حمودي عبد محسن

 

| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

 

الأحد 15/10/ 2006

 

 

برج بابل


حمودي عبد محسن

بنى البابلي من لبن ، وتراب أحمر سبعة مدن ، وفي كل مدينة بنى برجا أو زقورة ، ذلك حدث بعد الطوفان بأكثر من 500 عاما ق م ، إذ أراد أن يعلو بثبات إلى السماء التي كانت بالنسبة له قبة مقدسة مرفوعة على أعمدة أو سقف مرفوع يغطي الأرض ، فيه الغيوم ، فيه القمر والنجوم ، فيه الشمس ، منه يبدأ النور والظلام ، وترتعد أعمدة السماء ، وترتاع ، ويسقط المطر من أبواب أو مصاريع ، فالمتعبد يتطلع إلى السماء ، ويناجيها بصوت عال أن تمطر ، لتحبل الأرض ، ثم تنجب ، فالسماء – الذكر ، والأرض – الأنثى ، ومن السحب التي في السماء ، التي فوق الأرض تبعث ولادة جديدة ، التزاوج مع الأرض ، والإخصاب ، السماء – الأب يخصب الأرض – الأم ، يلقحها بعد أن يفتح أبوابه ومصاريعه من المطر ، هكذا تجود السماء من مطر ، وتكثر الخيرات ، ولا أحد يعرف أكان البابلي يظن أن السماء تحمل على أكتاف آلهة ، والأرض لها أفق غير محدود أم مظلة تلامس الأرض في اللانهائي ، كما لو أنها قوس سماوي يلامس الأرض ، فالسهل المنبسط في شنعار – وادي الرافدين – الممتد مد البصر ، يبدو فيه أن السماء دانية من الأرض ، ترجع إلى عصور ضاربة في القدم ، ثم فصلتهما الآلهة ، فلابد من الوصول إلى السماء ، وإحصاء النجوم ، ورؤية القمر ، وتلمس موعد شروق الشمس وغروبها ، فكانت الزقورة في أور بمثابة سلم بين الأرض والسماء ، يصعد منه المتعبدون ، يقفون في الهيكل المقدس عن قرب من الآلهة ، ويقرءون الدعاء ، ويتقدمون بطلبهم ، تسمع الآلهة دعائهم ، وتنزل عن عرشها إلى الأرض فوق هذا السلم ، فالأبراج بدأت في وادي الرافدين ، تعلو على مائة قدم ، وفي بابل تعددت اللغات لملتقى حضاري بشري ، سكنها أكثر من ربع مليون نسمة ، وبالتحديد في أيام نبوخذنصر الثاني ، فأرادوا أن يقتربوا عن قرب من السماء ، فبنوا برج بابل الشهير ، ليصل ارتفاعه 300 قدم ، وهذا ما أبهر اليهود بعد الأسر ، والذي يقدر عددهم أربعين ألف أسير ، جئ بهم مسبين إلى بابل من أورشليم ، جئ بهم من مجتمع الأكواخ إلى مجتمع حضاري ، فها هو نمرود – الصياد الجبار أو الماهر – الذكي يقف عند المذبح ، وهو من نسل نوح الذي كتب لهذا النسل النجاة من الطوفان الذي قضى على جميع البشر ، وقف مقدما ضحيته بقرة بيضاء ناصعة البياض ، وحرق البخور ، ثم تقدم كحاج عند غروب الشمس حيث نسيم الفرات العذب يداعب خصلات شعره الطويل المسترسل على كتفه ، ولحيته التي تلامس أعلى صدره ، إلى باب المعبد البرونزي الصلد ، واستأذن الدخول ، وانسل خاشعا إلى معبد مردوخ المسمى ( أي – ساكلا ) أي – البيت الشامخ أو الرفيع الرأس – الذي يقع إلى الجنوب من البرج المسمى بالسومرية ( أي – تمن – ان – كي ) التي تعني – بيت أسس السماء والأرض - ، وجلس نمرود على ركبتيه ، قبالته تمثال مردوخ – سيد الآلهة - المستند على قاعدة كبيرة ، قربها تماثيل كثيرة ، والعرش الذي يجلس فوقه ، وكلها من الذهب الصلد ، وضع يده على صدره ، وقدم صلاته ،ثم وقف ، وانحنى ، وخرج متراجعا إلى الوراء ، ثم انحدر إلى برج بابل التي أضفت الشمس عليه صبغة ذهبية ، وأخذ يصعد طوابق البرج السبعة على سلم لولبي ، الطوابق التي ترمز إلى الكواكب الدرية كمرصد فلكي لدورة السنة ، جلس على مقعد في الطابق الخامس للاستراحة ، حيث اعتاد الجلوس وهو في طريقه الارتفاع إلى القمة ، حتى وصل إليها ، وكانت بمثابة معبد مزين بزينة فاخرة من الذهب ، رفع يديه ، ودعى الإله مردوخ أن يوحد اللغات الكثيرة التي يجري التحدث بها في بابل في لغة واحدة لشعب واحد لن يتشتت في وجه الأرض ، ويكون سلالة جديدة واحدة ، هذا يمت بصلة إلى مرحلة تاريخية سابقة من حضارتنا البشرية .لم يستجب مردوخ ، ولم تتوحد اللغات في لغة واحدة ، وظلت بابل تنعم بعظمة برجها في أعياد الربيع ، وظل مردوخ الأعظم شأنا في بابل ، وحينما ينغلق باب الليل ، يبقى نمرود كعادته مع مردوخ في هيكل العبادة ، أعلى معبد لبابل ليصل السماء ، ويشرف على العاصمة ، وأبراجها المعلقة تحت أشعة النجوم ، التي تضفي الأبهة على عالم دنيوي في جماله ، فتنتشر الألوان ، فتضفي روعتها على بابل ، ويتوهج البرج عذوبة ألوان طوابقه ، حتى ينداح ألقه على كل عيون البابليين في أبهى ، أجمل ليل ، فتتعاقب الاحتفالات البهيجة سماوية لجينة مع الأرض ، فروعة البرج ينتصب شامخا لرمز قوة بابل بإله القمر ، والازدهار والإخصاب ، أشياء ضخمة في بابل : قصر نمرود ، هيكل مردوخ ، الجنائن المعلقة ، برج بابل ، كلها تزدان بروعة كتل الألوان الخضراء ، والذهبية ، والزرقاء ، وتماثيل الأسود ، والثيران ، وجريان الفرات ، وتذبح على صخور المذابح الخرفان ، ونمرود يقرأ الدعاء ويسبح في بابل الرائعة البذخ والأبهة بأنهارها ، وسواقيها ، وأقنيتها ، ونواعيرها الضخمة الهائلة ، لرفع المياه إلى الجنائن المعلقة الأسطورية الثرية بالزهور البراقة الناعمة ، والحدائق التي تعج بالألوان والطيور ،والروائح البهيجة ، والنباتات الخضراء ، والنخيل ، ونمرود لا زال يسبح للإله مردوخ في آخر معبد قد علق بالسماء ، في آخر حجرة إلهية ، ثم نزل إلى أسفل البرج ، تاركا المعبد المذهب ، والطابق الأبيض ، والأزرق ، والبرتقالي ، ونزل الدرجة الأخيرة حيث وطئت قدمه الأرض ، فقدم له خمرة التمر ، وشربها ، وقال : ( لم يستجب مردوخ لطلبي ) ،وراح يبتهج مع الشعب في عيد الربيع ناسيا توحيد لغات بابل .

14 . 8 . ‏2006