| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

حمودي عبد محسن

 

 

 

الثلاثاء 17/6/ 2008



الهروب

 حمودي عبد محسن

أني أتذكر…ما الذي يمكن أن أقوله مقابل التذكر ، أيام الحروب أصبحت بلا تاريخ ، لأن ذهني يريد أن ينسى التذكر ، لكن ما الذي أفعله إزاء التذكر : " أشباح وأطياف ، حرارة ورعب "، قبل أن أغرق في التذكر ، فهو فسيح ، نسيجه من جحيم . كان لي وجه صارم ، حزين ، أتكهن خلف الوهم بانتهاء الحروب ، التي أضعت فيها سنوات بالضجيج ، كنت أصبر مثل الكواكب الصبورة ، وكانت لي القدرة على التذكر في تخمها العميق ، وما أزال غامضا ، حالما بوجه نظراته ميتة ، ما عاد هناك وجه كهذا ، عيناه ترميان بنظرات منطفئة ، أعرف أنني انبثقت من العنف ، والعنف يفرض نفسه علي بمرارة ، لذلك وجهي صارم ، وحزين ، أعرف أنني أدخل النهار حالما : آلاف ذرات الرمال لا تعرف الراحة … أفق صحراوي ، لا شجرة فيه ، لا عشب فيه ، كثبان رملية تبعد يد عن يد ، حلمي كسول من صور الموت الواهنة ، من حديد ، مرفأه الهلاك ، ثم جاءت عاصفة الصحراء بعد غزو الكويت ، شجاعا كنت ، مجربا كنت ، لكن قصة الصحراء الجموحة أنستني أرقام الذكرى السنوية ، في الرماد الخامد لبقايا ذلك اللهب ، مهانة تلك الأيام في نهر الزمن ، أساطير الدم التي تنسجها الجثث المتروكة ، الحنظل الذي يضفي صفة الصحراء ، يضفي الرعب في كل الأشياء المختلفة ، التي تنتظر الموت ، الموت يريدنا من كل الأشياء المحدودة بالرمال ، " أنني سأموت دون أن أرى بيتي " هذا ما رددته ، وكان كل ظل يهدد ظل ، فقد استهلكنا قصف الطائرات ، أجساد متوجعة ، وصراخ ، وأنين ، واحتضار ، وقد نسيت من مات ، الزمن أطول من عاصفة الصحراء ، أطول من رائحة الليل ، والأفق يتصدر القدر ، وهذه الحرب أتت بالأعاجيب ، وتحطم الأعوام ، والأميال ، تملكتنا كوابيس عامة ، ولم ينفع التضرع للرب ، إذ لا يوجد في عوالم الحروب شئ آخر ، وحدها الصدفة أنقذتني ، وأنا مدهوش ، من كرمني على ذلك ، لا أدري …فقد أصبحت بلا تاريخ كنتاج المفاجأة ، عبثا حاولت أن أكون إنسان غير موجوع ، فالذكريات تحاصرني ، لا تنضب ، وقدري أن لا أموت كاملا ، وأدخل الظل الآخر ، رأيت جنود تموت مبتسمة ، يا ربي لماذا يبتسمون ؟! وهم انجبوا للحياة ، ولم يحققوا رغبتهم الفتية ، ليس للأسماء من أهمية ، ليس هناك واجب غير أن يكونوا على قيد الحياة ، وماذا سيحصل ، لو رميت نفسي على الأرض ، وبكيت ، ماذا سيحصل : دوي القنابل ، وانفجارات الصواريخ …إلى أي مدى من اللامبالاة يمكن أن تهلكنا النيران ؟! أية قناعة عميقة حيث نموت ، ونفقد للأبد خشخشة الذاكرة ، و التفاصيل الصغيرة ، ومجرى الحرب ؟! لقد توسل حلمنا في حس صحيح ، عيون ملطخة بما هو أرضي ، نفق الجحيم طويل ، وأظلم جدا ، والنظرات تضيع فيه ، فناء وكارثة ، تطن حول أذاننا رياحها ، تثير فحيح امتعاض من الكثبان التي تحيطنا ، فتختلط مع الدوي ، أصوات رنانة شاكية ، مستغيثة ، نداء وحيد ، منفرد في الصحراء ، يجوس فيه الموت ، يبتلعها الغيب غير واضح الملامح ، جياش ، مهدد ، غامض ، كلها صور رسمها الرعب المحجوب وراء الحرب ، ليس من واجبي غير أن أعبر هذه الحرب ، في فراغ يدي ، خرافة وظل في الجانب الآخر ، ليس غريبا أن يحدث هذا ، الدكتاتور في حلمه بلعبة الحياة ، المجازف بأرواحنا بلا رحمة ، هذه عادة من عاداته ، وطقسا يمارسه في الساعة المحتومة ، لم نستطع تحمل لعبته ، إذ تركنا نسقط في الخنادق ، كل شئ كان عبثا ، فتحملت عذابي صامتا ، مما يحثني بفعل شيئا ما ، فلم أستطع إخضاع السنوات التي مرت ، وبشكل متوال على هذا الحال ، تمكنت من استعادة قوتي أمام الخراب والدمار ، وهلاك المصائر والشرور ، اعتبرت الوقت قد حان للتحرك ، هذا أمدني بالشجاعة ، إذ كاد يهلكني القلق والتردد في المتاهة ، وإيقاع الرعب ، وقد واتتني القوة على اتخاذ القرار ، أني أتذكر الكلمات التي نطقت بها ، لأوضع حدا للموت ، وإنقاذ ما تبقى من أحياء ، أتذكر ولا يغيب شئ عن بالي في مهاوي النسيان ، أتذكر أن حياتي كانت بائسة ، شاقة ، أتذكر في ما مضى ، حيث هرب مني كل ما هو أمل ، وفرح ، وها أنا أصرخ : هروب ، فتعالى صراخ الجنود ، واتجهنا صوب البصرة ، حشود هائلة من الجنود تسير على الأقدام ، فكنت ضائعا بينهم ، أهذي ، وأنا أمشي ، وأقول : هروب…

17 \ 6 \ 2008

 


 

free web counter