| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

حمودي عبد محسن

 

 

 

الأربعاء 24/9/ 2008



العجوز وحفيدها

حمودي عبد محسن

كانت تلوذ بالصمت ، متلفعة بالسواد ، مغطاة الرأس ، تسبح بسبحة طويلة سوداء ذات خيط أخضر ، جالسة على سجادة في غرفة تعبدها ، وأخيرا تكلمت كمن يحدث نفسه ، وليس للآخرين ، كانت ترى نفسها في الأسابيع الأخيرة ، وقد صارت عجوزا ، لا فائدة ترجى منها ، وكأن وجودها ليس حقيقيا ، فكانت تستنبط ما ينفع حفيدها من حكايات ، وأساطير ، من كل هذه الأشياء ، تتخذ طريقة تحدد بها الأشياء ، ذات الفائدة لحفيدها ، وليسافر ذهنه عبرها إلى عوالم متعددة ، يكتشف كم هو مرتبط بها ، يتحسس منطقها عبر عتبة العبور إلى كون آخر ، ليرتبط بحياة جديدة ، قائمة ، غير مرئية ، ويشعر أن ذهنه ، ينطلق نحو هذه الأشياء ، يشعر حتى في الظلام بالارتعاش الخفي لعوالمه ، التي يتحرك فيها خارج نفسه ، محاولا تخيل نفسه كيف يجب أن يمضي بطفولته ، ويسقط في مواضع بلا زمان ، حيث يعود إلى نفسه ممتنا ، راغبا أن يسمع المزيد من صوت جدته المنساب ببطء ، وهدوء . كلام مدهش ، لا يكاد يصدق أنه يسمع هذه الأشياء ، ويلامس معرفة أنها له ، فالخيال يقدم إليه شيئا حقيقيا ، بهذه الأعجوبة ، هذا شئ ذو تفتح جديد يتناسب مع طفولته ، في بعض الأحيان يشعر بالقلق عندما تغط جدته في نوم عميق ، ويظل هو بعيدا عن دروسه التي بزغ بها العالم ، بمشاعر طفل في غاية الرقة التي غمرته ، وهو الآن يتذكر ما حكته جدته : كان يا ما كان في قديم الزمان …دير لطيف ، نزه عامرة ، نواحيه متنزهات ، بقاعه حسنة ، طيبة ، يقع على شاطئ بحر النجف ذات بساتين عجيبة وفواكه غريبة ، تسهل العيش للرهبان ، والراهبات ، فيه نافورة ماء ، وطيور جذابة ، يستقبل المضطرين من الصيادين ، وأهل الأسفار … في ذات ليلة جاء سيل عظيم من البحر ، مع عاصفة قوية ، فطفح الطوفان ، وأغرق الدير وأهله ، ولما هدأ الطوفان ، لم يبق من الدير إلا أطلال …
- جدتي هل نذهب لرؤيته…
- يا ولدي ، البحر جف ، والدير غطته الرمال ، فهناك الآن سوى الصحراء…

فهم ربما – قليلا من الأسرار التي تتحدث عن الجن ، والشياطين ، والأرواح ، والطقوس ، والرموز الدنيوية ، أن ذهنه في غاية البهجة ، من أسرار دنيا أخرى ، كم غريب أن يجد نفسه مع المراسم الخاصة بمدينته النجف ، لحظات عجيبة ، مدركا أن ذهنه يغامر خارجا من طفولته ، يلمس القديم ، ثم يمضي في الظلام ، والمجهول ، ودخول على الرؤيا ، وهو يحاول أن يمسح بعضها من ذهنه ، هكذا تحدث الأشياء عميقة ، غزيرة عنده ، يحاول أن لا يتحدث بها ، بل يسخرها لنفسه ، ويخفيها أحيانا عن نفسه ، أنها لا تتركه ، تزحف عليه عائدة ، وقد يصرخ في منامه من شدة ما يؤمن به ، يؤويه إلى أعماقه ، ما علامة النجم ، ما ضوء القمر ، ما أشعة الشمس ، ما السماوات السبعة ، ما الدنيا والآخرة ، كل هذه الأشياء كان يجهلها في تعويذة ، وأرواح مقدسة ، ليدرك قدره ، في أحيان أخرى ، وهو نائم ، يطلق صرخة ، منطلقة من أعماق حلمه ، ليتابع صوت جدته الذي ينبعث ببساطة ، وصفاء ، وهو يتابع الحكاية عن حدود القمر ، وهي تتمكن من تعليمه ، بكلامها الذي له علاقة حميمة به ، ينبغي أن يفهم كي يتواصل معها بانسياب تدريجي ، بالرغم من الصعوبة البالغة التي يجدها في فهم الشياطين من أين جاءوا : أنهم كانوا ملائكة ، وقد عصوا أمر الرب في السجود لآدم ، محتجين أن آدم من تراب ، وهم من نار ، فاخرجهم الرب من الجنة ، وجاءوا إلى الدنيا عاصيين أمر الرب ، وساروا يتدخلون في شؤون البشر ليظلوهم عن الطريق المستقيم ، وهو دين الله الحنيف ، أنهم يتشكلون بأنواع مختلفة ، ويحاولون زرع الحقد والكراهية بين المسلمين ، فلذلك عندما يحس المسلم باقتراب الشيطان ، فيبادر إلى القول : لعن الله الشيطان …

الآن بدأ يفهم ، ليس مقلدا ، أو مستنسخا كلام جدته ، أنه يتبرأ من الشيطان الرجيم ، كان المدى يوصله إلى خياله ، يترنم في داخل نفسه مرارا ، وتكرارا ، فقد استطاعت جدته أن توصل إلى خياله ، تلك كانت إضاءة مباغتة في روحها ، وهو صار يدرك أكثر وأكثر ، أن هذا العالم هو المصير الحقيقي ، والاختبار ، قدره أن يمضي بوجوده كله في محاولة الإفلات من مغريات الدنيا ، كان يتذكر جيدا ، وبشكل صافي ، ما قالته جدته عن الماضي القديم ، فتراءت له الأحداث ، والشخصيات التي تعلق بأبطالها ، تؤدي به إلى حاضره ، وتتكون عنده ذات جديدة ، يطرد عنها فقط اللعب بطيش في الشوارع ، أنه يدخل كونا آخر أو مهمة صعبة ، وطويلة ، أن ينشأ عليها كما تريد جدته ، في لغة تقترب إلى الخيال ، لغة يكتشف بها نفسه ، وتكشف له أسرار الكون ، وحدود عالمه ، هيمنة رهيبة عليه ، لكن يتمتم مع نفسه بالأرواح القديمة ، ويرتعب منها أحيانا ، عندما ينام ، ويسقط عليه ضوء القمر متألق ليلة بعد ليلة في جو صاف ، يمنحه أشياء مألوفة مع طلوعه ، وتكونه بدرا ، يستدير ، فينبعث من حلمه ، ويستيقظ ، فيفرك عينيه الواسعتين السوداوين ، وهما على حافتي الدموع ، كأن الحكايات القديمة قد جاءت إليه ، فيصدر صوتا خفيفا :
- أنا أحبك يا قمر…
وهو ينهك نفسه كي يعرف كيف يتكون القمر بدرا من طوع إرادته ، كان يملك إحساسا عميقا ، وألما ، بفقدانه في الليالي المظلمة ، وهو إدراك بالفقدان والحرمان عند غيابه ، أنه يرى نفسه في الحلم ، يتصارع مع الشيطان ، فيردد :
- لعن الله الشيطان…
فيستريح بعد برهة قصيرة ، يتنفس هادئا ، وينام ، يغمره الفرح لما حدث إليه ، وهو يتكلم ، ويكتشف الظلال ، ويعي نفسه ، أنه لعن الشيطان بكل كره ، فقد تحولت عناية الجدة به إلى طقوس يحس بها ، ويتنفسها ، وفي بعض الأحيان يجلس في زاوية الغرفة ، يفكر بأحلامه ، بكل تلك الليالي حين تدور فيها الأساطير ، واتخذ طريقه فيها ، ينبش فيها ، باحثا عن أقرب شئ إلى نفسه ، فما تقصه عليه جدته تكون عنده إطلالة وحيدة بقيمتها ، وصعودها في روحه ، وأثرها الذي صار شيئا خاصا في رحلته التي تشير إلى انبعاث جلجلة في قلبه النقي ، الصافي ، أنه يستحق أن يسمع الكثير من الحكايات ، والأساطير ،ثم يخرج بها إلى الأطفال ، وهو في ذروة فرحه ، يخلص إليها ، ويتعلق بها شفافا ، تؤثر عليه ، شفافا ، فيحب الأرواح العظيمة ، والملائكة الطيبة ، ومأثرة الإمام الحسين ، وشجاعة الإمام علي ، وتتبين له الحكايات ما دامت جدته على قيد الحياة ، ما دامت جدته تريد له الصعود عنيدا إلى معالمه ، ويعترف بهدوء وإشفاق أن جدته معلمته في حاضره ، يستمد منها كل ما هو جليل وغالي وينزلق إلى لحظات القوة العظيمة التي يمتاز بها الإمام علي ، قوى قدسية ، يرى وجهه متألقا ذا ومضة نورانية في حلمه ، يمد له ذراعيه ، ويتلمسه ، عله يباركه في رحلاته فوق الطرق الشائكة ، حياة الدنيا كفاح شاق عند الأقدمين ، فليتابعه ، فليكون صلبا ، فلذلك اختاره معلم اللغة العربية خطيبا في المدرسة ،وعليه أن يحفظ الخطاب النثري بجدية ، ويلقيه في اصطفاف المدرسة في الصباح ، وعندما أبلغ جدته بذلك ، غمر وجهها الفرح النير ، وهي تقول بانتعاش :
- فن الخطابة أصعب الفنون ، عليك أن تتمرن ، وتحرك ذراعيك ، وتخاطب الطلاب …
- أجل يا جدتي ، سأفعل ، وأنت ستساعديني ، أليس كذلك …
- أجل…بكل تأكيد…
هذا ما فعلها مباشرة ، وجدته تصحح كلماته ، وتدربه عل حركة ذراعيه ، وتشجعه دون خوف أو تردد ، فكانت لحظات صعبة ، وقاسية بالنسبة له عندما قالت له بخفوت :
- الآن أكملت فن الخطابة …
كان ينسلخ من كونه طالب عادي في المدرسة ، كان يرى نفسه خطيبا ، فألقى خطابه في يوم اصطفاف الطلاب في يوم الخميس ، فكان ينعم بالهدوء ، وتتملكه رغبة جامحة أن يرشح إلى مسابقة المحافظة ، ليؤدي واجبه ، كان قلبه ينعم ، ويقاوم حكايات عن الجن الذي يرتاد البيوت الخربة ، وسراديب السن ، ويجاهد تعزية نفسه ، أن لا يلتقي الجن أو الجنية ، وأن لا ينزل لوحده إلى سرداب السن ، وقلبه يخفق لما حدث لجيرانهم عندما أكل السمك ، ونزل ، ونام في سرداب السن ، فأكلت الأفعى وجنته اليمنى ، ، وشوهت وجهه ، تعتقد جدته أن ذلك من فعل الجنية .

جاهد أن يحفظ أن يحفظ خطابه عن ظهر قلب ، وجعل إمكانيته تنسجم مع حركة ذراعيه ، وقبضة يده ، وقد أعلنت لاحقا إدارة المدرسة عن ترشيحه لمسابقة المحافظة ، تملكه فرح شديد وهو في يوم ما غادر البيت إلى هناك ، بعد أن مر تحت القرآن الذي أمسكته الجدة بيدها ، وقرأت الدعاء ، وقرأت سورا من القرآن الكريم ، ونفخت في وجهه ، ثم احتضنته وقبلته ، وجاهد أن يلقي الخطاب عن ظهر قلب ، كانت القاعة محتشدة بجمهور المعلمين ، الذين صفقوا له كثيرا ، وفاز ة بالمسابقة ، ورشح إلى مسابقة المحافظات ، وجد نفسه رائعا متلفعا بالقوة ، وروحه الظمأى تتشرب بامتنان وسعادة إلى مسابقة المحافظات . ذهب إلى النوم ، أغمض عينيه ، ونام ممسكا نص الخطاب ، وهو يحلم : كان قوم من المسلمين يحاولون أن يرفعوا صخرة ثابتة في الأرض ، إنها ضخمة ، وصامدة ، عبثا حاولوا أ، يزحزحوها عن مكانها ، فمر الإمام علي ، ورآهم يلهثون من التعب ، فقال أحدهم هذا ابن طالب ، لنستعين به ، تفرقوا ينظرون إليه كف ، زحزح الصخرة ، ورفعها من مكانها ، فصاحوا : الله وأكبر…نهض مضطرم الروح ، وهو يردد : الله وأكبر …ثم مشى ، واضطجع بجانب جدته التي سألته :
- هل حلمت ؟!
- أجل يا جدتي …
- بماذا
- الله وأكبر…
أنه شئ غير عادي، إنها حالة متميزة ، ناهلا من منابع قوة الإمام علي ، وغناها ، مستمعا بذهول إلى حكايات جدته9 عن قوة الإمام ، المفعم قلبها بالأسى ، لموته ، وهي تروي إليه ما أصاب المسلمين من نكبات ، وآثار مدمرة ، والعذابات التي أنزلها البعض ضد البعض ، كل هذا جرى بعد موت الإمام .
كان يحدوه هذا الحب المتألق لجدته ، جعلته يندفع بالصراع الإنساني ، ليس في إطار مكاني وزماني محدد ، بل إيقاع يأسر القلب ، ينهض الشخصيات من أعباء القرون ، بائسة ، صامتة ، بالثبات ، والصمود ، والمثابرة ، كما أرادته جدته أن يكون ، دون أن يدير ظهره لأحداثها ، وليظهر في مكانه ، ليحيا حياة متصوفة ، زاهدة ، منبعها العبادة لله ، والإخلاص ، مثل أجداده الخالدين ، لم ينثن عن عزمه ، والتغلب على العقبات ، متفتحا على حياته الجديدة بدمه ، ودموعه ، إلا ذلك لم يدم طويلا ، ففي صباح صاف ، حيث يرتعش نجم الصباح فوق مدينته النجف ، حاول أن يوقظ جدته ، مد ذراعه ، وهزها من كتفها :جدتي…جدتي…لكنها لم تستيقظ فران صمت في بادئ الأمر وتراجع للوراء ، كانت السبحة في كفها ، وهو يبحث في عينيها المغمضتين ، فأطلق صرخة من صميم قلبه ، وأعماق روحه : جدتي ماتت…ارتجف ، وركض مرتعدا ، وكان على وشك السقوط على عتبة البيت ، بعد أن فتح الباب بسرعة ، وجد نفسه في الشارع ملجوما بالرعب ، يتملكه الخوف ، يوثب من باب إلى باب ، كان يدق أبواب الجيران معذبا ، حزينا ، وعلى وجهه حرقة ، ووداع ، ويصيح بأعلى صوته صيحة مترعة بالألم : جدتي ماتت … كان الجيران يرخون رؤوسهم ، وتعتصر قلوبهم ، وفي عيونهم الدموع ، وهم يسألون داخلهم : حب عارم ينتابه لجدته الحميمة …
 


19 \ 9 \ ‏18‏/‏09‏20
 

free web counter