حمودي عبد محسن

 

| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

 

الأربعاء 20/9/ 2006

 

 

احتفال صامت


حمودي عبد محسن

كلما مرا بهذا المكان آيبين من نزهتهما يجلسان على مصطبة خشبية لفترة قصيرة ، يرتاحان قليلا ، يتذكران الأعوام الماضية بصفائها ، ودفئها ، وهدوئها ، ثم يغرقان في تصورات عابرة ، سريعة ، مليئة بالرفعة ، والوجد ، دون أن يلاحظا أهل إكشو الذين يسيرون خلفهما على الشارع الضيق المبلط بالإسفلت ، المظلل بالأشجار السامقة وسط غابة خضراء ، والذي يؤدي إلى مخيم الراحة ، ودون أن ينتبها أيضا إلى الخطوات البطيئة التي تقترب منهما أو تبتعد عنهما ، وكلما قعدا في هذا المكان يتعلقان بتلك الأعوام ، ويتذوقان ذكرياتهما ، ويستسلمان إلى شرودهما في الأحلام الجميلة التي ترسم الحنين على وجهيهما الطافحين بالبعد ، والعالم الروحي البريء الناعم ، فهذا المكان الهادئ المطل على حافة بحيرة هنسنسين له مغزى كبير في نفسيهما ، ففيه قطفا قبلتهما الأولى قبل خمسين عاما ، لذا قررا أن يحتفلا بنفس المكان بذكرى زواجهما ، مؤكدين على أن دروب السنين التي قطعاها سوية لا يمكن نسيانها أبدا ، هما في شيخوختهما المرهقة التي تخصهما وحدهما .
جلسا الاثنان على المصطبة ساكنين ، يصيخان السمع لحفيف أوراق الشجر ، واندفاع أغصانها إلى أعلى ، ثم إلى أسفل ، وتراقصها ، واهتزازها ، ويصيخان السمع أيضا لرنين أصوات النوارس التي تخفق بأجنحتها فوق سطح البحيرة ، وتحت حمرة الغروب ، وألوان وردية ، قرمزية ، فضية ناعمة ، إذ ثمة إصرار لثقل الألوان أن تتدلى فوق المياه ، وكذلك إصرار لحشود النوارس أن تكون ملحة ، معاندة ، مرفرفة في ظلال هائلة ، بدا لهما أن العالم لا نهائي في سكونه ، وصمته ، يلقي بظلال حلم أمامهما ، يلقي بتعدد أصوات إلى ما وراء وجودهما ، فاستغرقا في تأمل لحظات الغروب فوق المياه الساكنة التي لم يعق جريانها شئ ، لتوحي عن رؤية ساحرة تنبض حنينا بدفقات بهيجة من قلبهما .
ليس ثمة خلود مثل خلود هذا الصمت الأكثر سطوة ، الأكثر متعة ، الذي أطبق عليهما ، إذ لأول مرة منذ زمن بعيد لم يشعرا بهذه الرغبة في الصمت الذي ترافقه تنهدات تنبض من أعماقهما كأن الزمن توقف هنا ، خامدا في جوف الصمت ذاته . كانت ظلال الأعوام تمر فوقهما ، وتهتف أن يعودا إليها ، وهذا لا يمكن أن يحدث على الإطلاق أن يجعلا الزمن يتراجع إلى الوراء . لم يستطيعا أن ينتزعا نفسيهما من لحظات الغروب الساحرة البهيجة ، المشبعة بالتسامي ، وروحهما تأنسان بعمق إلى همس معزوفة رقيقة ، تنير أمامهما أضواء ذهبية لأعوامهما القادمة ، ترتعش ، وتتموج على سطح الماء ، تقتحم أيامهما ، تولج بهما إلى أعوام قديمة ، كم يتشوقان إلى تلك الأعوام ! الآن تراقصت ملونة ، محفورة في ذاكرتهما ، لا تخبو ، ولا تتراخى ، تجذبهما إليها ، تشدهما إلى حيويتها ، وعريها ، فاتنة ، متوحدة مع انعزالهما في جمال المنظر الخلاب ، ما الذي يرجع الزمن ؟! يبدو إنهما كانا يصغيان إلى نداء في داخلهما ، حاول الزوج أن يكرر شيئا من الماضي ، لأن كل شئ منه كان عظيما ، فزحفت أصابعه إلى صدر زوجته ، توقفت ، وبدأت تفك أزرار قميصها ، داعبت صدرها ، لكن الزوجة أزاحتها عن صدرها برفق ، وأرخت رأسها على المصطبة ، وأغمضت عينيها الدامعتين الحالمتين ، وانفرجت شفتاها عن ابتسامة حزينة ، إلا أن الأصابع كانت عنيدة ، فصعدت إلى حنكها ، لترفع وجهها ، وتميله إلى وجهه ، وتذوب قبلة طويلة مرتعشة مرتبكة في شفتيها ، لم يكن بالإمكان العودة إلى ما قبل خمسين عاما ، فأدارت الزوجة وجهها صوب البحيرة ، والدموع تترقرق في عينيها ، وهي تكرر مع نفسها : ( ليس هنا ) ، ثم وضعت رأسها على كتفه ، وسوت قميصها بخجل ، وعادت ذاكرتها إلى تلك السنين ، وهمست في أذنه : ( لقد مضت الأعوام أشبه بحلم ، حلم لم يعد ثانية ) . لم تدم لحظات طويلة وهو يحلق مع الصور الذهبية المطمورة في مخيلته لتبتعد عنه ، وتضيع في كلماته المخنوقة : ( لا يمكن إعادتها ثانية ) .
نهضا بصمت يتكئ أحدهما على الآخر ، وأوقدا شمعتين ، ثم ثبتاها على لوح صغير ، ووضعا اللوح فوق سطح الماء .دفعاه مع جريانه ، ثم راحا يطيلان النظر إلى الشمعتين ، وضوئهما يرتعشان ، ويتموجان كنجمين سماويين ، وظلالهما المنعكسان تنيران أعوامهما كوحي خارجا من عمق البحيرة ليوقظ حلما دنيويا ، ويضفي سحرا إلهيا متضخما بالحب ،كأن العالم لا يتسع إلا لحضوره ، وهما يستنشقان نسمة زهور هبت من ورائهما ، ويتعطران بماء ورد السماء ، إذ كانت الزخة الأولى لمطر الصيف تبارك احتفالهما الصامت ، واللوح يبتعد ، ويبتعد ببطء مع نغمة خالدة لأسطورة خلود بشري خفي لا يدرك ثمرته سوى أولئك الذين مروا بمخاض العمر سواء كانوا سائحين مع ضوء القمر أو مع الرياح التي تعصف بالشجر . قذف الزوج عكازه في البحيرة ، ثم سحب قدميه بصعوبة إلى البيت ، متأبطا ذراع زوجته ، وهو يتلفت إلى البحيرة ، ويردد : ( يمكنني أن استغني عنها اليوم ) ، بينما كانت زوجته ، تبتسم ، وتقول : ( هذا قلق الشيخوخة ) .ضحكا سوية ، وهما في لهب سعادتهما.

2004.11.2