| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

حمودي عبد محسن

 

 

 

الأربعاء 17/9/ 2008



الحشرة الوحشية

حمودي عبد محسن

أشهد بالاغتراب ، استشعره إزاء " الدور التاريخي " في الماضي ، وما يلعبه في حياتنا المعاصرة ، فهل أصبح ذلك عندي وهم ، أم يحتاج إلى فهم ، وتفسير ، هناك مشقة تبعدني عنه في عالمنا ، ما هو التغير الذي يجب أن يحدث ؟! وحجتي بالاغتراب ، هذه التساؤلات التي وصلت إليها " التاريخية " ، أصيلة ، حقيقية ، لا تستطيع أن تفعل وعيها لأتجاوزها ، أن هذا النموذج الذي أوصلنا إلى الحروب ، الاحتلال ، الاستغلال ، ليست فحسب تمد اغترابي بمدخل لفهم جديد ، وإنما كمحاولة فاشلة لتجاوزه السائد في وعي الذاتي ، أنه يربطني بخاصية لا مثيل لها من خلال حياتي اليومية في مكتبتي التي استيقظ فيها ، إذ لا ضرورة لها ، أبدأ بانتزاع كتابا من رف لا ضرورة له هو الآخر ، أدور بين جدرانها على إيقاع مأزقي ، أنني أحب قراءة الكتب التاريخية ، لجهلي أحيانا بالأحداث الجارية في البلاد ، ولو أتعبت نفسي أن أفسرها ، وأفهمها تحت سقف الفوضى من كتب متناثرة ، ومبعثرة ، فهي كما لو تعي أن أقرأها ،وكل ما يحيط بي من كتب فقد أصاب حافاتها التآكل ، وانتشر الصدأ في الرفوف ، لابد أن أفعل شيئا بعيون دامعة ، كعادتي ، وأدعو نفسي للنقاش الذي يشكل خطرا على نفسي ، والمصادر المتوفرة لي عن كتب التاريخ هي أكثر من الكتب الأخرى في الفلسفة ، وعلم الاجتماع ، والجغرافية .
كتب التاريخ تجذبني إليها لأنها تبتدأ بسفينة نوح حين ترك شعبه في الطوفان ، فارا من صخب المطر ، والسيول ، هربا من ضجيج التاريخ ، وعيناه تتطلعان إلى أبعد نقطة في المياه .
دقت الباب ، فنزلت سلم ، وليتني ما نزلت ، ففتحت الباب ، لم يكن هناك أحد ، فكدت أرى هابيل وقابيل ، عدت إلى مكتبتي ، وأنا أحدق في سطور الكتاب عن السلطة الأبوية ، رميت قلمي بلا مبرر على الأرض ، ورأيت نفسي أهمس شاحبا ، خائفا ، أرى الأشياء مقرفة ، كأن فم الكتب ملطخة بالدم ، لتريني ما أنجزه التاريخ ، دقت الباب مرة أخرى ، فنزلت مقهورا ، من عسى يدق الباب ، ويختفي ؟! هذا ما قلته في داخلي ، فتحتها لم أجد أحدا ، فعدت أيضا إلى كتبي ، حلمت ، أن هولاكو دمر العراق ، أشاع الخراب في مكتباتها ، أحرقها أو رماها في دجلة ، لتكون المياه زرقاء ، من هنا أيضا يمكن القول بأن " التاريخية " ابتدأت بحرق الكتب ، وهذا ليس فقط موضوع أو مادة للتناول ، بل أنه يمدنا بالدخول إلى " التاريخية " كمحاولة للشعور بالاغتراب ، وهذه عموم المشكلة ، بعنوان " التاريخية " لنحكم عليها بأنفسنا . دقت الباب ، فنزلت مسرعا ، وفتحتها ، لم أجد أحدا ، فانتابني القلق ، والخوف ، قد يكون واحدا من " التاريخية " ليدق عنقي ، ويكسر عظامي من ذوي الخروف الأسود أو الأبيض ، فعدت مسرعا إلى كتبي ، كنت أتمنى أن أحدا لا يمسها بسوء لأنها توضح القهر سواء كان ذلك بعيدا أو قريبا ، أنكره على الشكل الذي قد يكون فيه تعبير مشروع ، وإن الأشياء لم تفقد قيمتها تماما وكمالا ، إلا أنها عندي لا تلاقي قبولا ، فان هناك كشف عن المقدس ، والدين ، وسقوط الآله – ذات العزة – التي فقدت دلالتها كصنم ،وتجردت قيمته عند العرب . دقت الباب ، فنزلت خائبا ، حزينا ، وفتحت الباب ،فإذا بحشرة وحشية تطير ، يرافقها صخب أجنحتها ، تدخل مكتبتي ، فركضت لئلا تمزق كتبي ، دارت في المكتبة ، وحطت على رفوف مكتبتي ، كانت تشبه الجرادة الصفراء ، إلا أن وجهها يشبه حصان عربي ، انتظرت ، ووجهي متجه إليها ، وإلى الكتب ، كانت أفكاري مضطربة ، كان يجب أن أنتظر ، فجأة تركت الرفوف ، وحطت على السقف ، وهو أعلى نقطة في مكتبتي ، كانت تنظر إلي بعينين لامعتين ، وأنا منغمر في التفكير ، متلبسا وجود آخر ، منتحلا كيان آخر ، صامتا ، أستعير الإرشادات من " التاريخية " ، أعبر عن احتجاج لا نهاية له ، كان صبري لا حدود له من النظرات الثاقبة ، مسكت الجزء الأول من تاريخ العرب قبل الإسلام ، وأنا أشد عليه ، وحاولت أن أبارزها به ، كنت أخاف أن تهجم علي وتلسعني لسعة الموت ، وأنسى المنهج في التاريخ ، والإبداع ، والحقيقة المنبثقة من الكتب ذاتها ، وأتناسى العصور ، هيمن علي ملل حاد ، وكنت أقول لنفسي : (أنني ثانوي بالنسبة للحشرة ) ، همها أن تمزق الكتب ، وهي تتحرك من مكان إلى آخر ، تسحب الكتب من الرفوف ، وترميها على الأرض ، تملكني رعب لا مثيل له ، كنت أبغض تصرفها ، وسلوكها ، ما سبق أن شاهدت من قبل ، ثم خرجت طائرة مدوية بأجنحتها . دقت الباب من جديد، فنزلت ، ثم فتحتها ، لم أجد أحدا ، عدت إلى مكتبتي ، وأنا أرتب الكتب ، وأعيدها إلى رفوفها ، وأحاول بدلا من الخوف من " الوحشية التاريخية " أن أتعايش معها ،وأكون حميما مع الكتب ، أدركت حينها لم يدق أحد الباب ، ولم تدخل حشرة وحشية ، ولم تبعثر كتبي سواء أنني كنت مغتربا ، وإن ما فعله في محاولة خراب الكتب هو أنا ، أنا الذي أحيا في عالم غريب . يجرفني الزمن في نسيان ، ويضيعني بلا رحمة ، تنسجني خرافة وظل ببطء ، وبسحر غريب يحدث لي هذا ، أمارس طقسا من طقوس المتصوفين ، وعادة من عادات الزمن ، تباركني الأنماط الأبدية ، وسقوطي في فراغ ، لم أستطع تحمل ما فعلته ، كنت أخشى أن لا أتذكر ما قمت به ، فكنت أكتشف نفسي بعصاي المرتجفة ، هو مازلت أنا ، لا شئ آخر ، أرغب أن أكون بعيدا عن التاريخ ، إن شئت ، لأن بيتي الحقيقي هو الماضي ، كما لو أنني ليس في مكتبتي مطلقا ، فقد فقدت حساب السنين التي عشتها في الماضي ، حتى بديت عاجزا عن حسابه المواجهة أطول في التاريخ ، حيث نهايتي مقدرة أن أرتبط بالقرون السحيقة ، وأنا متروك وحدي ، أتحمل عذابي وألمي صامتا، مما يدعني على القيام بترتيب الكتب من جديد لأستفاد من الوقت ، وأمارس القراءة ، وأخضع السنوات التي مرت بشكل متوال على هذا الحال أحيانا ، أبعثر الكتب ، وأعيد ترتيبها ، وهي اعتبارات من الخراب والدمار التي أمر بها منذ يوم الخلق ، وهل لأنني اعتبر الوقت قد حان لنهاية الزمان ، هذه الخواطر أصابتني بالدوار ، أنا أحاول أن أدثر نفسي بالشجاعة ، لأتجنب المصير ، والشر ، والمتاهة المركبة ، و إيقاعات الرعب ، هل ستكون لي القدرة لتجاوز الترتيب المنطقي ، تفسير الأشكال ، الحلقات الدائرة ؟! لا أريد تكرار المشاق التي تحملتها ، كدت أصرخ ، لم تدخل حشرة وحشية ، أصبحت في متاهة التعب ، لقد عاد كل كتاب إلى مكانه ، فتراءى لي الكون ، الأصول المرئية ، المعارف البشرية ، الهواء الضبابي الذي يسقط أوراق الشجر ، النهار المشمس الدافئ ، غيمة شفافة وحيدة ، القمر يسبح في السماء ، الزهرة في وسط الماء ، الإنسان في حلبة الصراع ، تراءت لي أشياء كثيرة ، لكنني لم أنطق بأي كلمات ، تعبر عن هيئة الكون ، والإنسان وعواطفه ، بالرغم من أنها أمور تعنيني ، وتعين الآخرين على الوجود ، وماذا سيهم ذلك في عوالمهم ؟! وها أنا وحيد ، أصبحت لا أحد ، تغيبني حشرة وحشية في مهاوي النسيان ، كان يتراءى لي واجب وحيد ، هو أن أصنع إنسانا في مخيلته يشبهني بدقة ، وأن أجسده في حياتي المعاصرة ، مهمة فريدة ، متمثلة في أن أحلم ، في البدء كانت رؤياي مضطربة ، ثم صارت متوترة في طبيعتها بعد فترة قصيرة ، كان يتراءى لي إنسان غريب ، لم يكن في بالي إلا أنه كان شبحا يبحث عن مساهمة روحية في هذا الكون ، أردت أن أبعثه من التاريخ ، من سومر ، صموتا ، تشبه ملامحي ، فالتبست عندي الأشكال البشرية ، وجوه ليست مثل وجوه البشر ، حاولت أن أصوغ ، وأصنع هذا الإنسان في ذاكرتي ، فتخليت عن إصراري بعد أن عرفت بأن من المستحيل أن تستجيب إلى خيالي ، فلم أواصل مهمتي ، وأنا أرى في رؤياي حجوما مختلفة ، غائمة بحجم قبضة يد ،أو أجسام بلا وجه ، سمحت لرؤياي بمشاهدات كثيرة تلمع في عينيي في بعض الأحيان ، وتراءت لي كل الزوايا والأبعاد التي استلهمتها بذاتي ، ثم عدلت عن الأمر في صنع إنسان في مخيلتي كي يعالج أزمة التاريخ ، فتناولت كتابا من مكتبتي ، وأخذت أقرأ فيه ، فقد عرفت أني مجرد لم أستطع أن أصنع الإنسان النموذج ، وكلما أنشأته مخيلتي جاء مشوها ، واعتقد أني في وهم ، أقوم بشعائر مقلقة ، فان حلمي أو رؤياي هي من قدرات البشر أنفسهم ، وإن إنساني الغائب سيبقى غائبا. انفصلت عن هالتي التي أردت صنعها ، وانزلق ذهني بعد لحظة واحدة ، في متاهات أخرى ، ومنذ هذا الحين لم ترد في خيالي الإنسان الغائب ، فتركته لارتاح في طوال النهار ، وأخرج عن طقس الذات وأظن في فتنة لامتناهية، وغامضة في المشاهدة المتألمة لكتبي ، وأردت أن أقرأها كلها ، وبالأخص كتب التاريخ ، في ذات الاحتياجات للذهن البشري بنفس التعقيد والتناغم ، تناسل الصور الخيالية في الفضاء الكوني ، فتتصاعد في فرضيات كائنات بشرية شاسعة ، ومعقدة ، تعاني ، وتتنهد ، وتتألم ، وتهدهد ، وتطمئن ، مع نزوع شديد للحياة في جو غير عادي ، معقدة ، ترتدي أقنعة معبر أكثر من الوجه البشرى ، ترى عبره الصغير ، والكبير ، بضجر ، ويأس ، خاصة انحطاط رجال هذا القرن ، هذا بالضبط تفعله شخصيتي في الخوف من الحياة ، والنشوة بها ، توحيان عيناي بخواطر متشائمة ، أن أتبع النموذج ، الذي أريد أن أبعثه بذوقي الذي أعتنقه ، ألاحق الكلمات في الكتب ، وأخشى ، وقد أجبرت نفسي على تحمل عذابي ، مغامرة كئيبة لكل المسارات ، تضفي الدموع على وجهي سحر ، ونشيد عميق ، عينان مرتجفان يكسوهما البهاء الخجول ، بلغة صامتة ، بلغة الذكريات للسنوات القديمة ، انه شئ مضطرم ، حزين ، وغائم ، ومحسوس ، ملأت ذهني ، وأطبقت عليه ، فأصبحت أكثر إثارة ، مغو ، أحلم ، وأتخيل بصورة مختلطة الآن ، ذهن يحمل أفكار مرهقة ، تحمل شجن ، مجتمعة مع مرارة منعكسة على سلوكي ، تأتي من التاريخ بيأس ، وغموض ، وندم ، تتصرف بي مثل إثارة الوجود ، تجذبني بأكثر شحنا ، مضطرما ، حزينا ، لدي طموحات روحية مكبوتة بصورة مظلمة ، مهووس عن ذات تنضوي تحتها التعاسة ، والغموض ، أكثر إثارة للاهتمام ، لا يمكن أن أغفل ، هل أن كتبي سطوة الشك واليأس علي، والاضطراب الذهني ؟! وأنا أقلبها ، وأقرأها بوهن ، وضجر ، لم تجلب السعادة إلي ، وأنا أتمتم الكلمات ، فجأة بدأ قرع على الباب ، فنزلت ، وقد تجمد الخوف في داخلي ، ربما – زائر يقرع الباب ، هذا ما أقنت نفسي به ، وإذا بولدي جاء بإجازة من جبهة الحرب ، احتضنته ، وبكيت ، وأنا أقول : أنت حي . فأجابني : نعم يا أبي أنا حي . دخلنا إلى البيت ، ثم إلى الغرفة التي تشرف على الحوش ، فقلت :
- أنا يائس ، وحزين في كل ليلة موحشة تمر ، فصرت أتخيل أشياء مرعبة ، إنها الشيخوخة اللعينة ، خاصة بعد أن ضم الموت أمك …
يا أبي لا تقلق ، سأقوم أنا بواجبات البيت ، وأنت ستتفرغ للقراءة والكتابة ، -
القراءة ، آه… القراءة…-
وساد جو ودي بيننا ، يحس كل واحد بعالمه الخفي ، وولدي يحاول أن يهرب من الجيش ، أبدل ملابسه بأخرى ، واستأذني لزيارة مرقد الإمام علي ، فصعدت إلى مكتبتي ، رحت أقلب الكتب ، وأقرأ حتى أنهكت نفسي ، وأنا أحاول أن أصنع تاريخ جديد .


16 \ 9 \ 2008
 

 

free web counter