآن وحده وسط كتبه ، وسط إرادته في مواصلة الكتابة ، حقا أنه رقد فوق السرير ، حقا أنه بقي مخلصا للكتابة ، بقي مخلصا لمثله الأعلى من ضحايا الدكتاتورية ، وهو يحلم بعالم أثر عدالة ، ينصره ، ويكافح من أجله . بقيت عيناه مغمضتان ، ولم يسمع أي صوت ، وماذا يحصل إذا فتح عينيه ، هل سيسمع أصوات قريبة أو بعيدة ؟ جفناه ثقيلان ، رأى عالم الخلود من ملائكة وشياطين ، ويوم البعث ، ويوم الميلاد ، وآثار سومر ، وبابل ، وسقوطهما ، وسمع أصوات نفخ ، وطبول في الأذنين ، وهو يتذكر الأشياء برعب خاصة التعذيب الذي تعرض له في عام 1963، وهو لم يعرف أهو نائم ، أم فقد وعيه تحت هاجس الكتابة ، مد يده ، وانقلب على جانبه ، وهو يريد أن يستيقظ ، ويواصل الكتابة ، لكن لم يفتح عينيه ، وعبثا حاول النهوض ، هناك أشياء كثيرة تومض في عينيه ، وتسطع على وجهه ، شدد عضلات وجهه ، كانت الحروب ماثلة وراء جفنيه المغمضين ، حيث الذئاب تفترس الفضيلة في حلبة صراع ، عاش ما فيه الكفاية حيث تراه متألما ، غاضبا ، فتح عينيه بالكاد ، لم يعد يستمتع بما حوله ، لأنه يشعر بتعاسة حزن دفين ، قديم ، منسي ، وراهن ، لقد هزمت أشياء كثيرة عنده ، هزمته الدهشة ، وغمره الملل ، ويحلم بالظلال التي في غرفته ، ويتهرب من واجبه أن يكتب القصة ، لم يشتك ، بل خرر راقدا ، حزينا ، منهكا ، كإنسان لا يستيقظ لأنه لم يعد يعبأ لأبواب الليل الداكن ، ولا بالطيور في أجوائها ، رقص بطئ لفراشات في مسكن الفردوس ، الصمت أمر لازم في هذا الوقت الجريء ، حيث الصلوات تنزل عليه من مسكن الملائكة ، حيث يلمح عيون لا تريد الانطفاء ، الانطفاء الجامد ، الانطفاء بين الجفنين ، عين سوداء ، هي سوداء ، يا ملائكة أعيروه عيونكم ، أناملكم ، أياديكم ، كي يرقد الرقاد الطويل في الصمت ، في الصمت الذي لا تطلق فيه صرخة ، يكفيه أن يفتح عينيه في هذا الليل الذي ترقص فيه النجوم ، منذ قرون مضت ، منذ قرون سقطت بابل ، والخراب قد ترك فيها ركاما مثلما سقطت اليوم بغداد ، كل التاريخ يسير في هذا الممر الدامي ، يتدلى على جوانبه الموت ، جرائم خضراء اقترفت منذ قرون مضت ، منذ قرون فتح الباب على مصراعيه ، وتطهرنا بالليل الدامس ، وقد مات النهار .ما كان يريد أن يتذكر ، لأن التذكر يمر عبر الفترات المظلمة ، يمر عابرا كل القيم ، ويصبح حزينا ، ومنهكا ، لم يكن ذات يوم متعبا بمثل هذا اليوم ، أنه متعب ، يفتش عن ذاته عبر الرقاد ، أنه ضائع ، يلقي بنفسه في عناء كبير ، ولذلك لم يرد أن يتكلم ، فهو عرف الآلام في نفسه ، وعرف الآلام في الآخرين ، لا شئ غير ذلك ، لا شئ أكثر من ذلك ، ماذا يحصل لو نهض من السرير ، وبكى ، فهل سيعرف شيئا أكثر من ذلك ، أخطر من ذلك ، أنه يرى رعب ، وحرارة الجحيم ، ويكفي هذا أن تسيل الدموع من عينيه ، ويمعن التفكير عندما يقف الدكتاتور أمام باب الجحيم ، هذه الحقيقة يستطيع التأكد منها ، ولهذا كتب قصصه ضد الدكتاتور ، وحروبه ، الآن يصيخ السمع بدقة ، فإن المطر يضرب زجاجة نافذته ، لا يدري لماذا انتابته اللامبالاة ، وكاد يفقد حسه إزاء المطر ، هناك مخابئ لا تحصى ، وتفاصيل صغيرة ، ومجرى تصور الذاكرة حول العالم ، الفناء والتغير ، الحس التاريخي عالم الخلود ، كلها مثل ريح ضعيفة أو نفحة قاسية ، جافة ، تطن حول أذنيه ، لم يثر ذلك امتعاضه ، فاختلطت عنده الأصوات كما لو أنه يسير في الاتجاه المعاكس للريح ، طنين رنان يعزف في أذنيه ، نوطة صوت مرتفعة في عالمه ، تجوس فيه أسيرا ، لقد شعر بالخوف من تفكيره ، ورقاده الطويل ، هذا ينهكه ، وهو يفكر بالقصة التي لم ينته منها ، أنه راقد ، أنه يفكر ، أنه خائف ، من أفكاره غير المتناسقة ، وأغمض عينيه مجددا ليهرب من أفكاره ، من الغيب المتحرك بين الجنة والنار ، نور غير واضح يتراقص بين جفنيه في الهدوء العميق ، المحجوب وراء الظلمة ، وهو يتلوى مبتعدا من أشباح ، أشباح نفسها تدخل ، وتخرج من شقته ، وتختفي ثم تظهر وقت اضطرابه ، هو نفسه يختفي ، ويظهر من جديد ، كان يلزمه كائنات تشبهه ، فيها النبل أكثر وضوحا ، وثباتا لا يعرف متى يأتيه ملاكه ، يترقبه في سريره ، وتهيج في ذاكرته الذكريات ، متبعثرة ، منفلتة ، متناثرة ، ذكريات كتبه التي ألفها ، والتي لاقت رواجا عند الأدباء ، كلها ألغاز ورموز قدرية ، تعرف اللحظة ، تعرف جرح الحلم ، أن يرقد في فراشه تحت الظل ، بينما العالم يغور حوله في سواد الليل ، والزمان يفترسه على مهل ، ها قد بلغ السبعين من العمر اليوم دون احتفال مثل بحيرة البلوط التي تستحم بالضباب ، والمطر ، فلا صدى أصوات ، ولا فرقعة شعاع ، ولا جوقة أهازيج ، ولا إكليل ذهبي ، ولا أجراس ترن ، صوته وحده يمحوه المطر ، فها هو ينسى الصباح المحتم الذي لا يقاوم بالسنين ، في هذه الهنيهة استخدم أحلامه من جذورها المتشابكة ، كان بوسعه أن يصرخ ، ماذا تجد في أحلام الليل ؟! عما تبحث في الظلام ، الحزانى يبوحون بقتلاهم ، إنه مجرد حلم ، متعدد الأصوات ، طفرت الدموع من عينيه ، ونظر نظرة خابية من دون أن يرى شيئا ، تنهد بأسى ، وبصوت مسموع ، واعتراه شئ من الخوف ، نظر إلى طاولة الكتابة ثم حول عينيه بسرعة ، ونطق بكلمات لم يفهمها هو ، كان ينظر إلى الأمام ، لكن بعينين مغمضتين ، بدا شئ ما يتحرك في عينيه لكنه لم يفتحهما في الحال ، سرى فيهما الهدوء ثم تحركتا ، وفتحهما ، فبان على وجهه الأسى ، والألم ، فعادت إليه الذكريات ، هروبه من العراق عام 1978 ، واستقراره في الجزائر ، ثم لجوئه إلى السويد ، وسع من فتحة جفنيه ، ونظر ، لا ، أنه في الظلام ، لم يغمض عينيه هذه المرة ، وأراد البكاء ، ولكنه لم يبك ، فقد جفت الدموع في عينيه ، وتذكر الكلمات التي كتبها اليوم ، هدأ ، واطمأن ، وهو تحت تأثير الكلمات ، وهو يبحث عن ملاكه ، فهم ، وأحنى رأسه قليلا ، وارتسم تعبير من الفرح على وجهه ، وانغلقت عيناه ، وبكى ، وسمع صوته الواهن ، وهو يحاول أن يطمأن نفسه أن هذه الليلة ستمر بسلام ، كان يتحدث مع نفسه ، ويضطر إلى الصمت ، هز رأسه ببطء وتنفس ليريح عينيه ثم أحنى رأسه ، كان يحاول استرداد ذكرياته بعينين واهنين ، مما جعله يتحدث بصعوبة مع نفسه ، وهو لم يستطع أن يفهم شيئا ، أهذا هو أم أنه إنسان آخر ، وهو يشعر بنفسه أنه هو بدليل الظلام الذي يحيطه ، متى ينتهي عذابه ؟ وحده يدري بذلك ، انفتحت عيناه وحدهما دون أن يدري ، صار يتذكر برقة ، وأوضح ، وما جلبته الدكتاتورية من ويلات ، وكذلك الاحتلال الأمريكي ، وما نشبت من حروب بين الطوائف ، فظهرت على وجهه ملامح عميقة ، جادة ، وهو لم يفلت كل الأحداث التاريخية التي عاشها ، صمت ، وبقى بلا حراك ، أفاق على نفسه ، ونهض من سريره وجلس إلى طاولت الكتابة بعد أن أضاء النور ، وتحول إلى فرح هادئ ، أنه يستطيع مواصلة الكتابة ، وصارت روحه أرق بعد وهج الكتابة ،وظهرت على وجهه ملامح الفرح ، والسكون ، وقد صافحت عيناه وجه الأوراق ، وقد سأل نفسه : من كان يصدق أيستطيع أن يكتب ؟! كانت الكتابة أكثر راحة لعينيه ، فدارت في رأسه ذكريات قاتمة ، ضعيفة ، فتح النافذة ، فاندلقت غبشة صباحية مبكرة باردة ،ثم أشرقت الشمس إذ من أعلى تتساقط أشعة الشمس في فرح قبل وصولها الأرض ، وبدأ الهواء يتحرك ويتلاعب من حوله ، ران صمت عميق ، إذ بدا النهار صحوا ، والهاء مشبعا بالشمس ، والسماء صافية ، بعد أن توقف المطر وتبدد ضباب كثيف أبيض غطى المدينة ، وغرق فيه كل شئ ،فأصبحت الرؤية ممكنة .ارتدى ملابسه بسرعة وخرج من شقته في الطابق الثالث ، وهام على وجهه في شوارع بحيرة البلوط ( إكشو ) ، وروحه مثل نغم حزين ، كأنها انبعثت من رماده ، فكانت نظراته تتسع إلى هذا العمق السماوي الملون الجميل .جلس على مصطبة يواجه بها بحيرة هنسنسين المحاطة بغابات كثيفة وهي أكثر رحابة لبوادر الخريف ، فسبحت أفكاره من هذا الغيب ، من نور الصباح ، نور واضح ، جياش ، جذاب ، كلها صور رسمها في فكره مجذوبا إليها ، مشعة في الهدوء العميق ، محجوبة وراء الذاكرة كأنه هو شبح وحيد أمام البحيرة ، هو نفسه الذي يخفي ذاكرته ، ويخفيها في عطر الأشجار ، تلزمه كائنات بشرية تشبهه ، يكون النبل متحركا في الأعالي ، هكذا ترقب النهار في منعطف تيهه ، تجوب في ذاكرته ذكريات ، تتبعثر طلاسم ، لم يعرف اللحظة ، لم يعرف جرح الألم ، أن يعيش في المنفى ، وهو في هذا العمر ، بينما تغور أفكاره في العراق الأبدي ، لئلا تضيع الشمس في عينيه ، والأمل ، والوطن ، التي يفترسها الزمان ، لم يدرك كيف مر الزمان سريعا مثل أمواج المياه تسخر من المن ذاته . صحت ذاكرته ، وحده يخفف الوطء عن نفسه ، فنسى الليل والنهار ، ونسى معنى الزمن ، فنهض عائدا إلى بيته ، سيعيش فيه مدى الدهر ،وتصل إلى سمعه وساوس القصص ، قصص كثيرة يستخدمها في أحلامه ، ويستطيع أن يصرخ عما أبحث عنه في الكتابة ، تتميز صرخته بلطف التي فيها الخلود ، كل ذلك جرى بهدوء عظيم ، وعميق كأنه محظور في غور الدنيا .
 

30 | 8 | 2008

 

free web counter