حمودي عبد محسن

 

| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

 

الجمعة 16 /2/ 2007

 

 

البابلي
 


حمودي عبد محسن

زرت آثار بابل التي ظلت مجهولة لقرون سحيقة ، وقد فاجأني أن أكتشف لأول مرة أن مجدنا الذي أفتخر به ، قد شيد بدموع ودماء أرواح العبيد ، ليعمروا بابل ، وليسهموا في تشيد حضارتنا القديمة ، مما حدا بخيالي أن يسيح إلى جدي الأول الذي رحت أتصوره عبدا نحيفا ، ينهال عليه سوط جندي بابلي ليمزق جلده ، ويجبره أن يبني مع حشود العبيد قصور ترف ، ومدرجات عجيبة ، وجنائن معلقة ، بينما كان جدي يسقط على الأرض التي أحبها ، وأحب أن يكون جذر أسلافه منها ، كان يسقط وينهض ، ويسقط ليمرغ وجهه بالتراب ، فيهب إليه أخوته العبيد ، وتتلقفه أذرعهم السمراء ، لينتصب على قدميه ، ويقاوم رغم ضعفه وتعبه وعطشه ، وليواصل عمله تحت لهيب الشمس ، وهو يسعل ويبصق دما . لم يستطع أن يتحمل أكثر ، فسقط هذه المرة مغميا عليه ، فإذا بالجند يقيدونه بسلسلتين من قدميه ، ويحملونه بالصياح ، والشتائم ، والضرب ، ويرمونه في عربة يجرها حصان . ذلك دفعني لأكون مستغرقا في تخيلي ، لأتسلل في الليل خفية إلى سجنه المظلم ، أفك قيوده ، وأحرره من أغلاله ، وأحرر العبيد …نهدم الأسوار ، نقتحم القلاع ، ندمر السجون ، ثم نضرم النيران في قصور الأسياد ، ونعلن ثورة العبيد ، ونتوج جدي ملكا على بابل وسط هتافات البهجة ، فيعم الفرح ، ويسود الخير بعد أن يعلن جدي بصوته الجهوري الخلاص من العبودية ، فذات يوم تفاجئنا جيوش كبير الآلهة مردوخ المرعبة ، وتدمر بابل ، وتفتك بالناس بعد أن تعاون كهنته مع جيوش كورش الفارسي ، وتنزل الخراب والهلاك على أهل بابل ، وتحطم كل ما أنجزه جدي لشعبه ، لم يبق أمامي خيار سوى أن آخذ بيد جدي ونهرب معا خارج العبودية الجديدة ، وأنا أصغي إلى كلماته : ( الأشرار لا يتركون بابل تعيش بسلام ) ، أيقنت آنذاك أن هناك من يطمع ببابل ويريد دمارها باستمرار ، تحدثت معه عن أشياء كثيرة ، فأدركت أن البطش أمده ليس قصيرا ، والحروب أمدها طويل ، وكذلك أدركت كم كان البابلي يعشق وطنه ،وكم يعشق الحرية على أرضه… بدا لي أن قوة مجهولة تظهر وتختفي لتلحق الضرر بأهل بابل ، وتنشر الجوع والأمراض والموت بينهم ، هذا ما كرهته ، وصار يؤذيني كثيرا ، إذ كنت أصغي بانتباه دائم إلى ما يقوله جدي ، وأنا أقوده بحذر في الدروب المظلمة ، والطرق الخفية كي لا يكتشف أثرنا جند مردوخ . فجأة توقفت مذهولا ، أحدق إلى معبد صغير وسط بستان نخيل يقع خارج بابل ، حيث كنت أسمع أصواتا تضرع تدعو الآلهة عشتار لتحمي جدي من ظلم مردوخ . تقدم جدي إلى باب المعبد غير مكترث بالخطر ، وهو يردد : ( يجب أن أكون مع شعبي في محنته ) ، دفع الباب ، ووقف ينظر إلى الناس المحتشدة في قاعة المعبد ، فتعالت الهتافات : ( يحيا قائد العبيد ) ، بعد أن رأوا جدي واقفا أمامهم ، واقتربوا منه ، يهنئونه بنجاته من بطش جند مردوخ ، وهم يصرخون : ( مقاومة…مقاومة )…تركت جدي في معبد الآلهة التي أحبها ، وأحرق بخوره لها ، ونحر الذبائح كي تبارك حبه لها ، ولكي يدوم نسل بابل ، وتتوارثه الأجيال التي لابد أن تقاوم الظلم والبطش والحروب…

شرودي لم يدم طويلا ، فقد هززت رأسي متأسفا لانبثاق العبودية مترافقة مع بني الإنسان ، وأنا أتجاوز شارع الموكب ، ولأخرج من بوابة عشتار عائدا إلى وجودي ببطء ، فأنسل في سيارة لأمضي إلى المدينة ، وأنزل منها ، وانزلق بين الناس في شوارع وأزقة بابل ولتواجهني حمرة الغروب خلف بساتين النخيل على شاطئ نهر بابل . سرت صامتا منهزما من يأسي لأنبذ تخيلاتي التي تشدني إلى الماضي القديم ، لا أرى وجودي إلا فيه ، مستمدا تحرري منه ، لكن الصوت المنبعث من زمان جدي ، أخرجني من متاهتي ، ودفعني إلى حلم لأقبع فيه مكبلا بين ظلال الخضرة ، وأرمي نفسي متهللا بين ذراعي عشتار ، مستكينا بشذا ضفائرها ، متعطرا بقبلة من شفتيها الرقيقتين ، متهدجا بهمسها الذي أسمعه طروبا ، ولا أرى سوى ظلال قرون في عينيها الساطعتين النجلاويتين اللتين لا يراهما غيري ، فاتبعها خاضعا ، ترقدني في فراشها أعوام طويلة كي أنبثق من التاريخ ، ثم انبعث إلى عالمي من جديد… إنها تقودني من يدي إلى معبدها ، وتحلق رأسي ، وتطليه بدهن آس ، وترمي شعري مع جريان النهر لتنجيني من الظلم والحروب ، إنها تأمرني ، وأنا أمضي معها مؤمنا ، مدركا ، أنني أنحدر من عالمي إليها ، وأشيد وراثة مجدنا الذي يكبلني ، ويكبل أجيالا من بعدي ، ويمارس سطوته علينا جميعا . هكذا كنت أعود وأتحرر ، أو أتحرر وأعود وحدي مع عوالمي مع الوقت ، أحاور زمنا سحيقا رافقته الحروب ، فتولد في داخلي خوفا لا مثيل له من الحروب الدائرة ، فكنت أخشى أن نخسرها فنصبح عبيدا عند المنتصرين ، أو ننتصر فيها فيتحول الآخرون عبيدا عندنا ، هكذا بدا كرهي لكبير الآلهة مردوخ سيد الحروب ، وبدأ يتفجر في أعماقي حب للآلهة عشتار . سرت بائسا تحت رذاذ المطر لأواجه والدي عند عتبة الباب ، وألتقيته بصمتي ، فبادر إلى سؤالي : - أين كنت ؟!
: - زرت آثار بابل…
: - ألم تسمع بانفجار سيارة مفخخة ، قتلت مئات من الناس ؟!
: - سمعت دويا هائلا …
: - لماذا لم ترجع إلى البيت…تركتنا في قلق كبير… ؟!

دخلت البيت مبحرا في عصور سحيقة واختفيت في فراشي ، يأخذني سبات أعوام ، أصحو في زمن آخر ، انفصل عن دنياي ، أتلقى ما يوحي لي أن الأيام ليس في مستقرها ، فتختلط بتراجعها وتقدمها ، ويتغير مجرى التاريخ ، لتتجلى لي عشتار ، تخلو وتنفرد بي ، وتبلغني بالقيام ، وترك سريري . نهضت مرتبكا خاشيا دون أن أرى عشتار ، أو أسمع أمرها ، فتسللت إلى خارج البيت ، ووقفت عند عتبة الباب ، أتأمل النهر المدثر بالظلام الهادر في جريانه ، هذا أرجعني إلى حكايات جدتي المتوفاة التي حذرتني دائما من غضب النهر إذا كثر الظلم ، وأوصتني أن أتجنب هيجانه ، أنه خطر ، خطر جدا ، لكن هيجانه لم يفزعني على الإطلاق ، لم يفزعني بعد أن كثر الظلم ، ولم يفزعني تحذير جدتي أن يفيض النهر ، ويغرق المدن والبساتين بأيام سبعة ، بل ما كان يفزعني هو أن أكون عبدا ، وأن لا أرى طيف عشتار ، فوقفت كما يقف الآلاف من البشر ، وهم يتأملون الظلمة أثناء صخب الحروب ، كنت أحاول أن أكتشف نفسي ، وأكتشف ما في هذا الزمان وذاك ، فانطلقت محاولتي أن أنشد شعرا ، لأن جدي الأخير كان يلح علي أن أكون شاعرا مثله ، وكان يلح علي أيضا أن أتأمل، وأحلم ، وأحلق إلى النجوم . هكذا فقط أستطيع أن أصبح شاعرا مثله كما يعتقد جدي ، ولهذا أردت أن أكون شاعرا في هذه الليلة الفريدة ، وأواصل بحثي عن عشتار ، فانبثقت مني الكلمات تخاطب النهر، وتناجي عشتار حتى انتهيت من قول القصيدة عدة مرات…وبعد لحظة سمعت صخبا فتأهبت هلوعا صبورا لألبس ، وأساطير الأولين ، ولأدرك ما لا يدركه الآخرون . تقدمت إلى النهر ، فتوارى عني لون الأرض السماء بلحظة مذهلة ، وتعلق بوجهي ضوء خاطف سريع . نظرت أمامي لم أر شيئا ، عصرت عيني ، لم أجد دمعا ، بل وجدت أن الحلم اكتمل في عيني ، …رجعت إلى البيت تحت قصف الرعد ، ووميض البرق ، ووابل المطر لأطرد عني شريكا خفيا …رجعت إلى وسادتي ، ونمت لتأنس عيناي برؤية طيف عشتار كأن ليلي ليلها ، وتقيمني ثانية من رقادي ، وتهلهل وجهي بابتسامتها ، وتعتز نفسي عجبا ولأسمع أيها النائم ، انهض…
كان هذا في غبشة الفجر ، إذ وجدت نفسي أمسك آلة الحلاقة ، وأتقدم ببطء إلى النهر ، وأقف عارضا نهاري ، أرفع بصري ، وأمده في عرض السماء بينما الفجر يتمطى وينبسط بياضه فوقي ، وعلى النهر الفائض .برهة تتبع برهة من الزمن ، تتراكم ، وترتعش يداي لترتفعا فوق رأسي، وتتفرد أصابعي ، وتطرد خواء وهن السنين ، ويسترخي الشعر المنفوش في ظل زحف الغيوم ، وها أنا أسمع خفقا لأجنحة طيور مزغردة كأنها تحرر أسري ، وأنا أحلق شعر رأسي بنفسي ، وألملم تساقطه على الأرض ، وأرميه في النهر ، وأتابع اختفاءه ، غسلت رأسي بماء النهر فتسرب وخز برد إلى جسدي ، وتقاطر الماء على وجهي لاهيا غافيا على صدري …وأنا أتمسك بعبوري عصور بابلية كما أراد جدي أن أصبح شاعرا .

9 |1 | 2007