حمودي عبد محسن

 

| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

 

الأثنين 29 /1/ 2007

 



قصر الخورنق


حمودي عبد محسن

قرأت مقالة منشورة 3 . 8 . 2006 في موقع إيلاف التي تتحدث عن صمت العرب إزاء معاناة لبنان ، فأخذني ذلك للبحث في الموسوعات والمعاجم العربية ، وكتب التاريخ في مكتبتي ، لأطرد الحزن عني ، ولتسيل الدموع على خدودي ، وتقطر على لحيتي التي لم أحلقها منذ أن بدأت الأحداث ، ورحت أنهمك في القراءة لأجد شيئا يشاركني الحزن ، ويعطف علي أنا لأنني في جرح مأساتنا العربية ، حتى غلبني النعاس ، والمطر يعزف لحنه الليلي على نافذتي في الطابق الثاني من العمارة التي أسكنها ، فاندفعت إلى سريري متوجسا من عروبتي ، ثم اندفع خيالي إلى الماضي السحيق ، فخلال القرون المتمادية القدم ، السالفة الدهور ، حيث الخزامى والأقحوان والشيح والقيصوم والشقائق ، حيث الماء ، والكلأ ، والشجر ، ذلك كان في مكان ظل وريف ، وجو لطيف ، وخرير الفرات قبالته ، المكان أعرابي في تمرته ، في أطيب البلدان ، وأغذاها ، وأوسعها ، أنها الحيرة التي أقام فيها العرب بعد التحير فسميت الحيرة ، فمنها مما يلي الشرق نحو ميلا واحدا يقع قصر الخورنق العجيب ، والسدير في وسط البرية التي بينها وبين الشام مساكن ملوك العرب قبل الإسلام ، فيها أيضا منازل ملوك بني لخم ، وهم آل النعمان بن منذر بن ماء السماء ، وهي أمهم عرفوا بها ، وكانوا من أفضل ملوك العرب رأيا ، وأظهرهم حزما ، لا يدينون على دين ملوك الطوائف ، بل يدينون على دين النصرانية حيث ديارات الرهبان ، والقصور المشهورة ، والمظال ، وخيم الشعر ، وبيوت المدر ، ومن ابتنى فيها من قبائل العرب باتخاذها مسكنا ، تعبدوا لملوكهم ، وأطاقوا حمل السلاح ، وركوب الخيل ، لتشتد عظمتهم في طيب المناخ ، في عذي الأرض ، تنزه الأعين في بديع القصور المشرفة على رياض ، وبساتين ، وغدران ، ومياه ، تصفر فوقها طيور ، أجل ، تلك كانت بنايات حسنة العمارة ، متنزهات مقصودة في أماكن موصوفة ، أكثر البقاع زهرا ووردا ، رقيقة الهواء ، تتدفق فيها المياه ، مدرجة ، ذات طرق سابلة ، تصدح فوقها ضرب النواقيس ، والطنابير ، كثيفة في أيام الربيع بالرياض ، والغدران المعتمة بالزهور ، محدقة في حسن الديارات : دير الحريق ، دير الأسكون ، دير مزعوق ، دير مارت مريم ، دير هند الصغرى ، دير هند الكبرى ، ودير اللج ، ، محدقة في نهر الغدير ، محجبة بالنجوم كأن بدور على قصور : العذيب والصنبر ، القصر الأبيض ، القصور الحمر ، دومة الحيرة ، كان ذلك في عصور غابرة حيث أراد ملك الساسانين لابنه بهرم جور بن يزجرد بن بهرم بن سابور ذي الأكتاف مكان صحيح الهواء ، فذكر له الحيرة ، أطلق على القصر الخورنق ، وهي كلمة فارسية الأصل معربة من كلمة _ خرتكاه _ وتعني موضوع اللهو والشرب ، أو تعريب خورنقاه ، وهو الموضع الذي يؤكل فيه ويشرب ، فاختار النعمان بن المنذر شخصية معمارية تشرف على البناء من الروم ، واسمه سنمار ، واستغرق في بنائه عشرين عاما ، فكان سنمار هذا يبني فترة ثم يغيب فترة ، والنعمان يطلبه ، ولا يجده ، ثم يأتي ، ويتحجج بشتى الحجج ، وهكذا حتى اكتمل البناء ، وارتفع شاهقا ، وكان النعمان واقفا مع حاشيته أمام القصر طويلا ، وهو في أحسن زي عليه الصليب ، وحلل الديباج المذهبة ، وعلى رأسه إكليل العرش الملوكي المفصص بالجواهر ، يتطلع إليه بنهم ، مدهوشا ، مبهورا ، يجاذب سنمار الحديث ، وهو يكرر في داخله : ( يا لروعة هذا القصر ! ) ، لقد أفرط في تأمل لا إرادي ، جعله ينظر عجبا إليه ، كان القصر في أحسن بناء ، لما تحيطه من جنينات نخيل ، وأشجار ، يلبسه من رياض ، فمنظره يبهر حسنا وجمالا ، وهو أحد متنزهات الدنيا ، البر من أمامه ، والبحر من خلفه ، ضاجا بألوان زاهية تشهد بروعة فن عظيم لموهبة سنمار ، الذي كان أمينا لها مما جعل القصر فريدا في زمانه ، ذا الألوان ، ذا الطراز ، وذات اليد المحنكة ، المتمرسة ، التي أنجزت هذا البناء ، فصعدوا إلى قمة القصر ، وراح النعمان مفكرا إلى المدى البعيد ، فاكتست ملامحه سيماء الجد والغضب ، وأخيرا التفت إلى سيمار ، وسأله : _ هل تستطيع أن تبني أحسن منه ؟!
فأجاب سنمار ، وعلى وجهه ابتسامة فنان :
_ نعم …
ثم أردف قائلا بصوت خافت :
_ إنني أعرف موضع أجرة فيه لو زالت لسقط القصر …
اندهش النعمان من قدرته المتمرسة ، فسأله :
_ هل يعلم أحد غيرك بهذا ؟!
فأجاب سنمار بتباهي صريح :
_ لا…
هز النعمان رأسه ، وقال :
_ لا ذنب أن أجعل هذا السر مخفيا أبدا …
ثم التفت إلى أعوانه ، وقال :
_ اقذفوه إلى الأرض …
هكذا قذف سنمار من أعلى القصر إلى أسفله فضرب العرب به المثل : ( جازاه مجازاة سنمار ) . فأغمضت عيني ، وأنا أطوف بالصمت العربي ، و أغوص في مخيلتي ، وأسأل نفسي : هل رماه إلى الأرض حتى لا يبني مثله ، أم لأنه كان يستطيع أن يبني أفضل منه ، كما يقال أن سنمار قال للملك العظيم : ( أنه يستطيع أن يبني له قصرا يجعله يدور مع الشمس كيفما أراد…) ، هذا من التاريخ ، وموت سنمار يهمنا ، وموت أطفال قانا 2 أيضا يهمنا ، ويجري الحديث غالبا أن النعمان شكر سنمار على إتقانه للبناء ثم قتله ، لم يبق أمامي إلا أن أردد قول الشاعر ، وأنام وحدي في عالم وحيد سواء من التاريخ أو من حضارتنا البشرية ، أنام مع قول الشاعر:
              جزاني جزاه الله شر جزائه                جزاء سنمار ، وما كان ذا ذنب
              سوى رفعه البنيان عشرين حجة          يعلي عليه بالقراميد والسكب


5 . 8 . 2006