حمودي عبد محسن

 

| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

 

السبت 15/7/ 2006

 

 

موت الأرملة و كلبها الوفي


حمودي عبد محسن

يا لأسفي على ما فات !
هذا ما رددته السيدة ماريا سفينسون في ليلة باردة من شتاء إكشو ، وهي تجرجر ساقيها المتثاقلتين إلى خزانة الملابس في غرفة المنام الدافئة التي ينيرها ضوء خابي من ثرية سقفية قديمة . بحثت بين ثيابها عن ثوب أبيض شفاف ، كان مخبأ لأعوام طويلة .استغرق بحثها وقتا طويلا .رفعته إلى وجهها ، ودثرته به ، وجففت دموعها اللاهثة ، وذكرى جسد زوجها الراقد في المقبرة تحت أشجار البلوط . أنهضته في ذاكرتها ، وأرقدته جنبها ، مثيرة أنشودة ملتاعة ، مكتومة ، لنفسها في غوامض دنياها ، لاغية وجه المدينة ، وأهلها النيام في إناء الليل ، مصارعة فراشها بجسدها ، ثم جثم عليها هول ، و سكون متناغمان مع اللحن المتصاعد في السماء ، لحن الليلة الأخيرة أو الساعة الأخيرة في الحياة ، فتخيلت أن ملائكتها المجهولة تحضر موتها . كانت تتكلم مع الليل ، كلماتها ترفرف بأجنحة جريحة في سكون غرفتها . إن شيئا خطرا قد حدث . نظرت إلى الثوب ، لامسته بشفتيها . لأول مرة تستعيد الأعوام في ملمس ثوبها ، وتنفض عنه رائحة الشيخوخة ، وتخاطبه : ( أنت بقايا حنان ) . أحست وكأن حواسها الخدرة قد هاجت وهي تتعرى وترتجف وترتديه ، وتعيد لنفسها تألقا منسيا ، تنهدت ، وتنفست بعمق ، ومرت يدها اليمنى عليه ، ثم داعبت نهدها الذاوي الذي كف عن الرجفة ، ورعشة الشباب التي لم تنتابها طوال الأعوام الأخيرة . لم يدم ذلك وقتا طويلا ، غير أن ذلك لم يكبح جماح بهجتها ، وخوفها من هذه الليلة بالذات ، وقد هبطت بظلامها الدامس ، وضبابها الكثيف على المدينة ، وكانت وحدتها تتكاثف مع الليل الذي شهد موت زوجها ، كانت صورته تلاحقها ، صورته وهو مسجى على السرير ، ساكنا في عريه ، ورهبته ، جامدا باردا كالتمثال . لم تسمع نفسا ، ولم تبد حركة منه . وجهه شاحب ، مندفع إلى أعلى ، وعيناه مفتوحتان نحو سقف الغرفة كأنهما تقولان : ( مصيري الموت ) . لم تكن مصدقة آنذاك إنها تحدق في وجه الموت طويلا ، حائرة ، مشوشة ، مستوحدة ، تسكنها الغربة . صلت من أجله على فراش موته ، وقطع صلواتها الحزن على نفسها ، وخوفها من أعوام الوحدة القادمة .دنت منه شيئا فشيئا ، ورسمت قبلة أخيرة على جبينه ، وأغمضت عينيه بأطراف أصابعها برقة ، وفي أعماق قلبها الدافئ ينساب شوق مقدس إلى شفتيه ، وعنقه ، وصدره الذي رقد على صدرها في أغلب ليالي الصيف والشتاء.
جلست على حافة السرير يهدهدها حلم مبهم أن تحي زوجها الذي مات منذ زمن بعيد ، فكانت في الليل تتحسس جسده ، متألقة في الحب ، وتنظر إلى عريه الناهض في عريها ، ولذتها ، تستشعر طعم بهاء وجودها ، وجمال الأشياء التي تتفتح في روحها ، كانت تبتهج لمجرد أن تمتلكها لحظات أنه لها ، أنه يلفها بذراعيه بحنان ، ويفرش شفتيه على شعرها الذهبي ، ثم ينزلق بهما إلى عنقها ، وكتفها ، ويردد : ( أنت رائعة ) ، ويرقد على جنبه صامتا في فرحه ، لم تستطيع أن تصمد طويلا إزاء صمته ، فتكرر : ( لماذا لا تتكلم ؟! ) ، لم يجب على سؤالها لأن الصمت كان ملائما له ، محبوبا كلما اكتنفه في هكذا لحظات ، كلما أصبح فيه مدركا أجمل ذات ، لم تلح عليه أن يتجاوز صمته ، فهي صارت تستلذ بما يلائمه ، ويفيض إحساسها بحبه شدة ، ووفرة ، وصدق ملاحة وجه …فبعد موته اعتكفت واتجهت لزيارة الكنائس وعبادة الرب حتى بلغت السبعين بانتظار لحظة الموت ، محافظة على طقوس موروثة ، متراكمة في رعب عزلتها التي تجد فيها ولا تجد أملا لإعادة ترتيب السنين التي مضت ، والشيء الذي رغبت فيه أن تحلم في لحظات احتضارها ، أن تزفها وجوه حزينة من أهل إكشو إلى جلالة الرب تحت الثلج الكثيف وموجات البرد والضباب .
الحب مدفون في الذاكرة .
هذا ما قالته بصمت ، ثم نادت فيدو الذي كان يحوم حولها ، رفع رأسه ، وحرك ذنبه بفرح ، وقفز إلى حضنها مادا بوزه ، لاحسا وجهها ، ورقبتها ، متشمما ثوبها ، فأخذت تدغدغه ، وتمسده ، وتكلمه : ( كفى…كفى…أعرف أنك تحبني…انظر..انظر…ما أجمل ثوبي ! ) .قربته إلى صدرها ، وطوقته بذراعيها ، غير أن النعاس فاجأها ، فأطرقت رأسها مستسلمة له .تمددت على فراشها ، بينما دس فيدو أنفه بين قدميها ، وهو يسمع شخيرا لأعوام ، أعوام فقدت توازنها في إكشو التي احترقت مرتين في الماضي البعيد ، واستطاع أهلها أعادت بنائها ، فسجلت في تاريخ السويد كإحدى المدن القديمة في مقاطعة سمولاند ، أبت ماريا سفينسون آنذاك أن تهجرها في أعوام القحط السوداء ، وفضلت أن تعاني ، وتتعذب ريثما تجتاز الأمة محنتها ، وتنهض بالبلاد لتبني حضارتها .
أفاقت من غفوتها ، وذابت في أدعية الرب وجلالته وهيبة الكنيسة .حاولت أن تستعيد تفاصيل قداس اليوم في ذاكرتها ، وما سمعته عن الموت . بذلت جهدا كبيرا أن تتذكر ، تذكرت حديث القس عن صعود الروح إلى السماء ، وألفة الأرواح ، وطهارة النفس ، وكمالها ، وتلاقي الخير بالخير . جرت نفسها ، ونعاسها ، وأنفاسها الضعيفة ، المتعبة إلى غرفة الجلوس ، لتتخلص من ضيق راح يرهقها ، وتغلق الكلمات ، وتطفو بقايا أنفاسها فوق كلبها الذي جرى خلفها . كلمته : ( إني أموت ) . لم تستطع أن تكمل كلماتها ، وتتخلص من ثقل الجهد ، و صراعها مع الروح التي بدت تفارقها ، فسقطت على أرضية الغرفة ، ولفظت أنفاسها ، بينما ساور فيدو _ المالطي الأصل ، واللون الأبيض ، والمنخفض القوائم ، والبدن القصير ، والبصر الضعيف ، والأعوام العشرة _ اضطراب وخوف شديدين . اقترب من وجهها لاحسا ، متشمما ، لاويا ، وهازا ذيله ، متوسلا كأنه يقول : ( انهضي…انهضي ) . كان سقوطها يدل على أن شئ مأساوي قد حدث .ارتبك فيدو ، وتوتر غير مصدق أن سيدته لا تتنفس ، ولا تطلق صوتا ، ولا تنهض …ثمة أقدام ترتقي إلى الطابق الثاني . تصنت ، ورفع أذنيه بحيرة .كان يتألم ، ويستاء من وقع الأقدام التي لم تبد أي اهتمام لمحنته . لم يطق صبرا . استثار ، وقفز عاليا ، وعوى . جلس قرب الباب متلهفا لسماع أصوات حيوانات أو بشر ، لكن دون جدوى ، فعاد إلى سيدته ، يحدق بعينين حزينتين ، وشرع يدور حولها ، ينتابه أمل أن تنتصب ، وتناديه : ( فيدو ) . التصق بجسدها ، وراح ينتظر ، وينتظر …يدور ، ويرقد…يصغي ، وتتوتر أذناه ، يتجه إلى الباب ، ويعود إلى سيدته ، وينبح نباحا حادا بلا توقف .
حل الفجر عليه ، وهو قلق ، صامت ، بعد أن غلبته حالة اليأس ، والانتظار ، كان يعاني من وحدته ، ومن ما يحيط به ، فاهتاج ، وزمجر ، ونبش أظافره في الأثاث ، وعبث بها ، قادته قوائمه إلى المطبخ ، تجذبه روائح الطعام المتروكة بإهمال ، وراح يعوي عواءا خافتا…مضى النهار عليه منهكا ، ومضت عدة أيام ، فصارت الشقة بائسة ، لا أحد يطعمه ، ويشربه ، ويغسله ، ويتجول معه في الحدائق و الغابات ، وعلى ضفاف نهر إكشو ، فرقد على ساعد سيدته الأيسر .

23 . 1 . 2005