حمودي عبد محسن

 

| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

 

الأحد 24/9/ 2006

 

 

 أسطورة النورس
 


حمودي عبد محسن

اللغز الأول : اللقاء
حاول الفتى أن يقبل ماريا ذات الأعوام السادسة عشرة ، أدارت خدها ، فسقطت قبلته على عنقها ، وهو يراقصها تحت أضواء خافتة ، وعلى أنغام هادئة تنبعث من جهاز موسيقى في صالة بيت صديقتها التي دعتها إلى حفلة عيد ميلادها ، والذي يقع بيتها في الشارع الكبير المسمى بشارع المشي ، وهو شارع رئيسي في الجزء القديم من المدينة الذي تنتشر على جانبيه المحلات ، وتتفرع منه الأزقة ، وقد حافظ على طرازه المعماري الذي يمتد إلى أربعمائة سنة ، وهو يجسد عمر مدينة إكشو . أحست ماريا أن الفتى يسحبها إليه ، ويضغط بعضوه الذكري بين ساقيها ، فبدت أشبه بجسد ميت بين ذراعيه الصلبين الضاغطين بشدة عليها . حاول مرة أخرى أن ينحني بوجهه إلى صدرها ، ويهبط بشفتيه إلى نهديها . اشمأزت منه ، وكرهت محاولاته الشهوانية . دفعته ، وابتعدت عنه ، وهي تحدق إليه بعينين غاضبتين ، وتردد مع نفسها : ( ليس أنت الذي أحب ) ، ثم غادرت الصالة ، تاركة كل شريك يحتضن شريكته في الرقص ، وخرجت من البيت مبتعدة ، وقد أصابها شعور ، أنها لا تنتمي إلى هذه الحفلة ، أنها غريبة ، ضائعة بين أصدقائها كما لو أن هناك إحساس غامض يحثها على شئ استثنائي أو أنها كينونة خاصة ، يجب أن يكتشفها شخص آخر في مكان آخر ، وربما في وجود آخر ، تسمح له أن يقبلها قبلة حمراء طويلة ، ويخلق في ذاتها شيئا خفيا في عالمها الدنيوي أي أنها تريد فقط أن تعيش شيئا مهما ، وأن يصاحبها رقي محض ، تنكر فيه الوجود العادي اليومي الرتيب ، المعتاد بين أصدقائها ، وتنفك تماما من فخ ارتباطها بحاضرها ، أرادت أن تكون هي ذاتها بشعرها الذهبي الطويل ، وعينيها الخضراويتين ، ورشاقتها ، كمخلوقة لذاتها ، مدركة لبهاء أفضل ، فتنها هذا الإدراك لأناها المعشوقة ، واستحقاقها له كي تبلغه ، وكذلك فتنتها اللحظة الآنية كمحبوبة لكمال عارض ، ربما _ تدرك كهنه ، وهي تمشي على غير هدى في شوارع إكشو ، وقد ارتفع القمر كهالة سماوية فوق المدينة في ليلة من ليالي الصيف الدافئ . حثت خطاها ، وقد أخذها التوق إلى مكانها قرب بحيرة رولاندس دام المحاذية لبيتها . كان ذلك أشبه بحنين لا إرادي إلى المكان ، الذي تمتلئ روحها فيه فرحا ، ونشاطا ، وقد ارتبطت به بعلاقة حميمة قوية قديمة متينة ، انغرست في قلبها عندما ظفرت به دون مفاجئة ، دون مبادرة من أحد أو فرض عليها حدث ما ، فقد ارتبطت به كملاذ لطفولتها ، إذ لعبت فيه ما شاءت ، ومنحت لنفسها تحررا مع الفراشات ، والزهور ، وجذوع الأشجار ، وأنغام البحيرة ، والطيور ، وحفيف الأوراق الغامقة في خضرتها . ركضت إلى المكان الذي تحتفظ بصوره في خيالها ، وجوهره في ذاكرتها ، لتكشف عن أناها الجديدة في هذا المكان المنزوي من العالم ، الذي يعني مغزى لوجودها ، ففيه عرفت أشياء مجهولة ، وأشياء ممنوعة ، وتهذبت نفسها ، وصبوت بالاكتساب من زقزقة الطيور في أعشاشها المعلقة فوق الأغصان ، فقد استعدت لأي تحول كائن بحكم ميزتها البشرية في هذه البقعة الصغيرة في مدينتها ، الذي فرضته على نفسها من غير أن يفرض عليها أحد ، إذ لولا هذا المكان لظلت مدينتها بلا أسطورة في التاريخ ، ولظل خيالها دون صور جذابة ، لذلك حثت خطاها ، لتلغي تسكعها الحر في طرق المدينة ، وتسير من طريق إلى آخر ، وتمر فوق جسر ، لتعود إلى المكان نفسه الذي تستسلم فيه لذاتها ، لدرجة يتغير عندها ما هو أرضي ، وما هو سماوي ، و تكون نفسها مع اللانهائي ، وما وراء الطبيعة ، فلا يوجد أحد في المكان يقلق بناء ذاتها ، أو يزعج أن تضفي سحرها على المكان نفسه ، وتتجاوز الآخرين ، والأزمان ، والأمكنة القديمة و الجديدة ، انعطفت خطاها في درب كثيف الأشجار ، يؤدي إلى الغابة ، يبدأ بشارع ترابي ، وينتهي بشارع مبلط ، تضج عليه السيارات ، ثم انحرفت إلى مكانها .جلست مسترخية ، منتشية على حافة البحيرة كما اعتادت أن تجد نفسها راغبة أن تنظر طويلا إلى صفحة البحيرة الزرقاء الهادئة ، وتستأنس إلى دغدغات نسماتها الخفيفة التي تداعب خصلات شعرها ، وهي ترنو إلى طيور النوارس التي ما تنفك تضج بخفقات أجنحتها فوق البحيرة ، ثم تدمدم بأغنية بعد أن يسحقها السكون ، فقد انتهى كل شئ يوحدها مع المدينة التي تركتها وراءها ، وأصبحت منفصلة عنها ، وغائبة مع نفسها ، وإن كل ما تريده أن تبقى في مكانها ، تعيش لحظتها دون اهتمام بشيء آخر ، وإن خرير البحيرة يغني لروحها ، ويجعلها تنتشي بتفردها عن الآخرين ، إذ أن هذه الليلة ليست كبقية الليالي ، فقد اختارتها بخطاها ، مستغرقة ، متوغلة في خيالها ، ذائبة في عرس لنساء عاريات في مياه البحيرة ، كن يقهقهن عاليا ، يلعبن في الماء ، ويتطاير رذاذه على وجوه بعضهن ، يمرحن تحت ضوء القمر الأبيض .ثمة رجال عراة في الجهة المقابلة من البحيرة يقفون متحفزين ، متوترين ، يطيلون النظر إليهن .سقط نجم سماوي .صرخ الجميع ، وألقوا بأنفسهم في المياه ، وسبحوا ، التقوا في منتصف البحيرة .التقت الأيدي ، و تشابكت . الشاب حصل على عروس ، والفتاة حصلت على عريس . هكذا تم العرس في وسط البحيرة أو تحت الأشجار أو فوق الرمال أو بعيدا عن البحيرة . تم العرس دون تعارف مسبق ، ودون أن يرى أحدهما الآخر ، أو يسمع عنه .

انتهى العرس !
أخذت تضرب بغصن جاف التقطته من الأرض جريان المياه ، وانبعث من صدرها صوت مضطرب ، ثم أخذ مجراه عذبا ، شجيا ، بلحن جميل كأنه ترتيل ممزوج بالفرح والحزن ، كان من خلقها ، انتشرت كلماته منسجمة ، قوية كصدى فوق البحيرة . كان الصوت يخرج من أعماق نفسها مما تيسر لها أن تطلق تأثيراته تعصف بسكونها ، فانداح صدى الأغنية محاكيا طيور النورس ، ومعانقا وجه القمر الساطع ، وكما هيأت لها أن تطفي بعضا من قلقها لهذا العرس الغامض الذي ارتسم في عينيها متراقصا ، باعثا أشياء مجهولة في داخلها ، و الأغنية تعلو ، و تنخفض أشبه بإيقاع منسي .
نهضت غائرة في تيه العرس ، العرس يظهر ، ويختفي على صفحات مياه البحيرة ، تلوح لها الأجساد العارية ، تتموج ، تتأرجح كأي لغز يلهث أمامها بوتيرة أسرع ، ثم يتباطأ ، يتلاشى رويدا رويدا ، بعد أن أطلقت صرخة فزع : ( أي ) ، متلبدة بصيحات : ( كو ، كو ، كو ) ، لسرب من طيور النورس مرق فوقها ، وراح يتهادى فوق البحيرة . هذا أدهشها ، إذ رأت واحدا منها ، قد عاد إليها ، وأخذ يطير حولها ، ثم داهمها ملامسا بجناحيه رأسها ، مصفقا لها ، فسمعت رفيفه العذب ، وهي تختفي بين الأشجار ، وتكرر مع نفسها : ماذا يريد ؟!
تطلعت حولها ، وألقت نظرة سريعة على أزهار برية ذات ألوان ناعسة ، أرخت بصرها إليها ، واستلقت بينها فوق عشب أخضر ، وشبكت يديها تحت رأسها ، وهي تتنشق هواء طليق ، وحرية كاملة . كانت مشرقة الوجه ، يتوهج قلبها فرحا ، إذ تبهرها هدأة الليل النادرة ، ويبهرها القمر بعلوه ، وضوءه الذي ينعكس على صفحة المياه .استرقت السمع إلى خرير البحيرة الرقيق ، وحفيف ناعم لأشجار البلوط ، والصنوبر .تأكدت أن جمال الأزهار لا يبعث رائحة زكية ، وسوف لن يتضوع جسدها بشذاه . تأسفت ، ورغبت أن تصدق أشياء كثيرة . حينئذ تعلقت عيناها بنجم تائه بين أساطيل النجوم ، يشع ، وينطفئ ، ثم تلألأ أشبه بثرية ذهبية تتدلى فوق الأرض ، إنه نوراني ، علوي ، لطيف . لم تر مثله أبدا ، فراحت تتضرع عيناها إليه ، تتعبدان من أسفل ، من كثافة الأرض ، من ظلامها ، و تطلبان عطرها الخاص ، وقد بدا لها أن وجهه ينظر إليها من علوه ، من نوره ، من لطفه ، فلم تجد تضادا بين علوي وسفلي ، بين النور الذي يقابلها ، وبين ظلمة الأرض التي تقابله ، عالمان متقابلان لا فضيلة لأحد على الآخر ، فخاطبته بتوسل : ( افتح عينيك ، وانظر إلي ! ) . ودت أن يقبلها قبلة رقيقة ، قبلة لامتناهية تحي بها روحها ، لأنه الوحيد القادر أن يخرجها من ذاتها ، ويستقبل فرارها ، ثم ينحني ، ويطعمها بذلك الشغف الإنساني المجبول بكل كوكب سيار ، المجبول بكل قطرة من السماء ، فما عليه إلا أن يسلك طريق النزول إليها ، ليسد حاجتها ، ورغبتها في الفضيلة ، لم يعد أمامها إلا الانتظار ، وتبقى مستلقية على الأرض فترة طويلة ، لأنها كانت تراقب نفسها في ضوئه ، وترفع ذراعيها إليه ، وتخاطبه : ( تعال ، قبلني ) . افترت على وجهها ابتسامة عذبة ، ترنمت ، ثم سرحت في عوالم خضراء ، وحمراء غائمة ، ومتوهجة ، وسبحت في قوس قزح ، وتمتمت مع نفسها : ( انتظر سأريك من أنا ) ، وجنحت إلى التعري من ملابسها ، كاشفة عن نفسها تماما ، كاشفة عن عري جسدها ، وروحها ، فشع سحر ، ووهج جسدها في أحلى ، وأبهى جمال ، ثم قالت : ( الآن لن تنظر إلا إلي ، الآن لن تغسل بضوئك إلا جسدي ، وتطبع قبلة في عنقي ) . كانت تجد نفسها انعكاسا رائعا له بتوقدها الكامل تحته ، وقد تخلت عن ذاتها منتظرة . لم يدم انتظارها طويلا ، فشرعت هالة النجم تنزل ببطء ، وتقترب منها ، وتحيط بها ، ثم اختفت برمشة عين ، وظهر نورس يخفق بجناحيه ، و يدور حولها . لم يفزعها في هذه المرة ، بل رأت رؤية عينية أن النورس يخلع لباسه السماوي أو لباس الطيور ، ليرتدي لباس البشر ، ووجه وجهه إليها ، واقترب منها في كمال جسم بتماثله ، وتشابهه في الصورة الإنسانية ، قائما عليها ، فأحست إنها تشم عطره الخاص الذي طلبته من معينها ، وقد ألفت نفسها في عرينه ، يلمس مفاتنها برقة ، ويشملها كثوب ناعم . لاذت بالصمت ، وكانت الابتسامة لا تفارق شفتيها لهذا الاختيار السماوي ، وهذه الرغبة التي اجتاحتها . شعرت أن العطر أنفاسا على وجهها ، يهسهس ، ويدغدغ عريها ، ويزرع طعما لذيذا في الكثبين الرابضين فوق صدرها ، ويزحف إلى الشفتين الهامستين : ( من أنت ؟! ) ثم تستقر قبلة خفيفة على جبينها ، وتلتقي كفها الباردة كفه الدافئ . تشبثت بها ، فتسرب نبض هائج إلى دمها .بحثت أصابعها في راحة يده ، لتتأكد من يده ، ولتتأكد إنها ليست وحدها ، و إن جسدا جميلا آخر ، أيقظ شهوتها .مسدت بأناملها وجهه ، وشفتيه ، فأيقنت إنه كمال جسم طبيعي إنساني ذو نفس .انتظرت كي ينطق ، ويكشف عن نفسه ، لمحت في عينيه اشتهاء ، وتفحص ، ودموع ، مما أغرقها في ترحيب ، وخدر ، فهمست مرتبكة : أنا لك ؟!
حاولت أن تستنطقه بقبلاتها ، وعينيها المتوسلتين ، ويدها التي أخذت تداعب ظهره برفق شديد ، وتمتد إلى رأسه ، تمسك شعره ، وهي تكاد تصدق أن لسانه سوف ينطق ، فقد لفها بين ذراعيه القويتين ، وكومها في حضنه ، وفتش بشفتيه عن نحرها ، فأحاطت هي عنقه بين ذراعيه ، وقد غلبتها رعدة لذيذة لأن رأسها كان مرفوعا إلى وجه القمر ، وإلى هياكل من كواكب مضيئة كما لو إنها كونت لها ، اختصت بها ، دبرت لها هذا اللقاء كنعمة علوية ، كاعتبار لأناها ، لتقضي حاجة اختيارية لمخلوقة بشرية ، أرادته أن يدخلها في اللذة الذي تميزت بها أنوثتها ، الذي تميز به نوعها ، كهيئة نفسية ، وجسدية مستعدة ليكبر سموها في هذا العنفوان ، إلا إنه لم يذرف لزوجة نوعه في جنسها ، لم يفعل كما أرادت رغبتها الجامحة الملتهبة ، وصهيل أنفاسها ، كانت تحس بقوة ذكورته فوق حجاب الشق المختفي بين كثبان الشعر الأصفر ، ومثلثه الحرج ، ظل وجهها موجها إلى ضوء القمر الفضي ، متوهجا فيه ، منغمسا في حنانه بلا مبالاة كزهرة بيضاء تذوي نفسها تحت أشعة اللذة ، لتجري روحها خارج الوجود البشري ، لأن رأسها يهتز ، وشعرها يهفهف لمتعة لا تعرف نذرها ، ولأن جسدها الأبيض أصبح مقيدا بالضوء الذي تغفو تحته المدينة ، ثم في لحظات كهذه كانت نظراتها خاطفة نحو السماء ، والبحيرة ، والأشجار ، لتبرق الأشياء في اتساع عينيها ، وتترصع في بؤبؤهما ظلال ، وعصور قديمة ، وعالم طليق .كانت متقدة ، ممتلئة ، بعطر أنفاسه ، رشيقة ، مغرية ، لم تذوب بين ذراعيه ، لم تغمض عينيها ، بل تأوهت بحدة مثل أنغام الليل الوحيد ، وأكدت أناها فيه . هنا في هذا المكان العجيب ، الساحر ، الذي استعدت فيه ماريا أن تتأجج هيئتها لقبول نوع الأنواع ، نازلا ، هابطا ، من رقيه إلى ظلام الأرض ، بذات صفاته ، بذات غايته ، لم يكن أن يسد فقط حاجتها الأنثوية ، لم يكن فقط اعتبارا لجمالها ، فهناك أشياء أخرى تختفي وراء الروحانيات في التضاد ، جزئي أو كلي يحرك طبعها ، لذلك افترت شفتاها بصوت ناعم : أجئت لتأخذني ؟!
لزم الصمت كأن هذا الشيء لا يعنيه ، فأرقدت رأسها فوق ركبته ، ثم دفنته في حجره ، وتطلعت إلى وجهه ، تأملته ، فلمحت في عينيه نظرة حب ، وبدا لها أن روحها تذوب الآن في هاتين العينين ، وإذا بها تنتفض ، وتنهض ، وتحدق إليه بغضب ، وتصرخ كأي مخلوق بشري لا يستطيع أن يخفي انفعاله في هكذا حدث : هل تحبني ؟
قفز من مكانه ، وأوشك أن ينطق ، وهو يكاد لا يعي هذه المفاجأة التي جعلته يتسمر في وقفته ، ويصوب إليها نظرة بلهاء .اقتربت منه ، وقد أثارت نظرته المتفحصة استغرابا لديها .رفعت عينيها إلى وجهه ، و همت أن تطوق خصره بذراعيها ، إلا أنه تراجع إلى الوراء دون أن تغادر وجهه النظرة المدهشة .ضمت وجهها بيديها ، وبكت ، وهي تتلعثم بالكلمات : من تكون ؟!
همت أن تمضي عارية ، تطوف في شوارع إكشو ، لكنها عادت إليه ، وطبعت قبلات مشوشة على صدره ، قائلة : من أنت ؟
سحبته من يده إلى المياه ، أو بالأحرى جرته جرا ، ليغادره الذهول الذي انتابه .خافت أن تغرقه المياه ، وتأخذه منها ، لذلك وقفت عند جرف البحيرة ، وراحت تلاعبه ، وتتبارى معه ، وتقفز ، وتعبث بجسده ، وتضحك ، وتسقط نفسها ، ليرفعها بين ذراعيه ، ويحتضنها إلى صدره ، وهي تكركر ، وتقهقه ، وتراقص ساقيها في الهواء ، وتهز رأسها ، وتردد : اتركني .
مشى بها ، ووضعها بحذر ، ورفق فوق المياه ، وأطال النظر إليها ، وتهدج صوته : ماريا .
أدهشتها كلمته ، فها هو يكلمها مكالمة حسية ، يفطر الصمت بها . وقفت تتطلع إليه مبتهجة في بادئ الأمر ، ثم تقدمت إليه ، وألقت بنفسها بين ذراعيه ، ورفعت عينيها المليئتين بدموع السرور ، فهتفت : أنت تعرفني .
بدا ساكنا ، مرتبكا كأنه أفشى سرا إليها . رفع بصره إلى السماء بنظرة حزينة ، مأسورة أما ماريا فقد انتبهت إلى صراخ عال جاءها من البحيرة . أفلتت نفسها منه ، تراجعت إلى الوراء ، واستدارت ، رأت النوارس تحلق مضطربة ، ألأنه نطق باسمها ؟ سألت نفسها ، وقد لاذت بالخوف الغير معروف ، وأصابها صمت أخرس . اقترب منها ، وحملها إلى الثرى الأخضر ، ليعيد الطمأنينة إليها ، وهي تنظر إليه ، وتتأمل ابتسامة لطيفة ، مثيرة على وجهه ، وقد حاولت أن تقنع نفسها إنه من مملكة النوارس ، ذلك منحها الاعتقاد أن رغبتها قد اكتملت في هذه الليلة ، وتحققت حين فازت بالمثل الأعلى ، فتركت لنفسها تبيح ما تريد بغية أن تسلك بذاتها طريق الصعود إلى حاجتها كمخلوقة بشرية ، كنوع مستعد أصلا ليرتقي بذاته المتنازعة مع الوجود الدنيوي . أجلسها على العشب ، وراح يقطف أزهارا ، ويصنع منها تاجا ، وضعه على رأسها ، واحتضنها ، وهبط على وجهها بقبلات حارة .ظلت تعانقه قدر ما تشاء ، تعانقه ، وهي تكاد لا تعرفه ، لا تعرف قدر ما تشاء عن جسده ، أدركت أنه لم يكن مثل الآخرين . نهض واقفا ، يتطلع إليها كأنه قرأ أعماقها ، استدار ، ومشى ببطء مبتعدا ، فقفزت بعجلة من مكانها ، ووقفت ساكنة ، تنظر إليه بذهول ، كانت مشدوهة ، بلا إرادة ، مستسلمة ، وشفتاها تنطقان ، ترتجفان : إلى أين يذهب ، أين مكانه ؟!
هكذا اختفى عن بصرها بين الأشجار خاشية أن تفقده ، وخاشية أن يرحل إلى مكان بعيد ، إلى كوكب مدبر ، ومدار ، سيار في فلكه ، في نوره ، في علوه ، عندئذ أدركت إنها ارتبطت به ، وخضعت له ، فلم تعد نفسها منفصل عنه ، ولم تقدر أن تفك ارتباطها به ، ففي لحظة اختفاءه تأكدت إنها توحدت معه أمدا طويلا ، لانهائيا ، غطت عانتها بيديها ، وتحسست فخذيها ، تيقنت إنها لا زالت عذراء ، إنها فهمت الآن ، فهو لم يريدها أن تفقد عذريتها في العراء .استدارت ، وتقدمت إلى ثيابها ، ارتدتها ، ثم رفعت تاج الزهور من الأرض ، واعتمرته كأية ملكة دنيوية ، حينئذ شقت طريقها بين الأعشاب ، والزهور ، والأشجار عائدة إلى بيتها تحت ضوء القمر .

اللغز الثاني : الإخصاب
استكنت ماريا مذهولة في صمت الليل ، تتأمل الوجه الآخر له ، وجه مرتبك ، محبوس مثل الدموع في عينيها ، فثمة شئ واضح أن تحلق بذاتها . لم يكن هناك شئ يمنعها أن تحلق بعيدا ، ذاتها التي فرض عليها الحب ، والتي أوقدته هالة سماوية ، وتفوقت عليها ، دعتها أن تحلق في حلم ، رغم أن قلبها شغف أن تحلق بجناحين ، لا تملك جناحين ، لا إستطاعة لها أن تملكهما ، ولا قدرة لها أن تحلق دونهما ، ولا قدرة لها أن تبدعهما ، لذلك تحلق هي دائما في حلم . طفرت الدموع من عينيها كخلاص من ألمها ، فهي مجروحة ، محتومة ، محكومة بالتسليم لقدرها مهما كانت عارفة بذاتها ، غير قادرة على نفي ما حدث لها ، فها هي ترى صورته في خيالها ، ترى تغيره ، انتقاله ، وهي تعرف أيضا اختلاف وجوده حيزا ، ومكانا ، وتعرف منزلتها عنده ، واستحقاقها له ، أرادت أن يكون هو في رعايتها ، ، في قدرتها ، أي أن لا تكون هي متروكة بين وعد ووعيد ، أو بين اختيار وامتحان ، هذه بينة قد تكون مستحيلة لها ، قد تكن منكرة من قبله ، فها هي تتألم لذاتها الواحدة التي لا أوجه أخرى لها ، ولا صفات أخرى وراءها ، هي بمعناها القائمة بذاتها ، لذلك تتألم أكثر من كائن آخر ، تتألم لأنها لا تستطيع أن تبدع جناحين ، وتحلق إلى جزيرة خضراء جميلة ، إذ هناك تنصاع إلى زقزقة ، وتغريد ، وهديل ، تستريح فيها ، يلفها ضباب صباح أبيض . إنها تتألم كثيرا في قفصها الدنيوي ، مرغمة ، عاجزة ، تنظر فقط من خلال نافذتها في الطابق الثاني إلى البحيرة ، إن أناها لا زالت تصبو أن تحلق طائرة تحت السماء ، فوق الحدود ، والبلدان دون أن تشل جناحاها ، دون أن تسقط في حرائق الحروب ، ودخان الأرض الذي يترصد سقوطها .كان حلمها يمتد كمحلقة مع نورسها المجهول ، يمسكها من يدها ، يرسم معها خطوطا متوازية ، ودوائر تماس ، يعانقها بين السحب ، وفي الأمطار ، عناق الليل تطفح منه أضواء من القبلات تصافح تلك النجوم المتلألئة فوق الأرض .

تحلق في حلم عذراء
حلم لا نهاية له
وبينما هي في حلمها لم تستطع أن تقنع نفسها إن ما تشاهده طائر النورس ، يضرب بجناحيه في الهواء قبالة ضوء نافذتها ، حاملا بمنقاره عنقود عنب .عزمت أن تصدق وجودها ، وتحفز نفسها أن تخرج من مداها ، وأن لا أحد يسرق انبهارها ، واستسلامها لغبطتها ، ثمة رفرفة خفيفة لجناحيه تدعوها :افتحي نافذتك ، يا ماريا .
كانت الرؤية واضحة ، ودعوته أيضا واضحة ، وأنه قريب منها ، يحدق في وجهها بعينيه الصغيرتين البراقتين ، كانت مرتبكة إلا أن حضوره جردها من كل قلق كي تستقر الطمأنينة في نفسها . فتحت النافذة بسرعة ، ورفعت يدها اليمنى ، حط عليها ، وهي تصوب نظرها إلى نظره ، أخذت بيدها اليسرى عنقود العنب ، وقربت فمها من منقاره ، وقبلته . رفع رأسه ، وفرد جناحيه ، وحط على سريرها ، وهو يطلق صرخاته ، ويمشي ، ويقف متلفتا ، ويقفز فرحا فوق فراشها كأنه في عش دافئ ، بينما أخذت هي تطعم نفسها حبة ، حبة ، وتمضخها ، وترى صورته مشوهة _ هالة سماوي ، كائنا بشريا عاريا _ اقتربت من سريرها ، ورمت نفسها عليه ، فانساحت في الصور _ ملامح جسده العاري ، عريها المفاجئ _ كل شئ اجتمع في غرفتها لتجد نفسها مع الوقت تقبع في الظلمة ، وإنها بين ذراعيه ، تلثم جسده ، وتغوص في عبيره ، و تردد : أي طائر سماوي أنت ؟ آه ، عدت إلي .
كان يلبي نداءها ، ولهيب جسدها ، ويمنحها القوة أن تكون نفسها ، ترفع ذراعيها في الفراغ ، تباعدهما ، تفتح عينيها على وسعهما لترى وجهه أشبه بشعاع تسرب إلى روحها ، وهو يسمع فحيحها ، وصرختها : ( أي ) ، أما هي فأحست بسائل دافئ تسرب إلى أنوثتها ، سقط في رحمها . أغمضت عينيها ، وذابت في حمى شهوتها ، ثم استرخت في لذتها ، في سكونها الذي فضلت أن تحطمه بسؤالها : ( ما اسمك ؟ ) .كان يجيب عليه بصوت خفيض ، وهو ينحدر جانبا من فوقها : ( أوه ) . وفي هذه اللحظة المقدسة عاد إلى كينونته الأخرى ، وانطلق فاردا جناحيه إلى رحابة الكون . تبعته إلى النافذة بائسة ، مفتوحة الذراعين ، كاشفة النهدين ، وأطلت بصدرها تفتش عنه بين نجوم السماء الساطعة ، فتوارى متلاشيا في الأبعاد السماوية هالة بيضاء مضيئة . أضاءت الغرفة ، ورفعت الشرشف الملطخ ببقع الدم من السرير بارتباك ، مسحت ساقيها به ، وأخفته في خزانة الملابس ، وأبدلته بآخر . ارتدت ثوب المنام ، ونزلت بعجلة ، غائبة عن نفسها . كادت تتعثر على الدرجة الثانية من السلم ، وتتدحرج على درجاته العشرة . كان من المستحيل في مثل هذه اللحظة أن تسقط ، وتتدحرج عليه ، فهي ترى درجاته بوضوح ، فهي نفسها ماريا التي ركضت على هذا السلم ، ولعبت فوقه منذ أن كانت طفلة . وقفت منفوشة الشعر عند عتبة الباب رافعة ذراعيها إلى أعلى صارخة صرخة طير : أيقظتني ، وتركتني .
سارت بخطوات سريعة ، تستهدي للبحث عن جدوى بقائها في دنياها التي أحستها سفينة غارقة في بحر الشمال ، وهي تردد مع نفسها كلمات كانت تضج في رأسها : ( غاب عني ) . خففت وطئ قدميها ، ووقفت واهنة على حافة البحيرة ، ملقية نظرة متلهفة على المياه ، تلتمس الشفقة منه ، مبحرة في إيقاع خريرها للولوج في لغز هذا الطائر السماوي ، الذي اختفى بين سطوع النجوم ، تاركا إياها مأخوذة باللغز ، والحيرة ، فقد اجتمعت اللذات في سر ، واجتمعت الآلام في سر لذات ، وآلام قد تكون خالدة ، قد تكون خامدة ، وقد تكون ابتدأت ، وقد تكون لا نهاية لها . حاولت أن تهتدي بالصمت الجاف ، بالنظرات المتوجسة إلى المياه ، لتستكشف هذا السر الدائم الذي لا أول له ولا آخر له ، بعد أن زرع النورس نطفه في رحمها ، وجعلها محكومة به ، تغالب نفسها كي تستقر في استغرابها : إذا كان هذا عرس فقولي لي أيتها المياه متى يأتي إلي ؟!

هذا ما قالته ، وهي تنظر إلى ما تحت قدميها ، وقد اصطبغ وجهها بالخجل من نفسها شابكة يديها إلى بطنها ، وجسدها النحيف يرتعش ارتعاشة طفلة ، ثم امتدت إلى رحمها ، وراحت تغسله بانفعال كأنها تطهره ليصبح جسدها نقيا في مياه براقة ، مدركة أن قطرات من الدم لا تلوث البحيرة .أزالت الدم ، والمياه الرقراقة الجارية أيضا أزالت الدم ، كان ذلك أشبه بطقس للمغفرة عند مذبح مقدس ، تقدم الضحية قربانا للرب ، إلا إنها كانت تحني ظهرها ، وتتطهر في المياه ، وتشحذ نفسها أن تنتصر على ظلها فوق المياه ، وتنتمي إلى أسطورة مملكة النوارس ، المحرومة منها بنات جنسها ، ليكن هذا انتماءها دون الخلق البشري ، أجهشت باكية ، ثم أخفت وجهها بيديها ، لتضفي صحوة الأنوثة على البحيرة ، وتبدأ نقطة رحيلها من تجمعها الإنساني ، تنفصل عنه بطبيعة أخرى ، كاشفة عن المقدس في ما وراء السائد في الحياة ، أما الدماء فقد فقدت عظمتها في المياه ، فجأة اسودت السماء ، وغطى البحيرة ظلام دامس ، ما لبثت أن رفعت رأسها ، وأجالت بصرها حولها ، فهبط مطر غزير راح يغسل شعرها ، وجهها ، وجسدها ، ويخفق فوق البحيرة ، فهتفت : أهذا حب ؟!
تردد هتافها الطويل فوق المياه بعيدا في الظلام ، واختلط مع صوت المطر ، وهي ترتجف ، وتتحدى الظلام ، والماء الذي تحتها ، والمطر الذي يهطل من السماء ، وذاتها الدنيوية التي ضاعت في الصدى الليلي . توقف المطر ، ولاح القمر شاحبا ، باهتا فوق البحيرة ، وتناهى إلى سمعها صوت خافت يخاطبها من الأعالي : ستلدين ذكرا يا ماريا… سميه آدم !
تراجعت إلى الوراء مرتعبة ، وهي تكرر مع نفسها : ( هذا صوت سماوي ) ، وهي تسحب نفسها من المياه ، ثم أسرعت في مشيتها متقهقرة ، هاربة ، متلفتة ، ودخلت البيت لاهثة ، تلتقط أنفاسها بصعوبة ، فلمحتها أمها ، هرعت إليها ، قائلة : ما بك يا بنتي ؟!
احتضنتها بين ذراعيها ، فأحست بالحمى التي في جسدها ، فتمتمت خائفة : انك مريضة ، يا ماريا .
ونادت بصوت عال على أبيها ، فهب الأب إليها ، وعندما رآها تسند بنتها ، وتمسك بها كي لا تسقط على الأرض ، ارتعب ، وخلال لحظات أصبح قربهما و هو يسأل بصوت أبح : ما بها ؟
فردت الأم : إنها مريضة .
أسندها بذراعه ، وصعد بها على السلم إلى غرفتها ، وتركها مع أمها ، التي أبدلت ملابسها من أثر ما أثقل به ثوبها من بلل بأخرى جافة ، وجسمها يرتعد خوفا وبردا ، ودثرتها بالأغطية ، وهي تتلمس جبينها الحار ، ووجنتيها المتقدتين من شدة الحمى ، وتحاول أن تستنطقها : ماذا جرى لك ؟
أجابت بصوت متلعثم ، و هي تغمض عينيها : لا شئ .
انسحبت بهدوء ، وأطفأت الضوء ، وغلقت الباب ، والأم تسأل نفسها : ماذا جرى لها ؟
بينما كانت ماريا تذوب عيناها في رؤيا جسده قبل أن تغمض عينيها ، جسده ليس كالأجسام البشرية ، له يد ناعمة ، ورجل ناعمة ، ورأس مدور ، ولسان فيه طعم لذيذ ، وأذنين رقيقين ، فهو لا يشبه المخلوقات البشرية تماما ، لأن عينيه تبرقان شعاعا أصفر ، وبشرته ملساء ، بيضاء ، وشعر رأسه طويل ناعم ، ومجعد من أسفله ، ومن أصابعه كان يتسرب الدفء إلى جسدها ، فهو لا يشبه البشر ، لا في يده ، ولا في وجهه ، ولا في كامل جسده ، رأته في أحسن كينونة ، في أحسن صورة ، هكذا صدقت قلبها ، إنه نزل من العلو ، من فوق عرشه ، نزل بصورة شخص .

اللغز الثالث : الزيارة
ظلت تلازم الفراش رغم التحسن الذي طرأ عليها ، تستحضر وجهه ، والشعاع الأصفر المنبعث من عينيه ، وعطر أنفاسه اللاهثة مع أنفاسها ، لا تدري ، ماهية هذا الارتباط ، هل اختيرت لتنفك من عالمها الإنساني أم هي ذاتها لتكون في انبثاق جديد من صلب مجتمعها البشري ؟! غالبا تجد نفسها عاجزة أن تكشف لغز هذا الارتباط الغامض ، ناسية إنها تنتمي إلى عالم دنيوي ، وغالبا ما تنهض في الهزيع الأخير من الليل ، يؤرقها الليل ذاته ، وتقف قرب النافذة مشدوه ، يداعبها نسيم البحيرة البارد ، وعطر الأشجار ، والأعشاب ، فتذهب بعيدا في عمق الظلمة ، مترقبة ظهوره ، منتظرة لحظة اللقاء به ، وكذلك تناجي نجمها التائه إذا ظهر في السماء ، و تكرر مع نفسها : عله يعود !
أحيانا ترفع عينيها مذهولة نحو السقف كما لو إنها لا تريد أن ترى شيئا خارج غرفتها ، أحيانا تضع يدها فوق بطنها ، تزحف عليها ، وتبقى جامدة في الفراش . لم يدر بخلدها على الإطلاق أن تجهض الجنين ، إنه أصبح محبوبها ، لذلك قررت أن تدافع عنه بقوة جسدها ، وتنبذ خمولها ، ووهن جسمها ، وغثيانها ، وتتمسك به مهما كلف الأمر ، إنها ستلده مهما كلف الأمر ، و ستصبح أما وحيدة بتميزها عن بنات الدنيا مرتبطة بالمجهول ، والاختيار السماوي ، أجل ، ستلده من أب طائر غائب . إن ما يهمها أن تلده ، وتعيش من أجل طفولته ، تذكرت طفولتها ، كم كانت جميلة ! كانت أمها تأخذها بين ذراعيها ، تداعبها ، تقبلها ، كم كانت مدللة ! كان الأب يحيطها بالرعاية ، والرقة ، والحنان . لم تبوح ماريا لأحد إنها أحبت اللعب قرب البحيرة ، فقد كانت مهووسة بها ، وتستهويها المياه ، كما كانت مهووسة بالغابة التي تواجه البيت أشبه بقوس أخضر ملتف حول البحيرة ، كم كانت مفتونة بأزهار الغابة غير الذابلة ، غير ذات أشواك السيقان ، تنحني ، تقطفها ، تستكمل باقتها برحابة ألوان بهيجة شفافة : حمراء ، صفراء ، بيضاء ، ثم تستلقي على العشب ، وتبحث في ذهنها عن المجهول الغامض .
كانت متمددة على ظهرها في فراشها ، وعيناها مثبتتان إلى السقف ، وقد وجدت نفسها غير قادرة على النوم ، ثم راحت تتقاطر عليها صور كثيرة ، إنها لحظات توقظ لديها استفسارات لا محدودة ، أين الطائر السماوي ؟! أين عرشه ؟! لماذا زرع نطفه في أحشائي ، وتركني ؟! من أنا ؟! لو لم ترتبط به ، ما عسى يحدث لها ؟! ثم انهالت عليها صورته الكاملة ، واستفاق عندها انهمار في ملامح وجهه البديع التكوين ، ونغمة كلمته الوحيدة : ( أوه ) التي تسللت رائقة مريحة إلى قلبها . فجأة باغتها صوت أصبح أليفا لها ، أيقظها من شرودها : ها ، ها ، ها
_ ماذا اعتراك يا ماريا ؟
انتفضت في فراشها شاحبة الوجه ، هزيلة الجسد ، وهي تنظر إلى نافذة الغرفة حيث كانت النافذة مفتوحة ، والباب أيضا مفتوحة ، فلم يحط طائر على حافة نافذتها ، ولم يدخل أحد من باب غرفتها ، إذ لا أثر لأحد ، تكرر الصوت : ماذا اعتراك ، يا ماريا ؟
فسألته خائفة : أين أنت ؟
مرت برهة متشحة بالقلق ، فتابع الصوت قوله : يبدو أنك مريضة .
فسألته مرة أخرى : أين أنت ؟
فأجاب : أنا هنا ، جئت لزيارتك .
ضمت وجهها بيديها ، وصرخت باكية : أين أنت ؟
فغضب الصوت ، وقال : أنا هنا ، بكائك يؤلمني ، البكاء لا يناسبك .
ثم أردف قائلا مهدئا إياها : لا تفزعي ، النورس يحبك ، النورس يحلق فوق القارات السبعة .
مضت لحظات مشحونة بالخوف ، بالارتياب ، بالدموع ، ثم على حين غرة سقط في حضنها خاتم ، وواصل الصوت قوله : البسيه يا ماريا ، لا تنزعيه على الإطلاق ، البسيه في اليد اليمنى !
ثم اختفى الصوت ، واختفى قلق وحزن ماريا ، عندما أغلقت يدها فوق الخاتم لئلا يفلت منها ، وجعلته يستقر في قعر يدها ، تلمسته برقة بأصابعها الناعمة ، ثم فتحت قبضتها بحذر ، وراحت تتفحصه برهبة _ خاتم ذهب فصه حجر كريم أخضر متلألئ _ ألبست إصبعها فيه ، ورفعته إلى شفتيها ، قبلته كاتمة تنهدات مؤلمة ، فقد هبط عليها أمل أخرجها من حيرتها ، لتسترسل في دهشة البهجة ، وقد كبر تعلقها بالصوت المجهول ، وكبر تعلقها بهذا الخاتم ، فهي لم تكن منسية ، وإن ما حدث لها لم يكن شيئا عابرا ، فها هي لم تتمالك نفسها من شدة الفرح ، ولا حاجة لها أن تهتدي بالكلمات ، وتقول شيئا الآن .ارتدت ملابسها ، ونزلت ببطء على درجات السلم ، وخرجت من البيت .كانت السماء تتلألأ بالنجوم ، بيد أن القمر كان غائبا ، والماء يتأرجح في البحيرة ، مما جعلها تستسلم إلى سحر المياه ، وتنزلق إلى صمتها ، وتهيمن عليها جلالة الليل ، لاحظت حركة قربها ، التفتت مدهوشة ، رأت سنجابا يتسلق جذع شجرة البلوط ، فهتفت في داخلها بكل سرور : ( إنه سينقر حبة بلوط ) . أرادت أن تستريح ، وتتحدث مع المجهول ، وتهرب من ذاتها لأن هناك شئ آخر كامن في بطنها ، وهو حملها .جلست على مصطبة قرب حافة البحيرة ، فأحست إنها لا تقدر أن تتذوق الأشياء كما كانت سابقا ، إذ أن هناك احتدام في داخلها أي إنها لا ترغب أن تلتقي أحدا ، كان ذلك يزعجها ، ويزعجها أيضا شئ آخر ، ماذا سيقول أهل مدينتها الصغيرة عن حملها ، هذا سيثير الرهبة عندها ، قررت في نفسها أن لا تكترث لذلك أبدا ، قررت أن تنفر من أي شخص ينظر إلى بطنها بضيق ، وتنفر من أي سؤال : ( من أين جاءك الحمل يا ماريا ؟! ) أحست بأن هناك تغير قد حدث في كينونتها جسدا وروحا ، وما عادت نفسها ماريا ، إذ لم تكن لها سوى رغبة واحدة أن تنجب طفلها بسلام ، لقد اختارت عزلتها عن الآخرين .خيل إليها أن ( أوه ) يختفي بين الأشجار ، ربما _ بزي آخر أو بشكل آخر ، وإنه يراقبها ، ويتلصص عليها أو أنه وضعها تحت تجربة طويلة مريرة ليكتشف حبها له ، وولائها له . كانت أضواء السيارات تومض في الطرق قبالتها ، وتنزلق على البحيرة ، وينتشر هدير الشاحنات الكبيرة في الهواء . بقت تراقب الأضواء ، ثم انطفائها ، توهجها ، واختفائها السريع . ثمة نجم وليد ظهر لها خلف الغابة ، يرتعش ضوءه أمامها ، كأنه يخاطبها : هذا أنا .
هدهدها صغره ، وضوءه ، وتحرره من الظلمة ، فانتابتها حركة مفاجئة ، وسريعة ، إذ وقفت تتأمله ملهمة به ، فشع لمعان من خاتمها ، وصار يبرق فوق البحيرة ، فبرز ذنب طويل من النجم ، لم تدر ، لماذا امتدت يدها إلى شعرها ، ومررت أصابعها فوقه ، وكم ودت أن يطول شعرها مثل ذنب النجم المضيء ! عندئذ ستنسج منه ضفيرة طويلة تلامس الأرض حين تسير ، وسيفرح ( أوه ) كثيرا عندما يراها تتمختر في مشيتها ، ربما يحل ضفيرتها ، يمشطها ، ثم يضفرها من جديد ، وربما _ يمشي شفتيه فوقها أو يرقد رأسه عليها ، ويغفو أياما وليالي هاربا من رحلاته فوق البحار والقارات السبعة ، هاربا من الحروب ، والإرهاب ، والقتل الذي كثر في هذا العصر ، ( آه ، لو يغفو على ضفيرتي ، حينئذ سينتهي الفراق ، والضياع ) ، هذا ما قالته ، بينما كانت يدها تنزلق إلى بطنها ، وتخيلت طفلها يلعب على العشب الأخضر ، و( أوه ) يجلس قربها ، وينظر نظرة حلوة إلى مرح ونشاط طفله ناسيا نفسه في الزمن الدنيوي ، ثمة لحظة قصيرة ، لحظة أخرى أغرقت روحها في فيض الطمأنينة ، وعند ذلك تمتمت : آه ، لو أتمكن أن أعانقك أيها النجم ! أعانق صفائك ، و جمالك ، يا نجم السماء !
رفعت عينيها إلى السماء ، رأت نجمة كبيرة تسبح في الأعالي ، كان ذلك يبهرها : الضوء ، العلو ، الجمال ، كل ما يخص الفلك السيار .

اللغز الرابع : الولادة
حملته في بطنها ، طافت به الدروب ، وعانت ، حدثته خائفة ، فرحة ، ماسكة إياه في أحشائها بقوتها ، وأوجاعها ، تنتظر أن تلده ، وتخشى أحيانا أن تلده ، لكنها قررت أن تلده مهما يكن ، لأنها لا يمكن أن تكون أسطورة الحياة دون أن تلده ، وهي تريد أن تكون فريدة ، متميزة بأنوثتها ، إنها تلد طفل أعجوبة الأزمنة الحديثة ، فهي أما تكون بولادته أو لا تكون دونه ،لذلك قررت أن تلده ، وسوف تندم كثيرا إن لم تقدم على ولادته ، لأنه سوف يكون صورة منعكسة لوالده ، ستلده مهما كلف الأمر ، أليس إنها وجدت لكينونة من أجل الإنجاب ؟! أليس الصوت المجهول بارك حملها ؟! أليس ذلك تم من صلبها ؟! إنها ستلده ، وسيكون أبن ماريا . ذات مرة كانت تمشي في الشارع الكبير ، أحست بألم يعذبها في بطنها ، لذلك أرادت أن تستريح فدخلت حانة لتشرب فنجان قهوة ، وحين شرعت بالدخول ، وجدته مزدحما بالزبائن ، فقفلت راجعة ، وسارت بتمهل ، ثم وقفت قرب واجهة مقر ، رأت صورة كبيرة لطفل أفريقي ملصوقة في واجهة المقر الزجاجية ، وقد بدا على الصور مظهر معاناة في وجه الطفل ، و في نفس الوقت بدا الطفل شديد الألم ، شديد البراءة ، كان ذلك يثير الرهبة في عمق صمتها ، وهي تتطلع إلى الصورة ، وتسأل نفسخها : ( ماذا أصابه ؟‍ ) . اتجهت إلى ساحة المتحف ، وجلست على مصطبة صغيرة قرب نهير إكشو ، إنها أحبت هذا المكان لما فيه من دلائل قديمة ، ومغزى لتاريخ قديم . بقت جالسة مدة طويلة ، ناسية ألمها ، ولاح الشرود في نظرتها الحزينة ، ملتقية عيناها ببراعم في حقل زهور ، بدت لها البراعم مبتسمة ، مرحبة ، مواسية لنظرتها الحالمة الساهية ، غدت ماريا شامخة في روحها ، شامخة في صبرها ، فخنقت صيحة في أعماقها : ( تفتح ) ، إذ التفتح هو النهاية الطبيعية للبراعم . هكذا تورد خداها من فرط الإدراك : أن الولادة مكتملة لديمومة العجائب .إذن ستلده لأنه يخص ولادة مكتملة ، يخص انتصار أنوثتها ، انتصار أمومتها ، ستلده صارخا بدمها ، وترضعه من حليبها . نهضت مصممة إنها ستلده .
ذات يوم أجرى لها الطبيب فحوصات ، وأبلغها أن وضع الطفل طبيعي ، ثم نقل بصره بين جهاز الفحص وإليها ، انتابها الشك أنه كشف السر ، فسألته : هل هناك شئ خطر ؟! فأجاب متلعثما :لا كل شئ طبيعي .
إذن ستلده سليما ، لكن الكل يسأل ، الأم ، الأب ، الجيران ، زميلاتها في المدرسة ، المعلمات : ( أبن من هذا الذي تحملينه في بطنك المنتفخة ؟! ) . كانت تستقر في الهدوء ، والابتسامة ، والدموع المترقرقة في عينيها ، ثم تنزوي وحدها ، و تتمتم مع نفسها : ( أنه ولدي ) . ذات مرة حاولت أن تستدرجها أمها لتكشف السر ، فصرخت في وجهها : دعيني ، وشأني .
فارتابت من جوابها ، وألحت عليها أن تكشف سر الختم المشع ، فقالت بغضب : حصلت عليه .
هزت أمها رأسها ، متسائلة : من أين ؟!
لم ترغب في الحديث ، فقالت بصوت رقيق : هذا ليس شأنك .
في يوم ربيعي ، طلبت منها المرشدة في المدرسة أن تسقط الجنين ، وتنصرف إلى دراستها ، وتخطط لمستقبلها ، وسألتها : ماذا تفعلين به ؟
حدقت في وجهها غاضبة ، وخرجت من الغرفة صامتة ، ثم كلمت جنينها :آه ، يا طفلي الجميل ، ماذا ستفعل على الأرض ؟ تنقذها من الألغاز ، فهذا محال ، أتنتظر أن أجد لك أرضا جديدة ؟ فهذا أيضا محال . الأرض نفسها أينما تحل .
لكن الأوجه المتعددة اكتملت آلام التكوين ، وأوان المخاض ، والمعجزة ، والصعود إلى السماء ، اكتملت بشكل آخر ، بصرخة حانقة تفوق قدرة البشر ، لأنها تحملت ، ولأنها لم تعد تتحمل ، وتتمرغ في سيرها الليلي ، تتنفس رائحة تعبها في كل ليلة عندما يحين ظلامها :

أولا : المخاض
أجهدي نفسك ، وتخلصي من صرخة المواء ، وآلام المخاض ، مزقي جزءا من جسدك ليخرج من بطنك ، وتخرجيه إلى الحياة . افرغي أحشائك من ثقله ، إنه طفل من دمك ، ولحمك ، تشجعي على دفعه ، اصبري قليلا ، وخذي قسطا من الراحة ، لا تنسي إنه ذرية تكوين جديد على الأرض بطباعه ، وشكله ، وخلقه ، جسدا وروحا ، إنه لغز الخلق في الأسطورة ، والتاريخ ، الآن خذي نفسا عميقا ، وادفعيه بقوة ليخرج من رحمك ، الوقت يمر يا ماريا ، ادفعيه بكل ما تملكين من قوة ، هذا أول وآخر مخاض أنثوي خاص بك ، آه ، يا لتعبك ، و أنت تبذلين جهدك كي يخرج إلى الدنيا . العرق يتصبب من جسدك مع الألم ، والمعاناة . الوقت يمر ، يا ماريا ! أصوات علوية متواصلة تنتظر معجزة العصر لتختلط صرخة آدم السفلية معها ، وجوه نورانية بشوشة تنتظر أن ترى وجه آدم يشبه وجهها ، أقنعة علوية ، وسفلية ، ترتعش ، تتصادم ، وتصرخ : ( ماريا تلد ) . إنه مخاض ، إنه التكوين من لحمك ودمك ، يا ماريا ، ها ، قليلا ، وينزلق من بطنك ، ثم تخمد المعاناة ، وتسترخي في الفرح ، وحبك الأمومي .ادفعيه ، أين أبوه ؟! لم تعرف ماريا أين أبوه ؟! أهو نجم ظهر في السماء ، يحرس مولوده المنتظر أم إنه غائبا في الشرق يبتهج بولادة أبنه .كانت شاردة في المواء ، والصراخ الملتهب في الأوجاع ، والفزع .
صرخ الطفل !
خرج من رحمها مخضبا بالدماء ، والشهقات ، والاستغراب ، والحيرة .كان الطبيب يقلبه ، ويتفحصه ، ويحدق فيه غير مصدق ما تراه عيناه _ طفل بجناحين _ غسلوه ، وجلبوه إلى أمه ، وضعوه على صدرها ، كان الطفل يبحث بين نهديها ، يبحث عن حلمة نهدها ، زحف بفمه عن منبع الرضاعة ، أطبق على الحلمة ، و راح يمصها ، ويتشبع برائحة الصدر الأمومي ، احتضنته ماريا بين نهديها ، وأقفلت عليه باب نشوتها ، وداعبت فمه بحلمتها تحت أنغام دقات قلبها ، ثم انتحبت باكية ، وهي تكرر : ( آدم نعمة الرب ) ، فسألها الطبيب مندهشا : هل ستسميه آدم ؟!
فأجابت ، وهي تشمه : أجل آدم نعمة الرب .

ثانيا : المعجزة
أرضعته من حليبها ، وعلمته المشي على رجليه المرتجفتين ، وترعرع في غموض طيع سواء كان في حلم الليل أو النهار ، حلم مرئي _ طفل بجناحين _ أنجبته ماريا في مدينة إكشو السويدية ، هذه معجزة العصر ، تناقلته محطات التلفزة ، وأخبار الإذاعات ، والصحافة اليومية ، وتوافد العلماء والصحفيون ليتأكدوا ، ويدرسوا ، ويغطوا نبأ الخبر العظيم ، وهم ينظرون إليه مدهوشين ، متعجبين ، ويرددون مع أنفسهم : ( هذه معجزة الدنيا ) ، بينما ماريا لا تأبه لما يدور حولها ، و الصور التي تلتقط حركتها ، و حركة الطفل الأعجوبة ، و لم تكشف السر رغم المضايقات ، و الإلحاح عليها من قبل الجميع ، وهم يسألون : أبن من هذا الطفل ، يا ماريا ؟! كانت تكتم السر ، وهي تنظر إلى أبنها يحلق فوق البحيرة ، ثم يعود إليها فرحا ، وشعره يرفرف في الفضاء ، تأخذه بين ذراعيها ، وتقبله ، مبتهجة ، وتقول : أنت أجمل شئ في الدنيا . أنت تنتمي إلى عالم آخر .

ثالثا : الصعود إلى السماء
فتحت ماريا النافذة ، فتسللت نسمة الفجر الباردة ، تعانق وجهها ، وصمت غرفتها، ووقفتها المتشبثة باللغز الإلهي الساحر .
ما الأمر ؟!
رفعت آدم بذراعيها إلى أعلى ، بكت ، وخاطبته ، و هي ترمقه آخر نظرة : آواه ، يا ولدي ، لا أجد ما تفعله على الأرض ، طير ، والتحق بوالدك النورس الذي يحلق فوق البحار ، والقارات ، فموطنك السماء .
طار آدم إلى أعلى فأعلى ، ثم توارى عن نظرها ، وهو يطلق صرخة الصعود المتعالية صوب السماء برنين الحرية الذي لا يلجم .

28 .7 . 2005