حمودي عبد محسن

 

| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

 

الخميس 28/9/ 2006

 

 

 الجرة المقدسة


حمودي عبد محسن


أنها تخرج من الظلام عارية ، مبرقعة بثوب الليل .كل شئ في جسدها أراه خلف برقع آخر مضاء ، و دخولي إليها عابر ، وقتي ، و أبدي ، كأن ذلك مقدر لي أن أراها في كمال أنوثتها .لم يكن لي أن أراها مع فحيح غواية أفعى ، حراشف عروس بحر ، خوار بقرة حلوب ، أو حمامة بيضاء وديعة ، أو أمازونية قاطعة النهد الأيمن لغرض التصويب بقوسها كي تقتل الرجال .لم يكن لي أن أراها ربة ينبوع المياه ، متقلبة خلف قناع .كنت أراها فقط جرة مقدسة للأم التي تنز منها أنهار الماء و الحليب و الدم .كنت مولعا بها ، ببراءتها الأولى ، ببذرة الحياة التي زرعتها لي .كنت أراها تمسك جرتها بكفيها ، لا تريد أن تسقط منها على الأرض ، فتنكسر ، و تنكسر ديمومة الحياة ، أما نهدها الثاني فكان متوترا ، راكدا على صدرها بإيقاعات غنائية راقصة ، و حلمته الحمراء في ارتعاش ، أجل ، عيناها مفتوحتان فيهما غفوة نوم ، فيهما يقظة من نوم لوجه متحفز ، هائج نحو الأمام ، فمها أيضا مفتوح ، منه لغة تتحدث لغريب مجهول ، تجرد الزمن من أبديته ، و تفقد العالم غير المتلائم في توازنه ، في مصادره ، معارفه ، رؤياه ، تصوراته ، أحاسيسه عن الماضي .شعرها منفوش في ريح ، يطهر ذاتها فيه ، يغسل كامل جسدها فيه .هي هاربة .تتنفس ليلها في خوف ، تطاردها بومة جبارة ، تلمع عيناها في ظلام الليل ، فمها كذلك مفتوح ذو أنياب شبحية ، حادة ، لها جناحان ضخمان مفروشان في الفضاء ، ماذا تريد البومة العملاقة منها ؟! أتريد جرتها ؟! هذا مستحيل . أتريد أن تأكل لحمها ؟! هذا أيضا مستحيل .لابد أن تهرب بجرتها ، و يأتي النهار ، و تختفي البومة .كان العالم يتجلى في عينيها بكل أبعاده ، و مسافاته ، فيه انقراض ، و سقوط ، و خراب .كل البشر رضعوا من جرتها منذ الخليقة ، و دفنوا وجوههم فيها ، و غفوا على عتبتها ، تركتهم نائمين ، يرضعون ردحا من الزمن ، ثم حبوا على التراب ، و خطوا خطوتهم الكبيرة ، ، و تعفرت وجوههم فيه ، تلك كانت البداءة ، العثرة ، الخطوة ، ربما _ الخطيئة في ترنيمة بعث الحياة ، و التجدد ، و الموت ، و الانبعاث .لابد أن تهرب ، فالبومة شرسة ، قد تنقذ عليها مثل البرق ، و تأخذ جرتها بمخالبها ، تكرع كل ما فيها من خليط ، فينتهي العطاء ، و الدفء ، و الحنان ، قد تخطفها ، و تحملها ، و تطير بها ، و تدور حول مهدها الأول في وادي الرافدين ، محركة ذيلها بفرح ، و تبوم : ( امرأة الجرة بين مخالبي ) .تلك هي اللحظة الخطرة ، لحظة بقاءها ، و بقاء نسلها الكوني ، كانت البومة تلاحقها ، تفرد جناحيها يمينا ، و يسارا ، و تنثر رعبها عليها ، و تدنو منها ، و تهبط على سور خرب ، خلفته الحروب . قطعت عليها الطريق ، و راحت تبوم في وجهها ثانية ، ناثرة جناحيها ، متوثبة للهجوم ، بينما كانت امرأة الجرة تتلألأ الدموع في عينيها من وهج فزعها ، محتضنة جرتها ، منحنية برأسها عليها في عناق شبقي محترق ، و هي تهتف بخفوت : ( هذه قبلة الدنيا ) ، ثم رفعت رأسها ، و نظرت إلى البومة باستغراب ، و تمتمت : ( دعيني ارتشف قبلات الحب ، دعيني كما أنا امرأة الجرة ، لا أريد أكثر من ذلك ) .كانت البومة تفتح فمها ، ثم تغلقه ،ينطفئ هيجانها ثم يتوقد ، و تضرب بجناحيها بعنف ، حركت رأسها ، و أطلقت صفير إنذار : ( لا…أريد أن أكرع ما في الجرة حتى يتدثر الكون في الظلام ) .كم كانت امرأة الجرة حزينة ، و هي تقول بنغمة مهزومة : ( غادريني ، ثم عودي إلي ) .كانت البومة تتطلع إليها ، و إلى البعد ، ثم فتحت عينيها على وسعهما ، فتجمدت امرأة الجرة في مكانها ، و تجمدت الدموع في عينيها ، ملهوفة إلى الخيط الأول من ضوء الفجر ، لتواصل هروبها حافية ، ستخفي نفسها في النهار من كل ليل آت ، ستسمع ضجيج المكائن و الآلات العملاقة فوق الأرض و في السماء التي تدمر ، و تقتل ، ستنصت إلى أصوات البشر ، و هم يصرخون ، و يروحون و يجيئون ، منهمكين ، متعبين ، يتربص بعضهم لبعض ، عجبا ، ستراهم يغرسون فسائل أشجار ثم يحرقونها ، يبنون بيوتا ، ثم يدمرونها ، ستتفرس في ألوان وجوههم ، و تعاتبهم : ( أنتم يا من رضعتم من جرتي ، تمرون عابرين ، لا تفهمون عطائي ، وا أسفاه ، ليس من أجل هذا أرضعتكم ) . ظلت ساكنة في مكانها ، تحاور البومة بدهاء ، و صبر ، و حكمة ، حتى لاح ضوء الفجر المنقذ ، ففرت البومة غاضبة ، بشعة ، و استيقظت أنا من نومي ، و حلمي ، و أنا ، و امرأة الجرة التي رضعت من جرتها دائما نخرج من الظلام .

25 .10 . 2005