| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

حمودي عبد محسن

 

 

 

 

السبت 19 /5/ 2007

 


 

جمال هيلين
 

حمودي عبد محسن

كانت متفتحة بلا تحجب ، تستعذب البحر الذي شهد هروبها مع باريس إلى طروادة ، تطفو كظل سفينة صغيرة مبحرة ، أنثى خالدة ، زوجة منلاوس ، ملكة اسبارطة العظيمة النبيلة ، نصف آلهة ، ابنة الآلهة ليدا ، ابنة زيوس رب الأرباب ، أخت قلوطمنسترا التي تزوجها أجاممنون ، أخت كاستور ، و فولوديكس ، التوأمين اللذين حرراها من نصف الإله ثيسيوس ، بعد أن اختطفها ، و هي في العاشرة من عمرها ، كانت متكشفة صوب الإله أبولو ، صوب الشمس ، ترخي أجفانها لأشعتها ، فارشة ذراعيها على سطح البحر ، مغطاة بشال أبيض شفاف مرفوعا إلى أعلى مثل شراع ، فمها مغلق ، شعرها متناثر فوق البحر ، فوق صدغيها ، فتحت أجفانها ، نظرت إلى الشمس ، لا تريد العودة إلى وطنها اليونان ، لا تريد أن تعبر البحر ، لا تريد أن ترحل ، إلى أين ترحل ؟! كانت مسترخية ، متحررة من حرب دامت عشر سنوات ، مبتلية بخراب طروادة ، تمزقها ذكرى إفيجينيا ، العذراء الصغيرة التي لم تتجاوز العشرة سنوات من عمرها ، عروس مخدوعة أمها بنصف الإله ، بطل الأبطال أكيل ، ابن آلهة البحر ثيتس ، التي رفضت أن تتزوج زيوس ، تزوجت بيليوس ، و منه انجبت أكيل ، لم يعرف أكيل بعروسه ، تلك كانت خدعة والدها أجاممنون ، خدعة الآلهة ، زفت بثياب العرس قربانا للآلهة ، ذبحت لتهب الريح ، لتبحر السفن ، و تدمر طروادة ، تلك هيلين كانت تتجلى لي من ملحمة الإلياذة لهوميروس بعيدة عن عيني ، إدراك بصري ، أمامي خطوط ملونة ، مائلة ، مرصوفة على بعضها ، أحجام ، أشكال ، لظلال آلاف السفن الفانية ، إدراك معرفي لوجودي على شاطئ رودس ، سكان رودس الأصليين يظهرون من أمواج البحر ، يرفعون صولجانات مثلثة نبتون ، يقهرون الأمواج ، يمشون فوق ظهورها فرحين ، يعبرون البحر ، يصنعون تمثال المارد الضخم ، أحد عجائب الدنيا السبع ، إدراك معرفي ، بصري ، إذ ساقاي في البحر ، و باقي جسدي فوق الرمل ، كنت جالسا ، و الأمواج تنبش في صدري ، تسحبني ، ثم تدفعني ، كأنني في حومة معها ، قبل أن تصيبني في لحظة مغرية لأحملق في أفق البحر الأزرق ، تلك هيلين تنهض واقفة ، رفعة كاملة ساكنة في اللطف ، أبهة الكل ، و قمة المستحيل في الجمال الأعلى ، و المجد الذائع الشهرة في العالم ، متآلفة مع إيقاع البحر المحض ، محاطة من حولها بكتل براقة هائلة كثيرة ، تتلألأ في عيني لأعيد ترتيبها ، خيول ، غزلان مقدسات ، كاهنات معبد ، أتلقى دلالتها كوحدة مدهشة مجسمة لمشهد دون قناع ، يوجهني مباشرة نحو نموذج الجمال الأول الخالص الصافي لهيلين ، الذي له هيبة طاغية علي ، أتذوقه بإيماءة من البحر ، ينتابني خوف أن يغادرني هذا التعلق بها ، إذ صرت أخشى أن يكون مصيري مثل الشاعر اليوناني القديم ستيزيكوروس الذي لم يتذوق جمالها ، فأصابه العمى ، فراح يمسك آلته الموسيقية ، و يدق على أوتارها ، و ينشد شعرا ، و يغني ، و يعتذر لها طالبا المعذرة منها ، كانت لطيفة معه ، مملوءة بالنبالة ، و الرحمة ، فجأة أمطرت عيناه دموعا ، و عاد البصر إلى عينيه في احتفال مهيب .أحسست بوخز في قدمي ، فسحبتهما من الماء ، نهضت ، و تراجعت إلى الوراء ، و وقفت عند الحد الذي يفصلني عن البحر ، بينما نظري متعلقا صوب الأفق ، كانت هيلين تصعد عربة على هيئة صدفة بحرية أشبه بعرش ذهبي تجرها خيول مجنحة بيضاء ، تعبر بها أمواج خفيفة ، فشحبت الشمس ، و صار أفق البحر أمامي خاويا ، باردا ، و لا قيمة له ، فرحت أحملق في المياه لأكتشف ما تحتها ، ما تحت قناعها ، الذي يخفي وراءه سفن ، كنوز ، صناديق نفائس ، لم ينفذ بصري إلى الأعماق كبصر الإله لينيوس الذي ينفذ في الأعماق و الأعالي ، فمجال عيني ما هو مرئي لها ، و ليس في طوايا التحجب ، انتبهت أن لا وجود لنعلي ، فاستدرت أبحث عنهما ، كانا في مجال رؤيتي ، يطفوان فوق الأمواج ، سحبتهما خفيفين على زبدها ، و هما يبتعدان إلى بعد غير مرئي ، ثمة شئ آخر أثار انتباهي ، و أنا أنسحب من الساحل مهزوما ، حافيا ، و هو يعج بالأجساد من مختلف الأجناس البشرية ، أن أجد نفسي متعلقا بانجذاب قرباني لهيلين ، فلم تعد لي رغبة أن أذهب ثانية إلى قصور الإغريق المحاربين الأبطال ذوي الشعر الطويل المسترسل على أكتافهم ، و لا إلى مسرحهم العجيب في قمة جبل جزيرة ليندوس ذي البيوت البيضاء ، المشرف على البحر ، لأرى كيف صفت الصخور على بعضها ، و أنشأت الأسوار العالية ، و أقيمت أعمدة عملاقة ، و كذلك لم تعد لي رغبة أن أعود ثانية بين غابات الزيتون إلى وادي الفراشات ، لأنبهر بتحليق فراشات زاهية من مختلف الأصناف ، بل كان ذهني ينحدر إلى صور من حرب طروادة : أودوسيوس يحسم الحرب باكتشافه حيلة الحصان الخشبي الذي أطلق عليه حصان طروادة ، بعد حرب شرسة عند أسوارها ، باريس يرمي سهمه ، فيصيب كعب أكيل ، الذي لم يتبلل بنهر الجحيم بعد أن غطسته أمه فيه ، أجاممنون تقتله زوجته قلوطمنسترا انتقاما لطفلتها إفيجينيا ، فيقتلها أبنها أوريستس ، مع أخته إلكترا انتقاما لمقتل والدهما الذي عانا الأهوال و الكوارث في البحر أثناء عودته لوطنه ، أوريتس ملعون ، مطارد من قبل الآلهة ، ثم تغفر له ذنوبه ، كساندرا ابنة بريام ملك طروادة تكهنت بسقوط طروادة فلم يصدقها أحد ، قتل أكيل هكتور أبن بريام في مبارزة انتقاما لمقتل صديقه باتروكلس علي يد هكتور ، و بنات بريام يصبحن أسيرات عند الإغريق ، يقتل بريام في الحرب ، و باريس يموت جريحا بين قدمي زوجته السابقة آنونة ، لا… أنقذته الآله افروديت بعد أن منحته هيلين ، منلاوس يعود بهلين إلى إسبرطة بعد دمار طروادة .

عدت مهموما إلى غرفتي في الفندق التي تطل شرفتها من الطابق الخامس على البحر ، و على شارع الهوى ، المشرعة أبوابه الليلية إلى الفجر ، ففي كل ليلة يضج الشارع بهوس جنوني على صخب موسيقى الروك ، فكنت أخشى مجيء الليل ، لأنني إذا غلقت باب الشرفة ، تصببت عرقا من الحر ، و إذا أبقيته مفتوحا ، فسوف يحطمني صخب آلاف البشر المبتهجة بطريقة حريتها الخاصة ، كنت فقط ابتهج بتلاطم أمواج البحر ، و ضوء القمر ينثال عليها ، يحملني معه فوق الأمواج العريضة ، أسبح عابرا البحر ، ثم أقفز إلى غرب الأناضول ، إذ هناك ترقد طروادة ، و هناك مخاض هوبا ، تلد ذكرا ، تلد شعلة نار ، سينتشر لهيبها في طروادة ، هكذا حلمت به قبل أن تلده ، لذلك حملته بين ذراعيها ، و سارت إلى جبل ايدا ، وضعته على قمته ، و صرخت : ( هذا وليدي ) ، ثم تركته باكية ، عائدة حزينة إلى طروادة ، كان الوليد يصرخ ، و صوته صدى يتردد في الوديان : ( أمي تخلت عني ) ، تلقفه أحد الرعاة ، تكفله دون أن يعرف انه ابن هوبا ، ابن بريام ، و سماه باريس .ترعرع قوي البنية ، فطنا ، شجاعا ، وسيما ، يرعى أغنامه في البرية .ذات يوم ، و هو يصرخ بقطيعه ، تجلى أمامه الآله الرسول هرمس ابن زيوس ، برفقة هيرا ، و اثينا ، و افروديت ، و قدم له التفاحة الذهبية المرسلة له من زيوس ، لينطق بحكمه على أجمل الآلهات الجميلات الثلاثة ، تسلم التفاحة ، اختبرهن على انفراد ، ثم نطق :
_ افروديت أجمل الجميلات .
ذلك أغضب هيرا ، و اثينا ، إلا إنهن كتمن غضبهن ، و قررتا أن ينتقمان من باريس بتدمير طروادة ، أما افروديت ، فبرقت عيناها فرحا ، و نطقت :
_ ارتبط بهيلين فاتنة إسبارطة التي أذهلت الآلهة بجمالها .ما لك ترعى في المراعي ؟! مالك تضيع وقتك سدى في البرية ؟! ما لك تكلم الأغنام دون أن تفهمك ؟! ما لك ترتدي ثيابا من جلود الغنم ؟! ما لك تمسك عصا من أغصان البلوط ؟!
استلمت التفاحة الذهبية من يده ، و وعدته أن تكون هيلين له ، ثم استدارت ، و مشت برشاقة تاركة إياه خجلا ، محمر الوجه ، غارقا في حلمه ، غارقا في جمال هيلين الذي يسمع عنه لأول مرة ، لم يدم ذلك طويلا ، فعد نفسه أن يخوض امتحان الدنيا ، ليحظى بهلين ، و يقترن بها ، فالآلهة افروديت ستعينه على ذلك .سار متبخترا إلى طروادة ، شارك في ألعاب المصارعة ، و المبارزة ، تفوق فيها وسط هتافات الجمهور ، ثم انكشف سره ، انه ابن هوبا ، ابن بريام ، بينما كانت كساندرا تصرخ : ( انه لهب ، انه سيحرق طروادة ) ، لم يصدقها أحد ، لأنها رفضت الاقتران بابولو ، فحكمت عليها الآله بالتكهن دون أن يصدقها أحد ، هذا العذاب رافقها إلى أن احترقت المدينة ، أجل ، لم يصدقها أحد سوى هيرا ، سوى اثينا ، سوى معشر الآلهة .
أبحر باريس إلى إسبرطة ، استقبله منلاوس بحفاوة بالغة ، حفل خمور و رقص و غناء ، ظهرت هيلين متأججة بجمالها الساحر ، صدقت افروديت ، التقت العيون ، و الأيادي ، و الكلمات دون أن ينتبه منلاوس ، غادر القصر ، و بقى الضيف الملكي برعية الملكة ، التقت قبلاتهما ، و تشابكت أياديهما ، و هربا ليلا عبر البحر ، هذا البحر الذي يفصل إسبرطة عن طروادة ، مملكتان مختلفتان ، متباعدتان ، متوجستان في الحيطة و الحذر من اندلاع حرب ، عالمان مختلفان في زمن واحد ، الكرامة الإغريقية العليا مستعدة دائما للحرب ، أيها الإغريقي كن دائما مهيئا للنزول إلى ساحة القتال ، احمل سلاحك ، و وسع رقعة أرضك ، مارس قسوتك ، و بطشك بأهل طروادة ، باغتهم ، و انزل عليهم سهامك ، و على رؤوسهم سيوفك ، و رماحك ، لا ترحمهم أبدا ، انزل الخراب بطروادة ، هكذا كانت الآلهة التي يعبدها الإغريق _ هيرا ، اثينا _ تعد عدتها العنيفة لتخرب ما بناه الطرواديون منذ زمن طويل ، و لم تنفع نجدة الأمازونيات الشرسات اللواتي قطعن نهودهن اليسرى ليسددن السهام بدقة صوب الرجال الأعداء ، و حرمن أنفسهن من الزواج ، فقد قتل أكيل ملكتهن بنثيسيليا ابنة إله الحرب مارس ، هكذا كانت القسوة الشرقية تتجاوز حتى العادات التي كانت متبعة أثناء الحروب ، فهذا أكيل يشد جثة هكتور الفارس الشجاع الذي كان ضد هروب هيلين إلى طروادة ، يشدها إلى عربته ، و يسحلها ، يدور بها في ساحة القتال ، ثم يتركها في العراء أمام خيمته لتنهشها الغربان ، ذلك كان يعذب بريام الأب ، لأن الآله تقضي بأن تواري الجثة التراب لتستريح روحه بأمان ، و سلام ، و هدوء ، فتسلل ليلا إلى معسكر الأعداء ، و وقف أمام خيمة أكيل باكيا ، و عندما عرفه أكيل ، سلمه الجثة ، لتدفن في طروادة ، أجل ، الحرب كانت خدعة الآلهة ، كانت العنف ، و القسوة البشرية ، و الخراب ، كان هوميروس الشاعر الذي لولاه لما اكتشفت هيلين ، لولاه لما تعلقنا بالجمال الأول ، الأبدي ، كان يلوم الإغريق على قسوتهم ، و يتأسف على دمار طروادة ، أجل ، ماتت هيلين ، فحملها هرمس إلى مصر ، و هناك تزوجت بعد الموت ، تزوجت أكيل ، و انجبت منه يوفوريون ، هكذا تتزوج الأرواح بمن تحب ، و لا تبكي أحدها بعد الموت ، كما تقول الأسطورة الإغريقية ، إلا أن شبح هيلين ، شخصها ، نبلها ، جمالها ، جلبت أفضل ما يكون من التاريخ ، و هذا مركز سعي المتصاعد وراءها ، لأن شبح جمالها في كل قصر إغريقي ، يبقى يمتد ، يتصاعد إلى ما لا نهاية .

أبدلت ملابسي ، و لبست حذاء ، ثم خرجت إلى الأسواق القديمة ، و بينما أنا أسير في الشوارع و الأزقة ، أحسست أن الصور التي تتراقص في عيني قادرة أن تقودني من وجودي بإيقاع مشوش سريع إلى الخراب الذي أحدثته الآلهة الأنانية ، تاركا إياها في عصر الإغريق القديم : افروديت _ خارجة من زبد البحر المالح ، راقصة على أمواجه ، و الإغريقي القاسي يحمل بيديه صخور رمادية ، ليشيد معابدها على شواطئ البحر ، ينحني على مذبحها ، و يقدم قربانه إليها ، هيرا _ التي تشبه عيونها عيون البقرة ، تستحم في عين كاناثوس ، تسترجع عذريتها ، تطارد غريمتها ليتو إحدى زوجات زيوس التي أنجبت ابولو ، اثينا _ ظهيرة مدينتها ، و درعها ، تستحم مع صاحباتها في البحر ، تخرج متكبرة ، متغطرسة ، تدهن جسدها بزيت الزيتون لأنها أول من غرس شجرتها في اليونان ، تمشي متبخترة ، و تحمل بيدها اليسرى رمانة حمراء ، ترافقها هيرا حاملة بيدها اليمنى سلة رمان أحمر ، لأن حبات الرمان ذات حمرة قانية ، له علاقة سحرية بالدم ، و لأن شجرة الرمان نبتت من دم دايونيسوس الذبيح .

توقفت عند واجهة زجاجية لأحد محلات بيع الأحذية ، فجأة ، أصغيت إلى رنين تليفون نقال جاءني من الخلف ، استدرت ، رأيت سيدة أنيقة متوردة الوجنتين تتكلم برقة عن حذاء ، ثم قطعت كلامها ، قائلة :
_ فهمت ، فهمت .
اقتربت من الواجهة الزجاجية ، و وقفت إلى جانبي متطلعة ، متنقلة ببصرها إلى الأحذية ، فبادرتها ، قائلا :
_ إنها غالية .
_ أجل ، غالية .
بعد لحظات صمت متوترة ، دخلت المحل ، فتبعتها فارغ الذهن ، يجذبني فضول قوي مبهم ، أن أعرف شيئا عن السيدة ، و ربما أجد في عينيها المتوهجتين ظلا آخر ، رافدا آخر ، يخرجني من شبح جمال هيلين الذي يطبق بذراعيه حول جسدي ، و يخرجني من انبهاري باسمها الرقيق الخفي ، لا ، لا ، لا أريد أن أكون مثل الشاعر ستيزيكوروس ، سيظل اسمها مشعل ، ساطع ، يوم ولدتها أمها بيضة حين كانت بجعة .كانت السيدة تختار الحذاء الأزرق ذا قياس ثمانية و ثلاثين ، تسحبه من الرف ، تجلس على مصطبة صغيرة ، تلبسه ، تقف ، لتتأكد من قياسه ، تنظر إليه متفحصة من الخلف و الأمام ، و تنظر إلي مبتسمة ، ثم تنزعه ، و تعيده إلى مكانه بحركة رشيقة سريعة ، و تنظر إلي مرة أخرى ، و تردد ببساطة ، و سهولة ، كأنها تكلمني :
_ انه لا يناسب فستانها .
تملكني استغراب ، و عيناي تلاحقان حركتها ، و تنظران إليها من أسفل إلى أعلى ، و أنا ساكنا في مكاني ، جلست تقيس حذاء آخر ، رفعت بصرها ، و نظرت إلي ، ثم قامت ، و سألتني :
_ ما رأيك ؟
نظرت إلى الحذاء متوجسا ، محرجا ، فجأة ، و خلال لحظة صمت ، نزعته غير قانعة به ، و دون أن تنتظر مني جوابا ، نهضت ، أعادته إلى مكانه ن و تقدمت نحوي ، قائلة :
_ لنخرج .
كنت أتخبط في شئ غريب ، و أنا أرافقها دون أن أعرفها ، و هي تقودني من محل إلى آخر كما لو أني لست غريبا عنها ، و بقيت معها في دوامة مستمرة ، أدخل محلا و أخرج منه ، ثم غذينا السير إلى محلات منزوية في أزقة ، و هي تتصل تليفونيا ، و تتكلم بهدوء ، و رقة ، توصف الأحذية التي رأتها ، أو التي أرادت أن تشتريها ، ثم تكرر :
_ فهمت ، فهمت .
التفت إلي ، و قالت بخفوت :
_ إنها تريده أزرق ، كعب عال ، يناسب فستانها الأزرق .
_ من هي ؟
_ ابنتي .
اعتراني فرحا شديدا ، و أنا أتنقل من محل إلى آخر ، و أتآلف مع السيدة ، مع تناسق الألوان الزرقاء التي اختارتها ابنتها ، انه ذوق جميل ، إذ لون السماء اللازوردي ، أفق البحر الأزرق ، لون الأفق لون السماء ، كلها ألوان بعيدة جدا ، كانت البنت ماثلة في خيالي ، خارجة من ضباب البحر ، من قبة السماء التي حملها الإله أطلس على كاهله ، خارجة برداء أزرق ، مطعم بالياقوت ، بالنجوم ، مزخرفا بالقمر ، إذ ثمة شئ يتفجر في داخلي ، لا ، لا ، يجب أن أسيطر على نفسي .خشيت أن أستمر في الحديث عن ابنة السيدة ، كنت اغتاظ من نفسي كلما وقفنا صامتين في فوضى الأسواق ، ينظر أحدنا إلى الآخر ، ثم نتحدث ، و عيوننا تبرق أسئلة ، انعطفنا في زقاق قرب السور الملكي ، و أخذنا نصعد فوق أحجار حمراء ، تحت أقواس حجرية ، و قرب أبوب منقوشة بالغزلان ، و النسور ، و الخيول ، فكنا نبتعد عن أمواج البحر المتضاربة ، المقوسة ، المعربدة بعنف ، و قبة السماء يميل لونها إلى الزرقة ، لتشع أفلاكها براقة .كنت أسألها عن أشياء كثيرة ، تتأمل السيدة بابا أو نقشا ، فيجئ الجواب سريعا حميما ، مصحوبا بضحكة خفيفة ، أو ترد بخجل ، حتى غادرنا الإحساس بالوقت ، و المكان ، لنجد أنفسنا نخرج من زقاق يؤدي إلى السوق ثانية ، فتوقفنا قرب باب مشرع ، ينداح منه ، رنين قوس ، همهمة ، تغريد ، ثم صوت ببغاء ، قائلا باللغة الإغريقية ، : ( أهلا بكم ) .
دخلنا مطعم حديقة دار (سقراط ) ، و استقرينا تحت أضوية خافتة ، تحت سعف النخيل ، قرب نافورة ماء صغيرة ، مزهوة بالنباتات المتسلقة ، مزدهرة بأنواع الزهور ذات الروائح العطرة ، تحيطنا عناقيد العنب ، و أغصان العرموط ، و النبق ، و التفاح ، و المشمش ، يضرب وجهينا رذاذ خفيف من ماء النافورة كلما هبت نسمة بحر منعشة ، كان حوض النافورة مسيجا بأحجار ، و حصى أبيض ، و تنبثق منه ساقية ماء ضيقة ، ينبعث منها خريرا رقيقا ، تلتف الساقية ، و تدور تحت الأشجار ، و تعود إلى حوضها .سقينا أنفسنا ، و أشبعنا بطنينا ، فزهت روحنا ، حتى تلاعبت فينا روائح أوراق الشجر ، و الزهور ، و أنسام المساء ، و متعة البستان ، فتجاوزت خجلي ، و سألت السيدة :
_ ما اسم ابنتك ؟
_ هيلينة .
جفلت على الكرسي الذي كنت أجلس عليه ، و انتابني قلق لا مثيل له ، راح يعذبني ، و يفقدني صوابي ، و أنا أنقل بصري إلى أزهار وردية لطيفة ، تتظلل بأوراق نبتة اللباب من أضوية زرقاء ، و أنقله إلى شجرة التفاح ، المنحنية أغصانها إلى أسفل لثقل حملها ، كنت محمر الوجه ، تحترق الدموع في عيني ، تكاد تطفر منهما ، وددت لو ذرفتهما في راحة يدي ، أو في أيقونة عذراء مقدسة ، لتنقذني من هذا الإحراج الذي أنا فيه ، لا أعرف كيف تجرأت ، و سألت :

_ هل هي جميلة ؟
_ أجل ، إنها أجمل من هيلين إسبرطة .
حدقت إليها مرتعبا ، و أنا أصارع نفسي ، و أقاوم ، نهضت طائشا ، أغمض عيني و افتحهما ، و تقدمت ببطء إلى شجرة التفاح ، كنت أرى هيلينة ماثلة أمامي ، أراها هالة نورانية متوهجة برداء أزرق ، ساكنة ، صافية لا مثيل لجمالها ، أخذتني لحظة انتظار طويل مقدسة ، ثم تقدمت نحوها مدهوشا ، بغتة تجلى قبالتي هرمس رسول كبير الآله زيوس ، حاملا بيده تفاحة ذهبية ، ثم تجلت الآلهات افروديت ، هيرا ، اثينا ، سلمني التفاحة التي أرسلها زيوس ، قائلا :
_ احكم على أجمل الجميلات من الآلهات الثلاثة .
نظرت إلى هيلينة ، تأملتها ، عيناها نفس عيني أمها ، فمها نفس فم أمها ، تقدمت ببطء ، و هدوء صوبها ، و يداي تمسكان التفاحة الذهبية ، و تمتدان إلى الرداء الأزرق ، إلى أمواج البحر ، إلى قبة السماء ، بينما الآلهات عيونهن مبحلقة نحو شفتي خائفات أن أنطق ، إلا أن يدي امتدت ن و كانت بد هيلينة الناعمة ، اللطيفة تمتد ، التقت أيادينا ، و تداعبت أصابعها ، و يدا هيلينة تستلمان التفاحة الذهبية ، و أنا أنطق ، أنطق :
_ هيلينة أجمل الجميلات .

9 .11 .2004