| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

حمودي عبد محسن

 

 

 

الخميس 27/5/ 2010

 

قناع الموت

حمودي عبد محسن

كان الوقت ظهرا ، وقد هدني تعب مرهق عندما حانت ساعة الظهيرة القائظة ، ظهيرة صيف الحر . بغتة جفلت غاضبا في مكاني ، وأنا في طريق عودتي إلى البيت من وادي السلام الذي يمتلأ بالقبور ، وتحيطه رمال الصحراء في مدينتي النجف . خمدت فوق الأرض منغلقا مثل صنم مجهول ، إذ سقطت حمامة من الفضاء من شدة القيظ ، وتهشمت في بركة دماء ، فزادتني الصدمة برنين سقوطها ، واحتضارها الذي لم يدم لحظات برعب شديد . كنت أنظر إليها بعينين محتقنتين بالدم ، وأردد مع نفسي :هذا فأل سيء . لم أعد أطيق الصمود ، فمشيت بخطوات واسعة سريعة ، مطلقا تنهيدة عميقة ، مرتبكا في غموض غريب ، رافعا رأسي إلى الشمس التي تلفح ظهري ، وأكرر : الموت لا يتركني أبدا . لقد طالت لحظات الطريق واستغرقت طويلا ، مختلفة عن الزمن العادي ، والعرق يتصبب من جسدي ، إلى أن وصلت البيت في محلة الحويش ، والزمن يمضي جاريا مستمرا ، لا أعرف ماذا يخفي لي ، فقلت بصوت خافت : دعه يمر ما زلت وصلت بيتي . كانت تلك لحظات عظيمة معقدة . دفعت الباب ، ودخلت إلى الحوش مستغرقا في فكير قلق ، وجفناي ثقيلتان ، ولساني لم يستطع أن يصوغ الكلمات ، وكذلك شعرت بخدي حارتين ، وأنا أمضي في أفكاري إلى إرث الحمام في مرقد الإمام علي التي تعودت أن أطعمها بحبات برغل ، وأطيل النظر إلى رفرفتها ، وأسمع هديلها فقلت مع رفرفة جفوني : أنا أحبها . اعتقدت أنني لم أقل شيئا ، وإنما شفتاي صاغتا الكلمات ، فقد تشابكت عوالم متشعبة في ذهني : الموت ، الجسد ، الدم .
نزلت إلى سرداب السن الذي ضرب وجهي هواء منعش بارد ، واندسيت في الفراش ، ورحت أغط في نوم عميق بقيلولة النهار دون أن أفسح المجال لعقلي كي يطيف بحريته مع الظلال العصور القديمة التي ورثت لنا الموت والسجون والحروب التي شاهدتها الدماء النازفة على أرض الرافدين ، إلا أن الدهشة أرعبتني ، فكان واقفا عند قدمي شاهرا حسامه ، أنه مخلوق يختلف عن الآخرين بظهره المقوس ، وتجاعيد وجهه الكئيبة ، ولونه ليس لون الحياة ، فهو ليس ميتا ، وليس حيا، أنه هو الذي رأيته سابقا ، لقد تغير كثيرا ، حيث أصبح وجهه قديم جدا ، وقاسيا جدا ، لم ينظر إلي في بادئ الأمر ، بل كانت نظراته تحدق في الفراغ كأنها تريد أن تبتلع الظلام ، شعرت برعب حضوره ، وخفت أن يقطع عنقي ، ويعود إلى كرسي الحكم ، ويشيع مجازر القتل والحروب والاستبداد ، فلم يكن وجهه ذالك الفريد ، وجهه نموذج لظل آخر وظل الظل في آلام الشرور التي طحنت بالعراقيين ، يبدو أنه يريد الانتقام ، أصابني شعور بالهلع ، ولم أقو على الصراخ ، والتحرك ، فجمدت في فراشي وتسمرت قدماي بالأرض ، ولفني شحوب أعوام مضت ، وأنا أسمع تنهداته التي لا حصر لها ، تنهدات الانتقام الأكثر وحشية ، لابد أنه يخفي شيئا مرعبا ، التزمت الصمت في هلع رهيب ، وقد انتابني الرعب عندما فكرت بمحاولة الهروب ، يا للغرابة ! سمعت بلسانه الغريب الذي لا يشبه أي لسان ، ومن فمه الذي يتفوه بالكلمات :
- أعطني قناع الموت .
لم ارتد أي قناع ، لطالما أفزعتني الأقنعة ، فوجهي حقيقي ، ويبدو حزينا ، وروحي لم تفارق جسدي مثله ، فأجبت بصوت واطئ :
- لا أملك أي قناع .
لم أكن أريد أن أستيقظ أو أتنور بالشمس الآتية من شباك في أعلى سقف السرداب ، ولم أحاول أن أنجو من الخوف ، بل أردت أن أتأمل ، وأشك بأنني في ذاتي نير ليس مثل الذين يرتدون الأقنعة ، وأنني آمن في السرداب ، أتنازع مع هذا الوجود ، وأحاول أن أصعد إلى أعلى بثوب منامي الأبيض ، هذا ملهمي ، إلا أن الطوفان قد حدث ، طوفان الرمال في الشمس اللاهبة ، التي غطت المدن والأرياف ، واختفت الأقنعة ، لم لا... كل شيء غريب يمكن أن يحدث في لمحات بصر .
 


25 . 02 . 2010
 


 

free web counter