حمودي عبد محسن

 

| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

 

السبت 15/7/ 2006

 

 

مجموعة قصصية

حورية ايكشو ( حورية بحيرة البلوط )


حمودي عبد محسن

الإهداء:
إلى أهل إكشو ، وأخص بالذكر العائلة توريد أهلين ، وهيني أوتسي أهلين .

المقدمة :
إن المثل القائل ( الشرق و الغرب لا يلتقيان ) لا ينطبق على رواية الكاتب حمودي عبد محسن ( حورية إكشو ) . فإنها تنفرد بنظرتها الموحدة لكلا الثقافتين العربية وشمال الأوربية .حيث بيوت سمولاند الخشبية أحيطت بطبيعة جنائن الشرق بنخيلها الباسق وأشجار زيتونها العبقة ، محلقة فيها طيور البجع و البلابل . إنني ألمح مجون رواية ( ألف ليلة و ليلة ) في الجنوح المعروف عند ( كارين بوي ) الناضج بمشاعر الندم عند مقرب الهاوية : ( من الصعب أن تكون غير متأكد ، خائف ، و مشتت،من الصعب أن تعرف العمق أو البرودة ) .

إنني أقترب من النص بانجذاب شديد يملؤه فضول لمعرفة الجديد فيه ، الذي يملك - في نفس الوقت - جذورا قديمة . ولأجل إعطاء النص تقييما عادلا كنت أتمنى معرفة قراءة اللغة العربية ، لغة القرآن الأصيلة ، إن الأفكار تتصادم في الرواية .حيث إكشو ندية ، تعيش تحتها ثقافة عربية تاريخية . وإنني لأقدر شجاعة المترجم ( صالح عويني ) في قبوله ترجمة هذا النص إلى اللغة السويدية ، حيث قام بعمل صعب . لأن الكلمة حين تترجم من لغة إلى أخرى ، تفقد الكثير من معانيها وصورها . إن كل ترجمة،تعطي في أحسن الأحوال صورا و معاني مختلفة عن النص الأصلي .
إنني كنت أرغب في العيش في جمالية النص الأصلي غير المترجم في مشاعره وأغانيه ، وأتنفس حواراته الداخلية ، أو حواراته مع القمر ، وصفاته المعروفة في الأدب العربي . كيف تتداخل هذه الحوارات ؟ كيف تعيش تصاعدها الموسيقي ؟ كمدخل لذلك يصف الكاتب لقاءه مع إكشو كتفاعل متناغم . أهذه الرواية هي قصيدة هجائية لإكشو ؟ من خلال ثقافتي السويدية أستطيع فهم جزء منها ، ولكن أبرز إعجابي هو بالمعاني الشعرية الجمالية التي تتضمنها .
متوهجة أنت في عيني ، أيتها المدينة !
أغور في أعماق بحيراتك ، وأنا أبحث في المياه
أصحو في ربيع زاه

مع النار والماء يأخذنا ( حمودي عبد محسن ) في البداية إلى الاحتفال المحلي بإشعال النيران ترحيبا بمقدم الربيع إلى إكشو ، و يصف لنا مخاض الربيع الروحي من جوف الشتاء الأبيض المتهرم . ويعطينا رموز المخاض في خروج الحيوانات البرية و صراع الخيول ، مضيفا إليها نماذج بشرية . إن سير الأحداث يقدم لنا مشاعر قوية ومتضادة . وكصورة للتناقض ، يرمز لنا الكاتب الثوب الأخضر الجديد للربيع الزاهي بمهر في لحظة ولادته ، وإلى جانبه تتقد نار ملتهبة ، والتي كانت خلال القرون السحيقة خطرآ يهدد البيوت الخشبية القديمة ، ومن داخل هذه الصورة يأخذنا الكاتب إلى المشاعر الداخلية ونحو علاقة الحب بين آنا وبير . هل علاقتهما الغرامية مسموح بها ؟ أم يجب أن تقمع ؟
إن الماء المراق في الوديان والمشاعر الملتهبة تحملان صفة مشتركة ، فإنهما يحملان السعادة والبهجة ، ولكنهما يهددان بفقدان الحياة ! حيث أن الكاتب يشير إلى إمكانية حدوث إمور سعيدة كثيرة ، ولكن الماء الكثير يغرق ويحمل معه الموت ! وفي هذه الصورة التعبيرية يعود بنا الكاتب إلى أرض الواقع الحامل لكثير من الكوابيس . وفي وسط حر الصحراء الملتهب تطلب آنا من الرب أن يبعث بغيمة تظللها و ترافق مسيرتها .
إن عشق بير وآنا حقيقي وخالص ومتناغم مع الطبيعة . وصدر آنا كأنه عقدة في شجرة حور . والحياة الحرة للطيور ترفع هذا العشق السعيد نحو السطوع . هذان العاشقان يحتفلان بحبهما من خلال الرقص ، ولكن رقصهما يقودهما إلى الانكفاء نحو الحزن ، وكأنهما يرقصان لموتهما . إن السطوع الخارجي والداخلي يتصادمان في الرواية . وعد العشاق يثمن بدون أحكام مسبقة . إنه رقص مشابه لرقص الغزال ، حيث تصب حركاته الفاضحة نحو موجة صورية تجمع ما بين الشوق الرومانسي ، والواقعية الحقيقية .
الرواية تربط بين الأحوال المتضاربة ، ما بين السعادة والمأساة ، معيدة صقلها في صورة جميلة . فهذا المطر المبرق الذي يهيج مشاعر الحب ، يحمل في نفس الوقت مشاعر الأسف و التردد . ففي وسط الفرح تأتي أقدام الواقع ، التي تحمل الخوف من الهرم المؤدي إلى الموت ، الخوف من الضياء الذي يعقبه بسرعة الظلام ، مواجها الإنسان ، والحيوان والطبيعة بنفس القسوة . في العزلة والصمت والظلام يسمع صراخ الوحدة الهاربة .
إن المؤلف يتحدث بعيونه . نظراته هي التي تصف لنا حياة إكشو من الخارج . نظراته التي تمتلك أصولها في قلب الحضارة العربية . في هذه الرواية المتعددة الثقافات صقلت وأعيدت - أيضا- الكاثوليكية ، التي تذكرنا بأفكار دانتي في سفره الكوميديا الإلهية التي تنقلت بشكل متدرج ومعقد من الجحيم -إلى المطهر- ثم نحو الفردوس . إن لغة هذه الرواية تقع في الحدود ما بين النثر ، والشعر .

كرستينا نيرو
7\7\1998

لحن متصاعد

عندما وطأت قدماي ( إكشو ) الهادئة ، الوديعة ، الصغيرة ، والجميلة ، الغارقة في أنغام المطر ، الغارقة في الخضرة ، وخرير المياه ، و أصوات الطيور ، المغمورة بالبحيرات الصافية ، والغابات الكثيفة ، شرعت في كتابة هذه الرواية القصيرة التي سهرت الليالي من أجلها ، كي أنسج الكلمات ، كلمة ، كلمة ، أتعايش معها ، أسمع وقعها ، أحزن وأفرح ، أتصارع معها في ليالي الشتاء الطويلة بثلجها وبردها و ضبابها ، وأنا أحتضن حلمي ، وأمسح دموعي بأصابعي … أشق دروب المدينة ، أغيب فيها ، وأعود إلى صمتي ، وأملي ، ورحابة الكون … تومض في خاطري الأعوام ، تخطفني إلى مدن بعيدة ، أندهش وأبتهج … لحظة خاطفة : آنا كجذوة حب ، كفجر ، كعذاب ، كذروة تألق في بناء وتغير … ذروة تألقها كابتسامة حزينة ، ثم أصرخ بصمت :
متوهجة أنت في عيني ،أيتها المدينة!
أغور في أعماق بحيراتك،و أنا أبحث في المياه
… أصحو في ربيع زاه

من أجلك أيتها المرأة ، مستقبل وجودنا البشري ، زهرة حياتنا ، وضوءها … أجل ، من أجلك،يا حورية إكشو ، عزفت لحنا متصاعدا ، متسقا ، صافيا،يتغنى به ، ويرقص له ، كل من يشعر بان للحب قدسية إلهية .

حمودي عبد محسن
13\10\1996

1
يا لفظاعة هذا العالم !
هذا ما قالته ، وهي ترمي معطفها على الكرسي بعد أن كرهت اعتكافها المتواصل في البيت ، ووحدتها الموحشة ، ومرور الليالي ، والأيام التي لم تبلغ فيها أي وعد ، وعد تفر منه ، و ترجع إليه عاجزة ، يعريها ، ويكسوها قلقا ، يحاصرها ، ويكشف عن وجهها الحزن . لم تنج منه . تذرف الدموع ، و تطأطئ رأسها له :
أي روع هذا الذي يحملني ؟
تمددت على الكنبة ، وتمددت كلماتها ، ونشرت منفرطة حولها تثير الوعد ، تبسط يديها إليه . لم تدركه . يتضعضع بين أجفانها أصم،أظلم ، وبقي ظلها ممدودا مثل جسدها . لم يتبدل اليوم ، ولم يتبدل الوعد ، وملت أن تتعود عليهما . نبشت بأظافرها الكنبة . لم تجد فيها سوى غبار ، وألم ، ووعد ، وراح رأسها ، يلتهب بالوعود ، فتمددت عيناها ، وطافت إلى الجحيم كأنه يوم العقاب … ففيه تجمعت حشود هائلة من شياطين أقزام عراة حول حفرة عميقة مستعرة ، بلا دخان ، في صحراء تغطيها الرمال ، و تضئ ظلمتها النار . فجأة تشابكت أيديهم ، ثم راحوا يرقصون حول النار ، ويطلقون أصواتا أشبه بصئ فئران ، فشكلوا دائرة حولها ، بينما وقفت هي عارية مربوطة إلى جذع شجرة بلوط يتيمة وحيدة . اصفرت أغصانها بائسة معانقة جذعها الذي انحنى شائخا باتجاه النار . لم تكن تعرف كيف صار وجهها ، وهل ارتسمت عليه خطوط نار أم ظل وجهها يشبه وجهها قبل أن تدخل إلى الجحيم ؟ انه عار مثل جسدها الذي دبت عليه قطرات العرق ، والتي تصببت باكية مثلما فعل سائر جسدها . تأملت وجوههم . لم تجد فيها حزنا أو رحمة . وجدتها قاسية لا تشبه وجوه البشر . شفاههم ترتجف ، و تدق أجراس الموت ، ويتسارع إيقاعها من أجل أن تموت مع صمتها . لماذا تعاقب في النار ؟ لم تفهم ! إن كل ما فهمته : ( يجب أن تموت .كظمت الأسى في نفسها ، وحاولت أن تفهم . بحثت في وجوههم . إنها أرهقت وجهها . رغبت أن تصرخ ، ورغبت أن تسمع صدى صرختها : أموت .خافت أن تغضبهم صرختها . حاورت صمتها ، وصرختها المكبوتة ، ودفنتهما في دمها ، و أطرتهما بالأسى . لم تكن تعرف كم مضى عليها من الزمن أسيرة الشياطين . ربما دام ذلك سنينا،ربما دام لحظات .
يا ليتني لا أرى !
هكذا نطقت مثل شمس كاسفة ، ولسعت وجهها نار من الخوف ، وانحدرت الدموع من عينيها ، وأصابتها رعشة ، فوسوست الحلي الذهبية التي تزين جسدها بخفوت ، واهتزت العمامة التي كانت تعتمرها ، وسمحت لجزء من شعرها المنفوش أن ينسدل على جيدها تعبث به لفحات حارة من الهواء.
ماذا ينتظرون ؟
كان سؤالها مختنقا مع أنفاسها المتعبة ، الفزعة،و هي ترقب زفافها إلى الموت الرهيب ، و عرسها الجهنمي . كانت تغلق عينيها بين الفينة و الفينة لتبعد عنهما هذا المشهد المهلك ، فلم تصدق نفسها – أن قيامتها جحيم – وإنها سترمى في النار منصهرة فيه . شعرت بان النار تدور ، وإنها تدور مع النار ، والألم ، والكلمات : أي ضحية أنا ؟
جاهدت أن تصبر ، وترى …
لكن ماذا ترى ؟
كيف يصهر رأسها ؟
كيف تصدر منها صرخة الهلاك : أنا أحترق ؟
أجل ، أجل ، تصبر ، وترى … !
نهضت ، وأخذت تروح وتجئ داخل الغرفة كأن مسا من الجنون أصابها . وضعت يديها على رأسها لتتأكد من أن رأسها لم يصهر ، وأن رعبها : نار حمراء . راحت تلقي نظرات خائفة على أرجاء الغرفة ، تتمعن في محتوياتها باندهاش : إنها عمياء مثل النار ، وأن الصمت ، والسكون يخيمان عليها ، وفوق رأسها ، وتحت قدميها.وقفت ، ومرت يديها فوق أذنيها ، لتطرد سعير النار منهما ، وصوت الشياطين . أخفت وجهها بين يديها ، فانزلقت دمعتان بين أصابعها ، وتبعهما سيل من الدموع ملأ يديها بالدفء والخوف ، مخترقا راحتيها ، نازفا فوق وجنتيها ، لاهثا في مفرق صدرها الناهد . نحبت بتوجع ، وضغطت رأسها بيديها ، لتوقف نداء النهاية ، لتوقف دوي إنفجار من دم ، وعظام ، و عذاب ، يحفر في أرجاء الغرفة ذكرى حزينة لخوف رهيب . ارتجفت ، وترنحت على أرضية الغرفة .
في تلك الأثناء ، في جحيم الآخرة هبت ريح لاسعة،محملة بالتراب ، ثم ظهر وحش عملاق مجنح ، يزحف ببطء ، وينفخ كرات نارية ، يمتطيه كائن خرافي ، تتبعه حشود هائلة من شياطين عملاقة ، تحمل بأياديها مشاعل ، ركعوا له ، وسجدوا ، وكادت وجوههم تلامس التراب ، ثم انتصبوا واقفين كالأصنام .
فهمت…
كانوا ينتظرون قدوم الرب …
أهذا هو رب النار ؟
نزل الكائن الخرافي منه ، وأخذ ينظر إلى النار ، وإلى الشياطين ، و إليها ، وأطال نظره فيها . اقترب منها ، وهو يتفحصها . دار حولها ، ثم فك رباطها ، و دفعها إلى أمام ، و بإيماءة من رأسه ، فهمت ما يريد .رمت العمامة بغضب على الأرض ، وصرخت صرخة وحشية : أنا أحترق . وقفزت مهتاجة ، وضربت الأرض بقدمها ، ثم صفقت بيديها ، وهزت كتفها ، ورأسها ، وركضت ، وقفزت ثانية . كان جسدها يرقص حركة ، حركة ، والحلي ترن بأسى ، مؤلفة نشيدا من رهبة صمت العقاب ، وسعير النار ، وتراكمت بلا رحمة مثلما تراكمت القسوة في وجوه الشياطين ، مثلما كانت الكلمات ترقص معها :
آنا …
أنت نذر لهذه النار
زفي نفسك إليها .
أرقصي ، أرقصي مثل النار ، وابعثي لحنك المكبوت منذ آلاف السنين .
تعبت ، رمت نفسها على الأرض ، وتمرغت،فصار جسدها كالتراب ، قاومت ، وهي تهز ذراعيها ، و ساقيها ، تدفعهما إلى أمام ، وترجعهما إلى الخلف ، ثم تتصافح يداها ، وترفعهما إلى أعلى ، وتهزهما مع جسدهما ، وتدور حول نفسها . لم تستطع أن تقاوم ، و لماذا تقاوم ؟ … ثم سقطت على الأرض دون أن تنهض .
استجمعت قواها في غرفتها الكئيبة ، ثم زحفت على أربع باتجاه باب البيت ، فكانت ركبتاها ، و يداها تخذلانها ، و هي تتخبط في وعودها المرعبة . انطرحت على عتبة الباب باكية ، فهبت عليها نسمة قوية مشبعة بالشذا ، والرطوبة ، ورائحة الأشجار ، حيث داعبت خصلة شعرها رأفة بها .
الوعود تقتلني .
قالت هذا ، وهي تنتصب واقفة بعناد ، وتدق قدمها على الأرض بقوة ، لتحاول أن تطمر وعودها في أحشاء الأرض . شقت طريقها الترابي على شاطئ بحيرة ( هنسنين ) ، ثم تابعت كلامها : يجب أن أذهب . وأسرعت في مشيتها . كانت تنظر إلى خلفها ، لتلقي نظرة على الطريق ، الذي خلفته وراءها ، ولتريح نفسها من أن الكائن الخرافي لم يلاحقها . توقفت ، واستدارت تنظر في ما حولها بارتباك ، وهي تتمتم : لم يكن أحد سواي . أن كل ما سمعته من وقع خطى ، كانت خطواتي .
واصلت طريقها ، وغزتها الوعود من جديد ، و عبثا حاولت أن تبعدها عن ذهنها . كان الكائن الخرافي يحملها بين ذراعيه ، ويتقدم بها خطوة ، خطوتين ، خطوات متمهلة ، واثقة إلى النار . توقف ، وهز رأسه ، وهو يردد بصوت مدو : احترقي .كانت تصرخ ، وتنحب ، وتضربه على صدره ، وتترافس ساقاها في الهواء مثل فراشة مخنوقة . قذفها في النار ، فصار جسدها : لهبا.
تعثرت ، وكادت تسقط على وجهها . ارتعشت ، وضجت كلماتها بين الأشجار : نار جهنم . اتكأت على جذع بلوط ، تفتحت براعمه توا ، وتداعت متهالكة على الأرض ، وهي تغمغم : لماذا يجب أن أموت ؟
احتضنت الجذع ، وأسندت رأسها إليه . هدأت قليلا ، ثم رفعت ناظرها ، فرأت أغصان الشجرة فوقها . رفعت ذراعيها نحو السماء ، وصرخت : أنت لهب . فجأة سقط برعم بين قدميها . رفعته إلى عينيها ، تفحصته ، قبلته ، شمته ، وداعبت وجهها به . ما لبثت أن دسته في مفرق صدرها . شعرت بارتياح لا مثيل له ، فلم تعد تسمع خطوات خلفها ، ولم تعد ترى وجه الكائن الخرافي ، ووجوه الشياطين . قامت ، وحدقت في جريان مياه البحيرة . أرهفت السمع إلى خريرها . تقدمت عدة خطوات ، وغرفت الماء بكفيها ، و صبته على وجهها ، ثم انطلقت من جديد مخلفة وراءها شجرة البلوط ، ووعودها ، وأشباحها التي لم تعد تتلاطم في ذهنها ، وصارت تترنم بلحن أشبه بلحن البحيرة.
وأخيرا وصلت إلى النار . كان الدخان يتصاعد إلى أعلى يتواشج مع غيمات صغيرة ، تزحف ببطء فوقها ، لكن المكان خلا من أهل إكشو ، وانتهى احتفالهم _ يوم استقبال الربيع _ وودعوا الشتاء القارص ، و لياليه الطويلة المظلمة بالفرح ، وكان يلقي بعضهم على بعض نظرات حالمة في ربيع زاه . أجل ، وصلت متأخرة ، وتفرق الجمع الغفير . وبينما كانت غارقة في التفكير ، وتحدق حائرة في النار سمعت صوتا يكلمها : آنا . تلفتت حولها ، فرأت ( بير ) ماشيا إليها ، وهو يقول : وصلت متأخرا . أطلقت تنهيدة ، وقالت بصوت خفيض حزين : أنا أيضا وصلت متأخرة . وفي غضون لحظات تساقطت زخات خفيفة من المطر . رفعا رأسيهما ، ونظرا فوقهما ، ثمة غيوم سوداء تزحف فوقهما . قالا بصوت واحد : بدأت تمطر . ضحكا سوية ، غير أن هطول غزير من المطر ، و قصف رعد ، ووميض برق فاجأهما . أمسك بها من يدها ، وركضا سوية باتجاه بيته الذي لا يبعد كثيرا عن النار ، فهو يقع عند منبع نهير إكشو ، ويطل على النهير ، والبحيرة .
توقفا عند عتبة الباب ، و قد أدركهما المساء ، وبللهما المطر . رفع يدها إلى فمه ، لثمها ، ثم رفع عينيه ناظرا في عينيها . نظرت في عينيه متسائلة ، وأحنت رأسها ، وسحبت يدها بهدوء : كنت انتظر ذلك منذ أعوام طويلة .
خيل إليها أن كل ما يحدث ( طيف خداع من أغوار جهنم ) يتلاشى مع توقف المطر ، و يختفي مع اختفاء المساء . ولذلك فإن ما سمعته ، لم يكن إلا أغنية حلم هادئ ، كانت تنصت إليها برهافة ، ورغبت أن تتكرر ، و تسمعها مرات ، ومرات : ماذا قلت ؟
_ ها … لماذا لم تكشف عن ذلك .
_ الخجل !
_ الخجل ؟!
_ فتح الباب . أمسك بيدها . و انتحى جانبا،قائلا :
_ تفضلي .

##################

في صمت الغرفة ، في صيرورة المساء ، في عبورها القلق . أرادت أن تطفئ لهب الجحيم ، وتخنق سعيره ، وتزيح عذابها . أرادت أن تلغي نفيها ، وغيابها ، والوعود المدماة ، وأشباحها … انفرطت ثيابها المبللة التي تنز منها قطرات ماء المطر ، انفرطت قطعة ، قطعة مثل حبات رمان على أرضية الغرفة ، أحاطت بقدميها ، متراكمة بعضها على بعض ، وسقط البرعم على ثيابها ملفوفا برائحة نهديها تاركا أثره في مفرقهما . كادت تنساه ، ولولا سقوطه لظل متشبثا بصدرها . أخافها سقوطه ، وأذهلها هذا التعلق به . انحنت ، ورفعته من بين قدميها . وقفت عارية مثلما وقف بير ، وهي تمسك البرعم بإصبعيها ، وتتأمله باندهاش ، مما أثار ذلك اندهاش بير أيضا : ما هذا ؟
_ برعم
_ أين وجدته ؟
_ هو وجدني .
أخذه من يدها ، وقربه إلى أنفه ، وهو يستنشق منه رائحة مركبة من البلوط ، والربيع ، ونهديها . قبله ، و وضعه بهدوء على الطاولة ، ثم اقترب منها ، وأطال النظر في عينيها . لامست شفتاه أنفها ، وراح يتدحرج بهما إلى شفتيها ، نازلا إلى صدرها ، وبطنها ، وساقيها ، وصعد بهما إلى حيث بدأ ، يغوص في دروب جسدها المتشعب الناعم ، فالتقت الشفاه متلهفة ، تطفأ ظمأهما . طوقته بذراعيها ، ورفعت ثغرها نحو وجهه ، تلتقط من عينيه الدامعتين ، وأنفاسه المتسارعة أملها ، وحلمها ، وترسم بأصابعها على ظهره وعد الربيع ، وتتشبث بشعره ، وتنفجر من قبلاتها أصداء : على الأرض ، على الأرض . فانبسط جسدها فوق ملابسها ليتفتح برعمها الخاص ، ويلثم جسدها لحظة ، لحظة ، مع شهقاتها ، وصرخاتها ، وذروة تألقها ، وتعزف بثغرها نداء دفينا :شيدي حلمك الربيعي ،الوديع ، المصان من غضب نار جهنم . أنكري أشباح الشياطين ، و حطمي قسوتها .
لم تعد تتذكر حطام ، وغضب وعودها السوداء ، وهي تزدهر ، وتمخر بعيدا عن آلام الدنيا ، و عذاباتها . و هي تضع رأسها على صدره لتختبئ فيه ، وتهمس بصوت هادئ خفيض متضرع : بير …
_ ها …
_ هل تحبني ؟
_ منذ عشر سنوات…عندما التقينا لأول مرة في المدرسة . لم يفارق ناظري مظهرك الجذاب ، أتذكر ابتسامتك الخجول ، وثوبك الأحمر الفضفاض . كان ذلك في تمام الساعة التاسعة صباحا .
_ أجل ، أجل ، أنا أتذكر عندما التقينا لأول مرة ، لكنني لا أتذكر مظهرك ، ولا أتذكر الثياب التي كنت أرتدي .
_ أنت لا تتذكرين ، أما أنا فأتذكر كل شئ ، كم عدد السنين التي مضت ، وأنا لا أنسى ابتسامتك الخجول ، هي نفسها ، نفسها ، لم تتغير.
_ مضت على ذلك أعوام طويلة ، و أنت تدفن الحب في صدرك .
_ أجل ، تعمدت فيه ، مشدودا إليه .
_ يا ليتني كنت أعرف ! بالرغم من أنك كنت متزوجا .
نهض ، وخطا إلى النافذة ، نظر عبرها إلى الخارج ، حدق في الظلمة ، ثم فتح النافذة قليلا ، فتسللت إلى جسده نسمة باردة ، وداعبته قطرات مطر . تبعته،ومالت عليه ، وطوقت خصره بذراعها الأيسر ، ووضعت رأسها على كتفه الأيمن ، فتدلى شعرها على كتفه ، وراحا ينصتان سوية إلى صخب النهير ، و أمواج البحيرة المتلاطمة ، و زخات المطر ، وأصوات الرعود المتكررة ، وبينما هما غارقان في الصمت ، والتفكير ، محدقان في الظلمة ، مرهفان السمع إلى العالم الخارجي ، سمعا صوتا شجيا يغني ، جاءهما من قلب الظلمة ، ليبلغهما عن توحدهما ، و اختفاء الرعد ، و الوميض ، و ضجيج النهير ، و البحيرة .
انه طائر ليلي .
هذا ما قالته ، وفاضت عيناها بالدموع ، وسالت على كتفه هادئة ، دافئة ، بطيئة ، فسألها بصوت أشبه بهمهمة طفل : لماذا تبكين ؟
_ السعادة أبكتني .
_ هل تعرفين ؟
_ ماذا ؟
_ لماذا يغني هذا الطائر ؟
_ انه سعيد .
_ انه يطرد الخوف
_ لماذا هو خائف ؟
_ الطيور تخاف الرعد ، ووميض البرق .
_ والإنسان ؟!
_ يخاف الوحدة .
_ تعني العزلة .
_ أجل،العزلة .
_ هل الطائر ؟!
_ لا…
_ عله يرقص .
_ ربما…
قبلته في كتفه قبلة طويلة ، ووضعت يدها على رأسه ، تداعبه . استدار ، واحتضنها . ثم لزما الصمت لحظات . فجأة انطلقت منها كلمات بصوت متوسل حميم ، خافت : أريد أرقص . طوق خصرها بذراعه الأيمن ، وامتد ذراعه الأيسر إلى ظهرها ، فوضعت هي رأسها على كتفه ، وطوقت خصره بذراعيها ، وصارا يرقصان بهدوء ، وبطء،و يدوران ، ويضم صدر كل منهما الآخر بعنف في ظل ضوء شمعة خافت ، كان ينير الغرفة أشبه بضوء قمر مقدس ، يسهر لهذا الاكتمال ، والالتحام لجسديهما . كانت الشمعة تحترق ، ويذوب شمعها ، و يتصاعد الدخان خفيفا ، ناشرا غيمته في أرجاء الغرفة ، يرفرف فوق سطوعهما . أرادا له أن يكون إلى الأبد دون أن يختفي أو يتلاشى ، ثم ما لبثت أن تحركت أذرعهما كإخطبوط جائع ، تتناغم مع تغريد الطائر الليلي ، الذي يأتيهما من عمق الظلمة ليعزف لهما لحنا شجيا . كانت الأذرع تروم لتدرك كامل جسدهما ، ثم تتراجع ، واللحن يترقرق فوق رقصتهما اللذيذة ، وتعود الأيدي مندفعة ، مسترسلة لتواصل بحثها في دروب جسديهما ارتميا على أرضية الغرفة ، يطوقان بعضهما البعض بسرعة ، وعنف ، ثم قاما ، ودارا ، ووقفا ، وسجدا ، و انقضت اليدان من جديد على النهود ، ليرقصا رقصة سريعة وحشية كألسنة نار منفلتة ، وهما يتثنيان ، ويتهاديان ، ويظهران جنونهما حتى حملها بين ذراعيه ، وحطها على السرير ليكملا رقصتهما الشبقية .
كانت ملتفة عليه مثل نبتة اللبلاب ، هادئة ، مطمئنة ، لاغية صراعها مع وعودها ، ومع الشياطين العراة ، ومع نار جهنم التي كادت تعصف بها في هذا اليوم . قذفتها بعيدا عن رأسها ، واكتشفت نفسها في القبل ، والحنان ، والنشوة ، والرقصة اللذيذة ، وازدهرت متألقة . رفعت رأسها ، ونظرت في عينه ، ثم سألته بلطف : كم بلغت من العمر ؟
_ حوالى الأربعين ..
_ وأنت ؟
_ حوالى الثلاثين .
ثم أردفت قائلة بصوت هادئ حنون : سأهبك اجمل ما تبقى من العمر مثل برعم الربيع الذي وهبني عمرا جديدا .

2

كان بير جالسا على عتبة الباب الخارجي المقابل للبحيرة ، واضعا رأسه على ذراعيه المستندتين إلى ركبتيه ، وجلست آنا بقربه ، وقد لفت ذراعها على رقبته . كان الغروب يخيم على صمتهما ، بينما آنا ترقبه لحظة بلحظة ، والأصيل يقترب بتؤدة ، باسطا ضوءه الذهبي على صفحات البحيرة . كان كل شئ يتألق في هذه اللحظات بالذات : روحهما الصافية ، بهاء الطبيعة ، حلمهما الذي ربما يتعثر ، والنسيم يتململ ، و يتوغل إلى روحهما ، مما أوحى لهما بان مياه البحيرة ترتل نشيدا منسجما ، ارتعد في صدرهما بهناء . أرادت آنا أن تسأله ، ترددت لحظة ، عضت على شفتها السفلى ، و أخيرا تجرأت ، وسألته بصوت خائف: هل لا تزال تحبني ؟
أجاب بصوت حاسم : أجل ، الإشراقة خرجت من مخبئها ، يا آنا !
_ أجل ، أحس بفرح غامر ، لم يتملكني من قبل .
_ آه ، ما أصعب على المرء أن يبعد الغم عن نفسه ، ويطلق الحب نحو السرور .
_…لكننا أبعدنا الغم،و أطلقنا الحب سوية.
_ أجل ، هذه الانطلاقة تجسد روعة الوجود ، فالإنسان بلا حب يصدأ.
_ أجل ، أجل ، لقد وجدت أشياء جميلة فيه،لم أجدها سابقا ، حيث قربتني من شأن كان بعيدآ عني ، وأخذت أنظر إليه نظرة مميزة ، وبعينين مفتوحتين مثلما تنظر النجوم في الليالي .
_ هل وجدتي شيئا محددا ؟
_ نعم ، وجدت اندماج روحينا بعنف .
_ هذا هو الحب ، انه أمر صعب ، أن يجده الإنسان في عالمنا الشاسع . صعب أن يجد الحب الراسخ المديد .
_ أجل ، صعب!لكننا وجدناه .
_ وجدناه بعد أن كان مكبوتا ، كنت أبحث عنه بعد افتراقي عن زوجتي السابقة ، فوجدته في حصاني الأبيض . وقضيت أغلب وقتي معه ، آواه ، لو مت ! أرجو أن يحملوا نعشي على ظهر حصاني .
_ لا تقل هذا ، أرجوك .

داعب بير شعر رأسها برقة ، أما هي فرفعت رأسها ، ونظرت إليه نظرة حزينة ، والدموع تترقرق في عينيها المحمرتين ، قبلته في جبينه ، ثم صوبا نظرهما سوية نحو البحيرة ، شعرت بألم عميق تجاهه ، وبرأفة لا حدود لها ، لا سيما بعد أن تراكمت عليه الآلام قبل لقائهما بطيئة متعاقبة ، هادئة صاخبة ، مثلما تراكمت عليها بالتدريج ، كما لو أنها رسمت لهما مسبقا،لتتوج في لقائهما .

كان هناك طير أبيض جميل يحلق في الفضاء ، يصفق بجناحيه بسرعة عجيبة ، وينظر إلى المياه بتمعن كما لو انه ثابت في الهواء ، فجأة ضم جناحيه ، وهبط بسرعة فائقة إلى البحيرة . سحبت آنا ذراعها عن كتفه ، وأشرت بيدها نحو البحيرة ، وبلهفة شديدة ، قالت : انظر…
_ لقد استطاع أن يحقق رغبته بعناد.
حلق الطير من جديد في الفضاء الرحب ، وأخذ يعلو ، ويعلو ، ويدور حتى اختفى عن الأنظار … هبت نسمة باردة من جهة البحيرة ، فتحركت أغصان الأشجار بهدوء ، وتصافحت أوراقها مع بعضها ، وانبعث حفيف ذو ترنيمة شجية جلبت الانتعاش ، والراحة إلى قلبها . أطلقت آنا تنهيدة قوية ، وسالت الدموع من عينيها ، وجرت على وجنتيها ، وشقت طريقها كما تشاء حنونا . نهضت ببطء ، وسحبته بهدوء من يده،قائلة : لنرقص…
راحا يرقصان بمرح ، وغمرتهما نشوة عارمة ، وارتسمت البسمة على شفاههما . كانا يدوران بخفة ، و نشاط ، فجأة ، توقفا عن الرقص . احتضنها بين ذراعيه ، فطوقت خصره ، وأرخت رأسها على صدره . أمطرها بوابل من القبل في رأسها ، وجبينها ، قالت بصوت رقيق عذب : ما أحلى السعادة !
فقال هو بارتياح : ما أحلى الحب !
أخذ الضوء الذهبي يختفي تدريجيا ، ولاح الظلام الزاحف فوق البحيرة . حملها على ذراعيه ، بينما طوقت هي عنقه بذراعيها ، ورمت رأسها على كتفه ، وسار بها إلى البيت . وضعها برقة على السرير ، ودفن وجهه في صدرها ، وبطنها،و هو يردد : ما أروع الحب !
#################
كانت الغرفة دافئة ، والليلة في بداية ربيع بارد لا تشبه أي ليلة من ليالي عمره ذي الأربعين ، ويضئ عتمة الغرفة ضوء خافت من شمعة صفراء ، يهامس صمته ، ويداعب عينيه الحبيستي الدموع ، التي كان يزيحها عنهما بكبرياء ، بأصابعه المرتعشة ، يزيحها عن عينيه اللتين لا يرى بهما سوى حبيبته العارية ، الغافية باطمئنان بجانبه ، والمتألقة في فراشه الوردي الوثير ، الذي تزينه زهور صفراء ، بينما كان يصيخ السمع إلى زخات المطر في الهزيع الأخير من الليل ، والتي تضرب زجاج النافذة بعنف ، كأنها تلوح له عابسة بافتراس حبيبته ، لتجرده منها ، وتعيده إلى زمنه العتيق مكتئبا ، مرتكبا.
كان عاريا ، مستلقيا على ظهره ، محدقا في جسدها بشراهة ، قلقا من وميض برق مرعب ، يتسلل من السماء السوداء ، الراعدة بصخب بين الفينة والفينة إلى الغرفة الصامتة من خلال ستائر النافذة ، وكذلك قلقا من رائحة جذوع الشجر الرطبة ، والبراعم المتفتحة التي ربما تغزو الغرفة ، وتلملم رائحة جسدها النفاذة . أخذ يتمعن في نهديها الهابطين ، الصاعدين بغنج مع أنفاسها مثل صوتها العذب البريء ، الذي يبعث نغمة متسقة ، حنونا ، تتجاوب مع نغمة أنفاسها، أما عيناها المغمضتان ، فقد رآهما مفتوحتين ، مشرقتين ،متولهتين، تومضان فرحا ، وحزنا في آن واحد ، تسطعان في عينيه .لم تلبثا أن بحثتا عن تلك الشامة القاتمة في نهدها الأيمن … وصار يبحث حذرا في تفاصيل جسدها عن تلك الشامات السوداء ، التي تزين بشرتها البيضاء . عجز عن أن يعثر عليها ، لكنها لم تفارق ذاكرته مثلما لم تفارقها ظرافتها ، ودعابتها ، وسخونة وجهها الوضاء التي أخذت تضيق فيها كلمات ليالي أعوامه الأربعين ، الكامنة في ذاكرته ، والتي لا يريد أن يتذكر منها شيئا أو لعلها آخذة في الزوال وإلى الأبد أو كفت عن ملاحقته ، وعن إبعاده عن بهجته . لم يكترث لأي ارتياب لتلك الليالي ، أخذ يزحف بشفتيه مرتبكا في شعرها الناعم ، ويتذوقه مثلما يتذوق جسدها الناعم . ترك شعرها يعود إلى مكانه فوق صدرها برقة ، وهدوء حيث أخذ النهدان في عينيه ينموان ، ويكتنزان ، ويتضخمان ، ثم يترهلان ، ويختفي بريق عينيها ، وتتلاشى خفة حركتها ، ويبيض شعرها.
لا…لا…
أطلق صرخة مرعبة في داخله ، أما آنا فتململت ، وأطلقت تنهيدة خفيفة أشبه بهمهمة طفل ، ثم طوت ساقيها ، وأدارت وجهها إلى الجدار ، فعادت في عينيه خفيفة الحركة ، ظريفة ، وبديعة ، وأدخلته في أنشودة جسدها ، وقادته إلى العالم الآخر ، إذ الطيور الصداحة ، وملايين الزهور الزاهية ، العطرة ، والأنهار الصافية ، والهواء العليل ، وحوريات لا مثيل لجمالهن في دنياه ، لكنه في قرارة نفسه لن يختار منهن ، بل سينتظر بعد أن تعيش حوريته ، وتلتحق به ، و سيلقاها هناك ، ويعيشان إلى الأبد.
استطاع أن يغلق عينيه بهدوء بعد أن طبع قبلة خفيفة ، هامسة على ظهرها ، ودفن وجهه فيه ، وكذلك دفن فيه كلماته المتبقية ، و تخيلاته اللامتناهية ، وعصفت به بعزف خاص.
بدا الفجر ينبلج ، ولاح نوره ، فتوقف المطر من الهطول ، وسكن هدير الرعد ، وبدت السماء صافية ، فتسلل ضوء الفجر الفضي الأبيض إلى الغرفة ، و انحسرت أنشودة الجسد.
تململت آنا في فراشها الوثير ، وأطلقت تنهيدة خفيفة ، ثم فتحت عينيها . جلست بكسل عارية منفوشة الشعر ،تثاءبت ، ومطت ذراعيها ، وقالت بصوت طفولي جميل : انهض…
واصلت تثاؤبها من جديد ، ثم أردفت قائلة : انهض الفجر قد بزغ.
نهضت ، وارتدت ملابسها المرمية فوق الكرسي في وسط الغرفة ، ثم عادت إليه ، وحركته من كتفه بهدوء ، ورقة ، وقالت ببراءة :سأعد الفطور
شهقت ، وتفرست به مرتعبة : آه…
وقد وضعت أصابعها على فمها ، مندهشة ، حائرة : ميت ؟!
اجتاحتها رعشة عنيفة ، وصرخت بأعلى صوتها: لا…لا…
ثم هرعت راكضة إلى الحديقة تروح وتجئ منفوشة الشعر ، كئيبة المنظر ، والعرق يتصبب من وجهها ، و الدموع تسيل على وجنتيها ، وهي تكلم نفسها : هذا هو خوفي لابد أن ألاقيه ، ضائعة ، ضائعة في وجه الفجر . إنه العذاب الأبدي . أهرب ، إلى أين ؟ نعم ،كل شئ يسخر مني ، كل شئ يسخر ، فلأهرب بسرعة ، ولكن…إلى أين ؟

3

الأيدي أخذت دروبها في الفرك ، والأذرع تسللت ، والتفت على رقبة الحصان الأبيض ، لوى الحصان رقبته بضيق ، وتشمم الأرض بأنفه . إذ بللته الأذرع ، فتوترت أذناه ، وانتصب شعره ، وصهل . لم يعد يعرف لماذا تروم الأذرع بطنه ، وموضع حوافره حتى لم تبق جزءا من جسده إلا و غسلته . ارتبك رغم العناية التي ضمته ، وانبسطت فوقه ، و تحته . تشتت بصره في الوجوه الحزينة التي تحيط به ، فدار رأسه يبحث عن وجه أليف ، وابتسامته الغائبة تتلوى مع ارتعاشة فتحتي أنفه ، وبرطمي فمه ، فشدد من انحناءة رقبته ، وجذبته رائحة ماء البحيرة .كاد يهرب من الصمت الذي ضايقه ، فإذناه لا تسمعان سوى قرقرة الماء فوق ظهره ، وخرير البحيرة الوديع الهادئ . طال وقوفه ، وطالت حيرته ، فطالما تعود ذراعين لم تتعثرا بجسده مثلما ازدحمت ، وتسابقت الأذرع الطويلة ، والقصيرة في هذا اليوم . خطا إلى الماء . ارتوى ، وألقى نظرة طويلة ، منهكة على صفحته ، وخريره يهمس في إذنيه بلطف ، وحذر ، ويبلغه عن تعاطفه مع حيرته ، وصمته ، والحزن المرتسم على وجوه الجميع .
شرعوا يمسحونه حتى جف الماء منه تماما ، ثم البسوه بردعة بيضاء ، تدلت على قوائمه ، وأخرجوا ذيله من فتحة أحدثوها فيها ، ولفوا رقبته بقطعة قماش خضراء ، ووضعوا عليها طوقا من الفضة ، وبعدما تأكدوا من حسن مظهره ، رشوا عليه عطرا مستحضرا من أوراق البلوط ، ونباتات برية ، وأزهار متنوعة ، ما لبثت أن نشرت حوله رائحة طيبة . لم تكن هذه الأشياء حدثت له من قبل ، فقد قضى ماضيه عاريا ، مجردا من أي زي معين باستثناء السرج ، واللجام ، ولوازم الركوب الأخرى أما اليوم فهم يتعاملون معه كما يتعاملون مع أنفسهم حين يستقبلون أعيادهم التي يحتفلون بها كل عام ، فيرتدون أجمل ملابسهم ، ويتزينون بأحسن زينة .
وبعد ذلك ما لبثوا أن وضعوا على ظهر الحصان حملا غير عادي ، حملا غريبا ، لم يألفه سابقا . ظل الحصان في مكانه هادئا ، طائعا ، مستجيبا إلى أهل إكشو حتى ربطوا الحمل بدقة وإحكام ، فلم يتحرك أو يجفل ، بل تسمر في الأرض كأن صوتا تناهى إلى سمعه ، لم يعرف مصدره،يقول له : قف ... قف … قف …
لقد وضعوا عليه واجبا ذا شأن ليؤديه ، إذ أطلقوا له العنان في المشي ، وهم يتفرسون فيه بترقب ، واندهاش ، ماذا يفعل ؟ كيف سيتصرف ؟ هذه أسئلة راودتهم ، و عيونهم توحي بغم كبير ألم بها . لقد اعتاد سابقا أن يخطو أو يخب أو يقفز ، ويمرح في المروج ، وسيده يمتطيه ، فإن اقترب منه أحد ليعتليه ، أخذ يرفس ، ويركل ، ويزبد ، ويزعق ، ويدق الأرض بأطرافه ، ويجمح حتى يسقط راكبه إن أفلح هذا في امتطائه .
وها هو ، لم يفهم ما يجري حوله ، كل ما في الأمر أن يسير بتثاقل وفق ما يريدون إلى أن تتبين الأمور . حرك عينيه ، وهز ذيله ، وصهل ، وارتعشت عضلات قوائمه معلنة عن استعداده لإنجاز مهمته في أن يطوف بهذا الحمل كما أرادوا . مشى بتخبط تارة هنا و تارة هناك ، فهو لم يعرف بعد الطريق الذي اختاروه له أو الذي سيختاره ، فتركوا له الحرية في ذلك إلى أين يسير ؟ ومتى يتوقف ؟ كأنه دليل هذا الحشد من الناس الذي يجري خلفه ، ويقوده إلى طريق الآمان ، حيث وضعوا كل ثقتهم بقدرته على إيصالهم إلى هناك بكل أمان ، وسلام ، و هم يكررون مع أنفسهم : انه سينهض بمسؤوليته .
شق الحصان طريقه ، وفجأة توقف ، واستدار ناحية الجمع الغفير ، ينظر إليهم باندهاش ، لم يفهم ماذا يجري حوله ؟ هل إن سيده قد سافر إلى بلدة بعيدة أو غاب لأيام معدودة أو لديه عمل ما ؟ فهو لم يعتد مثل هذا الموقف من قبل .ظل متحيرا . متى ينتهي من هذا التطواف ، وإلى أين يطوف ؟ ماذا جرى لسيده ؟ اتجه يمينا قاصدا المقبرة ، فكان الناس يسيرون بخطى قصيرة و في رؤوسهم أفكار ، وتأملات ، تقودهم حينا إلى هنا و حينا إلى هناك ، إذ كانت قوة غامضة تدفعه إلى المقبرة . توقف قليلا ، وتصلبت أذناه المستقيمتان ، وصهل ، لربما دعاه سيده إليه ، الذي ارتبط وإياه بعلاقة حميمة ، فهو لم يحمله أعباء غريبة ، ولم يضربه بالسوط كما فعل الآخرون مع جيادهم ، ولم يسمح لأحد أن يمتطيه ، كم من مرة مسد له رقبته ، وتحسس بيده جبهته ، وخده ، وقال له كلمات طيبة ، وها هو يشعر باللطف من قبل الذين يمشون وراءه ، فلا أحد ينخسه أو يرغمه على شئ ما ، بل الأمر متروك له ، ولم يتدخلوا في جولته هذه غير أن هذا الحمل الذي فوق ظهره أخذ يحيره أكثر ، رفع رأسه إلى السماء ، كانت الشمس مشرقة تريق أشعتها الباهتة على البحيرة ، و الأشجار . انزلق الحمل فهب الذين في الطليعة ، وأعادوه للتوازن حتى استقر فوق ظهره جيدا . حرك رأسه ليعطي إشارة تعبر عن سروره لذلك . صهل بكل ما أوتي من قوة كي يهب إليه سيده أو على الأقل أن يسمع صوته الذي يستطيع أن يميزه عن بقية الأصوات ، فله تأثير عميق عليه ، فلا يضيع منه مهما تداخلت أو اختلطت أصوات الآخرين معه ، وبمجرد أن يناديه أو يصرخ صرخة الاستغاثة ، يهرع إليه بمنتهى السرعة غير آبه بما يحدث فيأخذ صاحبه يمسد خطمه ، ويربت على رقبته ، ويكلمه : أنت رائع ، رائع يا حصاني !
تلفت الحصان إلى اليسار ، واليمين دون فائدة ، فكان الصمت هو الصمت الثقيل ، المرعب ، لاسيما أن الوقت يمضي ، وهو يمضي ، توقف وقفة أطول من تلك التي وقفها من قبل ، فهب إليه عدد من الأفراد ، ومدوا أذرعهم إلى الحمل غير أنه واصل خطواته في الطريق إلى المقبرة . حيرته تلك الحركة التي رآها حين أقبلوا على الحمل . ركز بصره على سرب من الطيور البيضاء ، وهو يحلق فوق رأسه ، ويدور في السماء كأنه يستطلع المشهد العجيب الذي تحته . توقف كأنه تجمد في مكانه ، واستغرق وقتا ليس قليلا ، وهو على هذه الحالة . انتظروه . على الأرجح انه تعب كثيرا من الحيرة التي عذبته . توترت الأذنان ، وارتعشت الشفتان الغليظتان ، واتسعت فتحتا الأنف ، وانتصب الشعر القصير الناعم الذي بلله العرق ، وصهل حتى تجمع الأفراد حوله في دائرة ضيقة ، أصبح هو مركزها ، تغير المشهد فجأة ، فتقدم نحوه مجموعة من الرجال ، فكوا وثاق الحمل ، وأنزلوه إلى الأرض ، ثم نزعوا عنه قطعة القماش الخضراء التي كان ملفوفا بها ، فظهر وجه سيده من تابوت خشب البلوط - انه سيده - انه هو بالذات ، اقترب منه ، وأخذ يشمه ، وقد عرف منه رائحة جسده . انه ميت . وقف هادئا ، وخيل للناس إنه عابس ، كأنه يقول : انه لم يستغن عني حتى في مماته ، كم سرني ذلك ، حملته كل هذه المسافة الطويلة . وداعا يا سيدي .
هز الحصان رأسه ، وكادت الدموع تطفر من عينيه ، وهو ينظر إلى الجنازة ، وإلى الناس الذين تجمعوا حولها .
كانت آنا تسير طيلة المسافة التي قطعوها في مقدمة الموكب الحزين كئيبة ، بائسة ، تكبت معاناتها في أعماق نفسها ،
شاردة الذهن ، تتخيل الحب الذي صهر روحها في روح بير ، والذي انتهى بهذه الفاجعة . كان العرق ينز من جسدها الرقيق ، فمسحت جبينها بكفها ، وأنزلته إلى عينيها ، وأغمضتهما ، وعصرتهما بأصابعها ، فاختلطت الدموع بالعرق . أحست بالإنهاك ، وألم بها الحزن ، و القلق . ظلت واقفة في مكانها ، حائرة ، مندهشة ، تتطلع لما يجري حولها ، ومع هذا لم تخر ضعيفة على الأرض أو تدع الاضطراب يحتويها ، وأثرت أن تبقى تعاني وحدها . تراءى لها بير ، وهو يبتسم ، ويتكلم ، ويداعبها ، بينما شق الحصان طريقه من خلال الحشد دون أن يعيره أحد انتباها . تبعته آنا . توقف ، والتفت إلى جانبه ، فشاهد آنا تتفرس فيه . ظلت آنا صامتة كأنها جامدة في مكانها ، تفيض الدموع من عينيها ، فلم تستطع هذه المرة أن تخفي انفعالها ، و توترها . توسعت عينا الحصان ، وتصلبت أذناه ، وبدأ ينخر بحدة ، فشب على عقبيه ، وأخذ يصهل ، ويصهل ، و انطلق يعدو بعيدا عن المقبرة ، وآنا تودعه بنظراتها إلى أن اختفى عن الأنظار ، فلم تر سوى الغبار الذي أثاره وقع حوافره ، وهي تقول : إلى أين تهيم بنفسك ، وأنت تقرع الأرض ؟ فالأرض نفسها ، ولن تجد غيرها … في هذه المدينة تشيب ، وتهرم مثل شجرة البلوط ، تخشخش أغصانها في صمت غابتها .

4

في الهزيع الأخير من الليل كانت آنا لا تزال تتقلب مضطربة في فراشها ، ولا تزال تحلم ، والحلم يتماوج معها بعد أن التحم بها مرهقا لأنفاسها ، ولعينيها الغافيتين ، وساقيها المكورتين . أطلقت أصواتا غامضة ، تبعثرت في صمت الغرفة ، وظلمتها ، واختلطت مع قصف الرعد ، والمطر الغزير ، فأثقلت مدينتها الغافية بلا أحلام…سارت النهار تحت أشعت الشمس في صحراء شاسعة ، حاملة عدتها للصيد من غذاء ، وقربة ماء، وجعبة سهام ، وأقواس ، لكن دون فائدة ، فلم تر صيدها الجميل ، الغزال ذا العينين الواسعتين العسليتين ، و القرنين الرشيقين ، والأرجل الرشيقة ذات النشاط الجم ، واللون الأصفر ، واللحم اللذيذ الطري ، وقد اتضح لها من آثار أقدامه ، أنه بعيد عنها ، متخف في مكان ما ، يهزأ من بحثها الطائش . توقفت ، وأحست بتعب ، و إنهاك في جسدها ، وراحت تحدث نفسها :روح بائسة ، لا أستطيع أن أفكر إلا فيه ، أية مفاجأة ستحل بي في صحراء بعيدة ؟ مفاجأة مضطربة تليها مفاجأة دون رحمة ، ما الذي أجده هنا ؟
اختفت الشمس ، وحل الغروب ، وحطت لتستريح بعد أن ثقلت خطاها ، وتورمت قدماها . غفت عيناها ، ونامت . أيقضها عويل الذئاب ، وهي تحيط بها مكشرة عن أنيابها البيضاء . تناولت سهامها ، وشرعت في مقاومتها.
أطلقت في حلمها الدموع خائفة من العواء الذي هز جدران الغرفة ، وبابها الموصدة ، ونافذتها المغلقة . ضربت بقدميها فراشها ، وأسلمت عينيها إلى الفزع في ليلتها المظلمة الكئيبة التي تدثرها ، إذ الوحوش ضارية ، تتعجل الوثوب لتنهش جسدها ، وتمزقه ، فيصبح الموت في أرض الغربة لا مناص منه ، وهذا ما كانت تخشاه تماما ، فراحت تصارع بعينيها ، وقدميها ، ويديها ، وبالتراب الذي لا تريده أن يغطي رأسها ، فتصبب العرق من جسدها ، وبلل فراشها ، و امتزج مع شحوبها ، وخوفها ، وهي تصيح : قتلت الذئب .
بزغ الفجر ، وفرت الذئاب ، وهي تعارك بعضها بعضا ، بينما وقفت تحدق فيها بعينين مذهولتين ، تلاحقان الغبار الذي خلفته وراءها . لملمت حاجياتها ، وعادت من حيث أتت تحت أشعة الشمس التي لا ترحم ، فسمر وجهها ، واصفرت عيناها ، ووهن جسدها ، وتجرحت قدماها ، وسالت الدماء منهما . انه اليوم الثالث دون أن تعثر على أثر للبدو ، ربما _ غامروا في هذه الصحراء الموزعة فيها الأشواك ، والشيح ، و العاقول أشبه بأجساد ميتة مرت عليها دهور . لم تمر عليها الساعات إلا و أغلقت عليها مع اليأس دون أن تعرف ، ماذا تفعل ؟! ليس لها سبيل آخر ، كانت تنصت إلى صوت من إكشو ، يكلمها رأفة بها ، تكلمه ، و مع كل كلمة ترجع إلى الشموع ، والقناديل الموقدة ، ورائحة البخور ، والصمت الحزين ، والصلاة من أجل روح المسيح ، ووقار القس الذي يتلو الكلمات ، فقد رجعت إلى مجد المدينة ، هذه كانت متعتها التي حظيت بها، وانتماؤها اللائق ، وهي فخور به . تلاشى الصوت ، إذ ثمة ضجة في المدينة تئن لمفارقتها . حثت قدميها إلى أمام ، مناجية ربها : لأتوقف هنا ، لأخلع ملابسي ، وحذائي ، أي عودة هذه مقيدة بالشمس السماوية الحارقة ؟! عودة منهكة شلتها الأيام . أني أسقط،الموت قريب.
هذا ما قالته ، بعد أن بدأت قدماها تخونانها ، فجثت على ركبتيها ، واستراحت قليلا ، ثم نهضت بكل ثقلها ، وخطت عدة خطوات ، وصاحت بصوت متكسر ، خافت : ساعدني أيها المسيح .
كان فراغ الغرفة يحتضن صوتها الحزين ، ويجثو فوقها ، وينهمر وراء نافذتها المطر كأنه يدعو ليبصر الحالم في أرض تغمرها الرمال من جميع الجهات ، وتحيط بها من كل جانب ، فنداء الماء يعلو ، وينخفض فوق شفتيها المرتجفتين ، المتيبستين ، المتعطشتين للماء ، تململت ، واستدارت بجسدها إلى جانبها الأيسر ، وأزاحت الغطاء ، فبرز لباسها الداخلي راقدا عليها ، تفوح منه رائحة العرق ، كأنه هو الآخر ، يصرخ : ما ء.
إنها الصحراء لا حدود لها ، عبرت إليها آنا في ألم نومها الذي يكبت ، ويحجز حلمها ، يتوقف الموت في عينيها المغمضتين اللتين لا تبصر فيهما ظلالها ، ولا الجروح في قدميها التي أحدثت بقعا من الدم على التراب ، بل تمتمة وهي تترنح ، تارة تسقط وتارة تنهض ، تمتمة تستنزل رحمة الرب ، دعوة ارتفعت إلى السماء : ربي ، أرأيت كيف تركت وحيدة ، عارية ، عاجزة ، أرأيت كيف لم يمد أحد ذراعا أو قدما لينقذني .خذني إلى مملكة يسوع ، أنا أعترف ، أعترف غير مستاءة . ربي أغفر لهذيان موت مبكر لاكشوية بائسة . أواه ، لقد غلبني عطش الدنيا ، فلابد أجد ما أرجوه . ربي أبرق غمامة .
انكفأت على وجهها الذي عفره تراب حار ، وارتخى جسمها ، قدماها صارتا إلى الشرق ، ويداها إلى الغرب ، زحفت إلى أن اكتفت بان أمسكت بيدها ذرات التراب ، ورفعت يدها بهدوء إلى أعلى ، ثم تراخت أصابعها ، وتساقطت ذرات التراب على الأرض . لم تستطع التنفس ، وأبيض لسانها . في هذه اللحظة المميتة بانتظار ميؤوس ، موحش ، واستسلام لمقدرات الرب ، لاح في عينيها طائر أبيض يرفرف بجناحيه ، ثم حط أمامها ماسكا كوبا خشبيا . اقترب ، انحنى عليها ، وسقاها جرعة قليلة من ماء مقدس . عودة ، عودة جديدة للحياة . تراءت لها صورته مشوشة . أمعنت النظر فيه ، كانت ملائكة إلهية منحنية عليها ، تمسكها من ذراعها الأيمن . أنهضتها الملائكة ، و وضعتها على ظهرها ، وطارت بها .
لم تحس إلا و إنها على أرض مضاءة ، مزدانة بأشجار الرمان ، والنخيل ، والأعناب ، والزيتون ،وسيدتها شجرة السدر ، تجري فيها سواق ، وأنهار صافية ، عذبة ، يزينها اللؤلؤ ، والياقوت ، والمرجان ، والذهب ، و الأحجار الكريمة ، أثار ذلك انبهارها ، واندهاشها ، وهي تمشي على حرير أبيض ، ورمال ، وحصى ذهبية ، تستنشق نسيما من أزهار طيبة ، تسمع موسيقى شجية ، تعزفها نساء شبه عاريات ، وطيور ، وأشجار ، وأزهار بألوان شتى ، وتمرح غزلان رائعة في جمالها . تغير كل شئ ، كل شئ تغير ، والتمعت في وجهها سبعة أبواب ذهبية ، تفتح ، تفيض نورا مباركا ، تهتدي بها إلى غرفة وثيرة ، يتوسطها سرير من لؤلؤ متوج بالياقوت ، والمرجان ، وفراش من حرير أبيض يرقد فيه رجل عار يشع النور من جسده .
قفزت ، وصاحت : شكرا للرب ، انه بير . ثم وقفت قبالته حائرة غير مصدقة : إنها لم تر غبارا يملأ الجو ، ولا خرابا يغطي الأرض ، وإنما شقت طريقها السماوي في النور ، والألوان الباهرة ، وعبرت من زمن إلى آخر . مد بير ذراعه إليها،تقدمت إليه ببطء ، أمسك بأطراف أصابعها ، فأحست بغمرة شوق تفجرت في صدرها ، وتزينه أزهارها الذابلة بنوره .كانت تلقي عليه نظرات منذهلة ، وأخيرا تهاوت على جسده ، وأطفأت صمت السنين ، وأضاءت الزمن الذاوي أشبه بنغمة حفيف أوراق البلوط التي افترشت الأرض ، تلثم أعشابها ، وتشم رائحتها . لم تستطع آنا كبح جماح ارتعاشة رموشها ، فانهالت على جسده تتلألأ بشفتيها الضمآوين ، تزحف ، وتذوق ، فرسمت دموعها على جسده جداول ، وبحيرات ، تطرب راقصة ، وتردد : أي حلم هذا ؟ امتدت ذراعها تبحث في فراشها عن جسد عذب طروب ، تبحث عن زهرة تضئ غرفتها أو عن عصفور يرفرف . لم تلمس أي شئ من نعمة الرب . الحلم الذي وقعت فيه لم يغادرها ، والانتعاش مازال راقدا فيها مثل لؤلؤة مضيئة في راحتيها . نهضت . تلفتت وراءه ( أرض موعودة ) تلك التي ابتهجت فيها ليس كعادتها ( أرض السعادة ) مجهولة ،تلك التي يعيش فيها بير دون تشابك الآلام المتشنجة ، و الآمال التي فشلت في الوصول إليها على الأرض ، إذ هناك الجنة و الخلود .
_ ماذا تريدين ، و أنت مهجورة ؟ تكلمي ، الجنة أم النار
_ الجنة .
_ لماذا ؟
_ هناك انبعث بير ثانية .
وقفت منكسرة ، مشمئزة مما حولها ، يسطع الحلم في عينيها ، لا تدري ، لماذا غزاها هذا الكره ؟ هل لأن صعودها السماوي حلم ، أم لأنها حلمت أن تلتقي بير في أرض النعيم ؟ لم تعد تطيق الغرفة ، وصمتها الشامل ، رغبت أن تسمع صوتا سماويا ، أن تصغي إلى نجم _ عله يغني _ سارت ببطء إلى عتبة الباب بهدوء ، ثم أغلقت الباب وراءها ، جلست واضعة قبضتي يديها تحت حنكها ، وراحت تنظر إلى أمام ، تستنشق هواء هذه الليلة الربيعية الباردة ، وتغوص في أعماق الظلمة ، وتسأل نفسها : ما الذي أريده ؟ ما الذي أجده في الظلمة ؟ كانت ترقب الظلمة ، والمطر الخفيف ، وتتململ ، وتتمتم : أنا خائفة . ثم حملقت في البحيرة ، لعلها تلمح بصيص نور يخرجها من ظلمتها . كانت مياه البحيرة هادئة ، تنساب بصمت من أمامها ، و تبعث الرهبة في داخلها ، إذ هواء منعش بارد دغدغ جسدها برقة ، مما جعلها تطيل في جلستها ، وتضع يديها في حضنها ، و تستسلم لانهمار الدموع ، و للمطر الذي بلل عينيها ، ولثوب المنام الوردي الذي التصق بجسدها كي يحتضنها . وتستحم فيه ، غير أن وجه الليل المستوحش ، وقسماته المعذبة مثل عذابها لم تغير شعورها ، وكرهها لما حولها ، بدا لها إنها تجلس ذاهلة ، تسرح بنظرها في اللاشئ ، و في سكون الظلمة الغارقة في جحيم بؤسها ، مرتسما ذلك بعينيها الخائفتين من الظلمة ذاتها . كان ثمة شئ مرعب يطوف في أعماقها : وجه الموت الذي لم يغادرها وهي في حلمها على شفا الموت في الصحراء البعيدة . هذا ليس قناعا أسود يتخفى خلفه ، انه وجه حقيقي كشف عن نفسه عندما مات بير ، فصرخت : ميت ! آنذاك خلع وجه الموت عن نفسه دون سر أو احتيال : وجه بير الميت .
فجأة جاءها صوت عذب ، خافت من شاطئ البحيرة ، لم تستطع تمييزه أهو تغريد عندليب أم خرير البحيرة أم همس بير في أذنها :أنا أنتظرك ؟! أنشد كيانها إليه وأصاخت السمع بتلهف ، إنه تملكها ، و أثار حلمها في دار النعيم مما جعل قلبها ينتشي نشوة ناعمة ، فركضت هائمة تحمل فرحها إليه .لم تدر كيف وصلت شاطئ البحيرة لتتحد مع نغمة الصوت ، منشدة حلمها ، و روعة أرض السعادة . وقفت تبحث عنه بهمهمة ناعسة ، مرتكبة ، شغوف ، فرأت زورقا صغيرا يبتعد إلى عمق البحيرة ، وهي تستمع منذهلة إلى أغنية ربيعية .
آه يا بحيرة هنسنسين
أنت من مياه و مطر
ضوء و قمر
صمتك مثل الحجر
هل تسمعيني ؟
أنت مثل البحر
بدأت الأغنية تتلاشى رويدا رويدا ، و سواد الظلام يتلاشى أيضا تدريجيا مع خروج القمر الناقص من وراء الغيوم ، فوقفت آنا أمدا طويلا إلى القمر ، و بدا لها انه يحدثها ، وأن صوته يفرحها كثيرا .

القمر :
لا تنتظريني … فأنا لست باقيا في مكاني
سأغادر … سأغادر
آنا :
أين تذهب ؟ لا تغادر
لا تغادر ، ودعني أتبعك
وحشة الليل تؤنسني معك
في ظلمة الليل معك
القمر :
سأغادر
و تبقين أنت ، الأكثر وحشة
الأكثر عزلة
آنا :
الكل سيصرخ
العشب…الطيور
الأرض…الشجر
القمر :
الوقت مضى
فاقطعي الحلم
فأنا لست باقيا
آنا :
و الوصية
وصيتك يا قمر ؟!
القمر :
لا تحزني كثيرا
لا تبكي كثيرا
أوقفي حلمك هذا
وأمضي مع حلم البشر

5

لم تحل الساعة الحادية عشرة صباحا بعد ، فلديها متسع من الوقت لتطيل وقفتها ، وتلقي نظرات خاشعة على قبر ، لم تعرف كيف اهتدت قدماها إليه ، وكيف اختارته من بين عشرات القبور الغارقة في الصمت ، والوحشة ، لا سيما و قد ارتبكت خطواتها إلى قبر بير الذي يحدق بوجوم ، ويفرق بينهما قبر قرب قبر ، و أشجار خضراء ، وطرق ضيقة مفروشة بالرمل ، والحصى . كان هذا القبر ،قبر امرأة تسيجه زهور صفراء ، شاهدته صنعت من مرمر .
انسابت الدموع على وجنتيها ، واجفة ، كسيرة ، وقد بللتها زخات مطر خفيف ، معانقة دموعها عناقا وديا ، غاسلة وجهها ، مازجة شكواها العاجزة بالمطر ، الغاصة في الحزن،يتماوج الألم في عينيها ، لا ترى في دموعها زهرا ، ولا انبثاق فجر ، ولا احتضار نهار ، وإنما ترى ظل غيمة سوداء هائمة ، جعلها تشعر بكل ما حولها يغيب ، وتغادر الزمن كأنها تحفر بأصابعها ، ودموعها الأرض لتخرج الأموات ، وتعيدها إلى الحياة . اكتفت بان غادرت في طيشها إلى المستحيل ، فأعادها ذلك لسنوات خلت ، عندما ركبت أمها إلى الموت ، فلم تغفر للأرض أن تحتضنها بترابها ، وأحجارها ، وديدانها ، وظلمتها . أرعبها ذلك . وظلت تبصر في دموعها زمنا طويلا ، وضحكة ، وقبلة ، وأنامل أمها ، أما أبوها فلم تره ، وإن كل ما عرفته من أمها عنه ، انه رجل عاش بسيطا ، ومات بسيطا ، وهذا ما همها ، فقد استطاعت أن تعيش بدون أب ، إلا أنها تساءلت ذات مرة ، هل كان أبوها مثل بقية الرجال ، وهذا ما همها أيضا ، الآن إن كل ما يهمها هو أن تلتحق ببير.

بعد حلمها استيقظ فيها اضطراب لا مثيل له ، يعاودها الحلم ، ويطغي ، وتمر تفاصيله في رأسها أشبه بشبح جهنمي شق طريقه في رأسها ، واقتحمه على حين غرة دون انتظار . لا تستطيع التفكير إلا فيه ، مستسلمة له .وكل ما تفكر به الآن ، كيف ستختار الموت ، إن لم يخترها ، فلم تعد تسمع ضجيج المدينة وراء سياج المقبرة المبني من الطابوق الأحمر ، ولم تعد ترى شبابيك البيوت التي خلفتها وراءها ، ويفصلها عنها باب المقبرة الحديدي المصبوغ بلونين _ أحمر و أسود _ بمستطيلات متوازية بتعامد ، وكلاهما ظلال الموت ، يتصارعان في ذهنها ، اهتزت شاهدة القبر تارة حمراء وتارة سوداء ، صحبها لحن جنائزي ثقيل الوقع . هزت الميتة رأسها ، وكتفيها ، رفعت ذراعيها إلى أعلى ، ولاعبت بهما مثل غصن هزته الرياح ، أنزلتهما بالتتابع إلى أسفل ، لامسـتا ساقيها ، ضربت الأرض بقدميها ، دارت حول نفسها ، انحنت إلى الأرض ، ثم قفزت إلى أعلى منفوشة الشعر ، شاحبة الوجه ، أما آنا فرقصت أهدابها ، و تسللت إليها رائحة الموت ، و ظلمة القبر ، و سكونه العميق .كانت رؤية كابوسية . رسمت آنا إشارة الصليب متضرعة باسم الرب المقدس ، فسكن اللحن ، واختفت الرقصة بسرعة غير أن وجه الميتة ظل مرتسما أمامها هادئا ، حزينا على شاهدة القبر ، ونطقت شفتاها كلمات خافتة ، مؤلمة : لماذا أنا ، لماذا أنا ؟ دعيني مستريحة في قبري ، ابتعدي عني .

تراجعت إلى الوراء مذهولة ، مرتعبة ، يتصبب عرق بارد من جبهتها ، ويضرب أنين الميتة في أعماق كيانها حادا ، مؤلما : أنا مشبعة بالفاجعة في مخدعي ألا تسمعين ترنيمتي ، ألا تبصرين أطيافي الحمراء والسوداء ؟ اهبطي إذا امتلكت الشجاعة ، فسأضمك بين عظامي ، لا… لا تصوبي عينيك إلي ، فمصيرك ليس بيدي .

اندفعت آنا بصيحة فزعة بين القبور ، تبحث كئيبة ، بائسة ، وهي تناشد قبرا ، قبرا _ عل قبر يواسيها _ وقفت مطأطئة الرأس مع عينين مبحلقتين ، ويدها على صدرها قبالة طفلة صغيرة ، فاستحوذت على مخيلتها صور متلاحقة لطفولتها ، فانبعثت أمامها تلك الذكريات التي تذكرتها عندما أصبحت كبيرة ، وتحطمت في مخيلتها عندما كانت صغيرة ، عجبا لأمر هذه الفتاة ، لم تعرف إنها ستعود إلى الماضي في هذا اليوم ، وتبحث فيه منهكة ، متعبة ، تعصف بها أصوات الموت . ربما_ أرادت أن تستكين إليه ، وتخفف وطأة عذابها أو أنها وجدت فيه أحلى أيامها ، و تتذكر صرختها : ماما…ماما…
_ ها…
ضربت بيدها الصغيرة على ساق أمها المكتنز بعد أن نفد صبرها ، ونطقت بكلمات متوسلة : أريد معطف المطر.
فسألتها بلهجتها الحنون : ماذا تفعلين به ؟
قطبت حاجبيها،و صرخت في وجهها :قلت لك ، أعطيني إياه .
هزت رأسها ، وارتسمت ابتسامة خفيفة على وجهها ، ومشت إلى خزانة الملابس ، وهي تتبعها بفرح ، ثم أخرجت منه المعطف ، وألقت نظرة سريعة على وجهها ، قائلة : أتريدين الذهاب إلى أصدقائك الزهور ؟
سحبت المعطف من يدها ، وراحت تردد: أجل…أجل
مسدت شعرها ، ووضعت يدها على كتفها ، موصية إياها : أن لا تتأخري.
كان ذلك في عصر يوم ربيعي بهيج ، حين كانت في عامها الثامن ، شعرها ذهبي طويل ، عيناها خضراوان ، بشرة وجهها صافية ، تبللها قطرات الندى كأن دموعا ، قد سالت توا من عينيها ، لا تدري من أين جاءها هذا البلل ، ولماذا ؟ هرعت من البيت راكضة ، وهي تصرخ: لن أتأخر يا أمي .
وقفت عند عتبة الباب ، وارتدت المعطف ، وهي تنظر إلى السماء التي أخذت تتلبد بالغيوم ، وراحت الشمس تختفي شيئا فشيئا ، لقد أصابها القلق من ألا تفلح بالوصول إلى أزهارها كي تحكي لها حكاية جميلة .مشت في طريق ملتو ، تكثر على جانبيه أعشاب خضراء ، وهي تترنم بأغنية مضفورة من الندى ، ونكهة الأزهار ، وابتسامة أمها ، لكن ارتفاع منسوب ماء بحيرة هنسنسين ، وخريره الصاخب ، أخذ يبتلع صوتها ، و بهجتها ، فسارت مضطربة على الشاطئ ، محدقة بين الفينة والفينة في مياهها ،وهي تسأل نفسها : هل سيزحف الماء خلفي ، هل سيغرق زهوري ؟
واصلت سيرها مرتعبة ، خانقة صيحات حزينة في داخلها ، فكانت تتلوى زهورها في عينيها الواحدة تلو الأخرى،و تستنجد بها كي تنقذها من هذا الارتفاع لمنسوب المياه.تصورت آنذاك أن البحيرة ستفيض،و يعم طوفان ، يغرق الحدائق ، و الغابات ، أما هي فلن ترى زهورها الزاهية . سالت الدموع منها ، وأخذت تمسحها بأطراف أصابعها ، وتحث خطاها القصيرة للوصول إلى روضتها . بكت من أجل زهورها . ذات مرة قالت المعلمة :الأزهار تنمو في الربيع . هذا ما قالته مع نفسها ، ثم أردفت تردد :سأبني لها سياجا عاليا عند حلول الربيع القادم ، و هذا عله _ سيقيها من الطوفان إذا حدث ، حينها لن أبكي ، ولن أعذب نفسي ، وسأنام بين سيقانها ، وسأحدث أمي بذلك . _ آه ، يا زهوري الزاهية ،كم اشتقت إليك ، كم تعذبت من أجلك ! آواه ،كيف خفت من الطوفان ! _ هذا ما تمتمت به ، عندما وجدتها تبتسم إليها ، فصار الفرح يعلو شفتيها ، وعينيها ، وهي تلامسها ملامسة خفيفة ، رقيقة ، وتشم رائحتها الزكية ، فغطت روائحها وجهها ، وأعادت الطمأنينة إلى روحها ، وغمرها شعور بان البحيرة لن تهدد كبرياءها ، وظلها.
جلست بينها . داعبتها مثلما داعبها النسيم العليل الذي هب من الغابة ، فارتعشت رموش عينيها ، ومرت أحلامها سريعة ، صامتة ، وديعة ، أحلام تحياها وحدها ، وتعيشها وحدها ، فتنسكب خضرة الربيع على وجهها بشوشة ،مرحة . نهضت من مكانها ، وتراجعت عدة خطوات إلى الوراء ، تمددت تحت شجرة البلوط ، فأغمضت عينيها نصف إغماضة ، تراءى لها أن شجرة البلوط صارت تمطر بلوطا ذهبيا حولها ، وتصاعد من بين زهورها دخان أبيض ، ثم ظهر صبي صغير بجناحين ، يرتدي ثوبا أبيض ، ويضع فوق رأسه تاجا من زهور ذات ألوان عجيبة ، تقدم إليها ماشيا في الهواء ، وهو يمسك غصن بلوط ذهبي ، يشع نور منه ، وقف قبالتها ، وابتسم ، ثم تقدم إليها ، مد ذراعه إليها ، وقفت منذهلة ، تحدق فيه بعينين متولهتين ، خائفتين . أعطاها غصن البلوط ، وسحبها من يدها ، قائلا : تعالي ، لنرى .فسألته خائفة :ماذا نرى ؟ فجأة أحست برعشة في جسدها ، وظهر لها جناحان ، وطارت معه في الفضاء ، وكان الصبي يردد : انظري إلى الأسفل هذه إكشو . رأت لوحة منفردة بألوانها المتعانقة : الأخضر ، الأزرق ، الأحمر ، الأبيض ، وضوءها ، وظلها المرتجف . إكشو تمتد تحتها متوهجة بخضرتها ، و زرقة مياهها ، وكنائسها التي تشمخ فوقها صلبان السيد المسيح ، والشوارع النظيفة ، والأزقة المبلطة ، والبيوت المنتظمة . لم تكن تريد أن تفوت هذا المشهد المتألق في أصالته ، وتاريخه ، مركزه الساحة الكبرى الذي تمتد منه خطوط مستقيمة ، متكسرة ، شرقا وغربا ، جنوبا وشمالا ، تؤدي جميعها إلى الجزء القديم والجديد في المدينة . الخطوط تنتظم كاملة في قطعة أرض صغيرة من السويد . هذا ما وقعت عليه عيناها دون أن تتوقعه . جمال منسي لمدينة عتيقة _ تن … تن … تن …تن …آه ، يا إلهي ، ناقوس الكنيسة دق ، صداه يدوي ، الساعة الحادية عشرة ، يجب أن أسرع ، القداس سيبدأ _حثت خطاها إلى الكنيسة ، و هي تتلفت إلى الوراء ، و تقول: بير ، اعذرني ، سامحك الرب ، سامحك الرب .

6

وقفت أمام باب الكنيسة الأسود ، وكان غضب يتفجر في داخلها ، ويصرخ بصمت : وصلت…وصلت أي يوم طويل ، كئيب هذا اليوم ؟ أذرع فيه المدينة شاردة ، أمقدر لي أن ألا أعرف السبيل إلى الحياة ؟
وضعت أصابع كفها الأيمن على شفتيها المرتجفتين كي تمنع صوتها المتهدج ، البريء من أن ينطلق مدويا ، ويعلن عن نواحه على عتبة باب الكنيسة ، نواح الألم المتقلب فوق الأرض :محرومة أنا ، مفجوعة بالحب ، واليأس .لقد نفد صبري…
خشيت أن أحدا ما كان يراقبها . تلفتت حولها . وجدت نفسها وحيدة . ترقرقت عيناها بالدموع ، ورفرفت رموشها . استدارت ، فوقع نظرها على التمثال الذي يتوسط الساحة الكبرى ، رجل بشاربيه الطويلين ، وملابسه العسكرية ، يمتطي جوادا ، معلقا في الفضاء ، بينما بدأ القس القداس في داخل الكنيسة أمام لوحة السيد المسيح ، وصليبه ، والزخارف الذهبية ،وتماثيل ، وصور الملائكة بأجنحتها الملونة بألوان جذابة ، تضفي دهشة ، وقدسية على المحراب . سجد القس أمام المحراب ، وهو يحمل بيده اليمنى صليبا فضيا صغيرا ، ويعتمر على رأسه غطاء أبيض ، ويرتدي ملاءة خضراء ، طرز على ظهرها صليب ذهبي ، وكانت ثمة شمعتان تحترقان ، ويقطر منهما الشمع ، صانعا أصناما ، ولوحات ، قد تعود إلى قرون سحيقة ، ويتصاعد منهما دخان ، رسم خطوطا ، ودوائر، و مثلثات ، تتراقص بخفة في فضاء القاعة كأنها البريق الذهبي لروح السيد المسيح ، وقد طغت على المحراب رائحة الدخان العطر ، ورفرف فوق رأس القس الساجد أمام روح المسيح ، وترتيله الهادئ ، الواثق من الكلمات ، فسكنت رؤيا حالمة ، وديعة ، أنفس الجالسين ، وطردت أي خواء روحي ، لربما _ هددها ، وصارعها .
تناهى إلى سمعها من باب الكنيسة صوت موسيقى حزين ، عذب ، تتموج فيه الحسرات ، فأزاحت عن ذهنها صورة التمثال ، وقعقعة السيوف ، وأنين الجرحى ، ورائحة التراب الملوث بالدم ، ثم دلفت إلى ممر قصير . تجاوزته ، وهي تجهد نفسها أن تبعد عن نفسها الأصوات البعيدة التي يسكنها الموت ، وجلست على مصطبة طويلة من خشب البلوط.
تحركت أصابعها الناعمة بخفة بين صفحات المزامير ، فتداخلت الموسيقى بطيئة ، متسقة مع الكلمات . نطقت شفتاها ، وتراقصت رموش عينيها حيث اللحن يتصاعد أكثر ودا ، فانزلق بير في عينيها بين الكلمات رافعا رأسه بفخر ، واندفع إلى وسط القاعة ، وهو ينادي: هيا ، اعزفوا…
كان يمضي بخطوات وئيدة إلى المحراب ، والنور يشع من وجهه ، مرتديا ثيابا بيضاء من حرير ، مطرزة بلون ذهبي ، يضع على رأسه تاجا من ذهب ، مرصع بأحجار كريمة ، ووراءه يمضي صف من الملائكة بأجنحتها البيضاء ، يحملن بأيديهن أغصان بلوط صغيرة ذهبية .جثا على ركبتيه ، و طأطأ رأسه ، ثم رفعه ليواجه السيد المسيح ، والصليب ، ما لبث أن رفع ذراعيه إلى أعلى ، وردد بصوت حازم ، يشوبه الرجاء : دع آنا تلتحق بي ، أيها السيد المسيح ، هذه دعوة أبن بار محروم من الحب ، باركها أيها السيد المسيح ، باركها برحمتك … فدوى صوته في القاعة ، ثم أعقبه صدى كأنه جاء من بعيد : هذا ليس من شأني ، هذا شأن الرب.
نهضت راكضة ، وسقط من بين يديها الكتاب على الأرض ، وخلق دويا في القاعة ، وقد سبب ذلك ، أن التفت الجميع إلى مصدر الصوت باستهجان صامت للضوضاء التي أحدثها الصوت . وجدت نفسها في الشارع الكبير محمرة الوجه ، محتقنة العينين . أجهشت باكية ، وسارت على غير هدى مكفنة بالأسى ، يلهو بها ، مثلما تعبث الريح بورقة ذابلة على الدروب.
حثت خطاها مسرعة إلى نهير إكشو الضحل الذي يزحف وئيدا كالأفعى ، وتقطعه الجسور هنا وهناك ، و تنتشر على حافتيه البيوت . وصلت بالقرب من بيت بير ، ووقفت وقفة طويلة ، حزينة ، تنظر إليه . انه مهجور . راقبت موجات البحيرة التي تنساب في النهير كأنسام ، وندى ، وظلال ، دفعتها إليه ، ثم أمعنت النظر في الأزهار الحمراء ، الصفراء ، البيضاء ، المتدلية من نباتات قصيرة ، وأمعنت النظر أيضا في أشجار معمرة ، وقصب كون له مستنقعا صغيرا في زحمة الطحالب ، والحشائش المتشابكة . كانت دموعها مشبعة بشذا الرطوبة ، الذي تلفع به المكان ، وتتهامس مع حفيف الحشائش ، والأوراق ، وأنين المياه . كانت تستحث دموعها لتنبئها عما ترتجيه في هذا العالم الذي يلفه الأسى ، ويلقي بأعباء الزمن على كتفها . خطت إلى أمام ، فشخص بصرها نحو البط الذي يعوم فوق الماء أسرابا ، يفتش عن أسماك صغيرة فضية ، ليلتقط تألقها من صفحات الماء ، ثم راح يبتعد إلى وسط البحيرة راسما رأس سهم ، ويرفرف بأجنحته محدثا رذاذا خفيفا ، متناثرا على أوراق ذابلة تطوف هي الأخرى فوق الماء . أخذت آنا تجيل نظرها في أنحاء البحيرة ، فسددت نظرها نحو جزيرة النورس الصغيرة التي اتخذتها طيور النورس بيتا لها ، فكانت تتراقص بأجنحتها فوق الجزيرة ، تحوم ، و تصيح بأنغام شجية ، مختلطة مع تغاريد ، ونداءات ، و كركرة ، تعج بها البحيرة بنشوة لطيفة تسقط على التألق الندي لسحر المكان ، وكان يتناهى إليها صياح طائر أبيض يحلق عاليا ، وهو يخفق بجناحيه خفقانا سريعا بالقرب من غيمة سوداء ، تنذر بنثر زخات قوية من المطر فوق البحيرة .
ارتقت تلة صغيرة شيد عليها خزان مياه من صخر ، و أحجار ، و زخارف تعود إلى عصور قديمة ، محاط بأشجار تطل على البحيرة ، و النهير . جلست مهدهدة بالصدى البعيد : تعالي ، تعالي يا آنا.كان الصدى يعلو ، ويصمت ، ويتموج ظله فوقها ، وهي تنصت إليه معذبة ، ضائعة ، فسرحت عيناها في التربة ، التي راحت تنبشها بأصابعها ، غاصت فيها ، وصارت تبحث ، وتفتش ، وتخبط ، فلم تلتقط سوى ذرات من تراب ، ودم في أظافرها ، وقشة . ارتخت أصابعها ، وأبقت لنفسها هذه القشة التي وضعتها في فمها . قضمتها ، ثم بصقت القشة من فمها .

انبعث الصدى من جديد ، يعلو ، و يصمت : تعالي ، تعالي يا آنا . أخفت وجهها في يديها ، وكانت ظلال أمواج البحيرة ، تنساب على خدها ، فغصت حنجرتها بعبرات تكسرت ، وهطل مطر قوي فوقها مما جعلها تنزل يديها عن وجهها ، وتنتصب واقفة ، ثم ترفع ذراعيها إلى السماء :أيها المطر كن رحوما بي تحدث معي كي أعود إلى وهج الحياة أنا أنصت إلى صوتك ،وأنت تغسل وجهي أيها المطر،كن شفوقا بي...أنا عارفة …عارفة… أنت تسخر من قنوطي .
وتهاوت على الأرض ، يعذبها الصدى ، والنداءات ، و تهدر طيور النورس فوق جزيرتها ، وتتهدل أغصان النباتات ، وتنحني الزهور، وتتهاوى وريقات الأشجار فوق الأرض ، و تنساب أمواج البحيرة في النهير ضاحكة تبعث صدى آهات ، و أحلام .

7

كان الصبح جميلا ، حيث آذنت فيه الغيوم لتخرج الشمس بطيئة ، ضاحكة فتضفي على الطبيعة سحرا ، رائعا بعد أن رعدت السماء في الليلة الماضية ، وعصفت بأمطار تارة غزيرة وتارة خفيفة . نزعت ثوبها دون مبالاة بكل شئ ، وتعرت تماما . شملت أشياء الغرفة بنظرة ، وجدتها في مكانها ، ولم ينخر الزمن الأخشاب ، ولم يسقط وجه الأيل الوحشي .
جففت دموعها بطرف ثوب المنام الأبيض ، ثم رمته على السرير ، وراحت تحدق بعينين ثابتتين في اللوحة المرسومة بيد فنان ماهر ، تظهر فيها فتاة اللوحة بثوب أبيض فضفاض ، رقيق ، تتلاعب الرياح فيه ، محلقة فوق أمواج البحر الصاخب ، يفصلها هواء ، دافئ ، مضطرب عن اللوحة ، تتناثر كل أحلامها الضائعة فيه ، وقد تشكلت صور مترابطة في ذهنها ، فصارت تغمس قدميها في مياه دافئة . دفعت ساقيها بترو ، ثم ألقت بجسدها ، ضربت الماء بذراعها اليسرى ، ثم اليمنى . دارت ، والتفت على ظهرها . أصبح ذراعاها ، وساقاها زعانف سمكية تغوص عميقا في مياه البحر . اكتمل جسدها سمكة فضية . نطت إلى سطح الماء ، وهاجرت بعيدا.
هناك حدث مالم تتوقعه ، فقد هاج البحر ، وأرعبها صخبه ، وتلاطمت حولها الأمواج . قذفتها إلى هذه الجهة ، وتلك . شربت كثيرا من الماء ، وانتفخ بطنها . كانت على وشك أن تلد مولودا غريبا لا يشبه الناس بشكله ودمه . أبت أن تقذفه من رحمها إلى عالم مجهول بالرغم من معاناة المخاض . ازرق جسدها وتزبد فمها ، و أحاطت الأسماك بها . نهشت جسمها ، و شوهت وجهها الجميل .
_ ما ابشع هذه الميتة ، يا بحر ! غريقة تبتلعها أمواجك ؟ غير مكترث بها تميتها ثم تتقاذفها.
هذا ما رددته مع نفسها حين تقدمت إلى وجه الأيل الوحشي بخوف ، وأمسكت به من أحد قرنيه . تفحصته بارتباك ، ثم هزته في الهواء . تخيلت الدم الأحمر الذي سيسيل ، عندما تغرس القرنين في بطنها ، ويلوث الفراش ، وبالألم الحاد الذي ستعانيه ، وكم سيستغرق من الوقت حتى تفارق الحياة ؟ أعادت رمز الأجداد إلى مكانه ، وقالت بصوت متكسر، خافت :آه يا روحي الخائفة ! رازحة تحت الدموع ، و التردد ، كل شئ يطبق عليك بمخالب بيضاء ، اليأس ، الجرح . أواه ، لا أستطيع أن أنتزع الشك من قلبي ، الوقت يضغط ، يضغط كأنه جاء من زمن آخر ، لا شئ ، لا شئ ، أخيرا لا مفر من أن أطلق الآهة الهائجة التي تسبق الموت . أواه ، ما من أحد يودعني ؟لا شئ ، لا شئ ، لا…لا أتحمل الألم المريع ، وأنا أرى دمي البارد.
تقدمت نحو المرآة بهدوء ، وقلق ، ولم تستطع كبح جماح ابتسامة خجول ، معذبة ، ارتسمت على شفتيها . لم تتوقع في هذه اللحظة الحرجة أن تحدق في المرآة بهذه الصورة الغريبة بعد أن تجاوزت هذه العادة منذ فترة طويلة . كانت صورة جسدها الذي عكسته المرآة تتموج بصمت أمام عينيها . شاهدت بياض بشرتها ، ذهبية شعرها ، خضرة عينيها _ كامل الجسد الممتد من قمة رأسها إلى قدميها _ علها أصاخت السمع بحزن شفيق إلى قطرات المطر التي تضرب إفريز النافذة ، لكنها لم تتخل عن التطلع إلى نفسها من خلال المرآة ، خاصة وقد اقترب ألق عينيها إلى نفسها ، ذلك الألق الذي لم تحس به سابقا بمثل هذا الاقتراب . تراجعت إلى الوراء بذهول كما لو أنها استفاقت من دهشة ، استوطنتها منذ عصر سحيق . انزلق من عينيها قطرات من الدمع مصحوبة بألم في بطنها . عضت شفتها السفلى بخفة كأنها تلامسها لمسة عذبة ، ثم راحت تلامس بطنها بيديها بإيقاع رقيق . شعرت براحة تسري في جسدها . لم تستطع أن تقاوم وطأتها ، فوضعت يديها على خصرها النحيل ، وقفزت ، فأثارت قفزتها اهتزازا في جدران الغرفة الأربعة ، وحطمت الصمت الثقيل الذي خيم عليها ، والتفتت تنظر إلى جسدها ، وأخذتها عيناها إلى ردفيها كمن يبحث عن جزء ضاع منه لفترة من الزمن . أعادت وضعها قبالة المرآة ، مررت يدها على جنبها بهدوء ، حتى وصلت أسفل الساق ، وكذلك عملت اليد الأخرى الشيء نفسه . سمعت رذاذ المطر الخافت الذي يضرب على زجاج النافذة ، خارج جدران الغرفة . كان صوتا رائعا ، صار يضرب في داخلها ، وراحت تصغي إلى إيقاعه البهيج بانتباه شديد لتستعيد الزمن الذي لم تتآلف معه على الإطلاق بعد أن مات بير ، والآن تعالى لحنه حادا ، خطرا ، يعلن عن رقصة الأيل الوحشي المنسية ، كادت تختفي إلى الأبد ، فرقص جسدها حركة ،حركة ، على أنغام موسيقى الخيار الصعب ، الذي قررت أن تختاره في هذا اليوم . كانت بين النشوة ، والحزن ، تتحدى حلمها ، وتتوعد نفسها ، بينما يتحطم رذاذ المطر على زجاج نافذتها . كانت تكشف في كل حركة من حركات يديها أجزاء ضائعة في جسدها الذي يقرع أجراسا تهز الغرفة .
تلمست محاسنها بأناملها الناعمة ، وتوقفت عند الحلمتين الحمراوين لتوهج النار فيهما ، وتوقد جسدها . أشياء تتلوى داخلها . سحبت نفسا عميقا ، وقالت:ما أروعني !
لم تكتف بالتطلع إلى سحر جسدها ، بل أرادت أن تعرف مدى التأثير الذي يتركه ذلك في حالة إنحجابه عنها . أغمضت عينيها ، فانحجبت رؤيتها تماما . لم تستطع تمييز الألوان : أبيض ، ذهبي ، أخضر . أظلمت عندها الأشياء ، وعجزت عن أن تقيس المسافات بين مفاتنها ، واختفى الجمال عنها . بدا كأنها تستقر في الظلام . رمشت أجفانها المتعبة ، وفتحت عينيها . شاهدت الألوان : أبيض ، ذهبي ، أخضر ، وإن الحلمتين مازالتا حمراوين . تحسست الحلمتين ، فأخذتا تنكمشان شيئا فشيئا . مشت يدها اليمنى على نهدها الأيسر ، و داعبته برقة ، ثم داعبت النهد الأيمن باليد اليسرى . ارتمت على السرير بارتباك ، وأخذت اليدان تتضافران في البحث في أجزاء جسدها ، مرة ببطء ومرة بسرعة ، وصارعت فراشها لتذوب مع جسدها ، ولهاثها ، ونهديها الصاعدين الهابطين ، تأوهت ، وتعذبت ، وانسكبت دموعها على الوسادة ، وامتزجت بالعرق المتصبب عليها من وجهها المحتقن المحمر . ألقت نظرة منهكة على جانبها ، إذ المكان فارغ من جسد بير العذب ، تركها تستقر في الفراش ، مرمية بجسد متعب مثل جسد مسجى _كان يسطع جسد بير في عينيها كألق صاف ، وقد دفن وجهه بين نهديها . لم تدعه ليخرج منهما إلا حينما دعته يجوب جسدها من فمها حتى قدميها ، ويغفو منهكا على ذراعها .
تذكرت الحلم في الجنة ، وتذكرت كيف داعب شعرها الذهبي الناعم ، الذي تدلى على جيدها ، وهبط إلى عنقها الناصع البياض ، ثم صدرها ، وصارت أنامله تراقص نهديها مثلما راقصتها اليوم.كانت نظراتها آنذاك حادة ، متسائلة ، ماذا تفعل؟ لم يأبه بأسئلتها ، واحمرار وجهها ، فنزع قميصها ، وأحاطت كفاه بنهديها المكتنزين بلطف ، فأصبحت نظراتها بريئة تماما ، وارتخى جسدها على السرير ، ضمها إلى جسده معانقا ، محتضنا بحنان بالغ .
لقد مضت حياتها رتيبة ، كئيبة ، قبل أن تلتقي ببير ، و عاشت أعوامها الثلاثين دون أن تفهم من عمرها شيئا سوى شغفها بالموسيقى ، ليس لكونها معلمة موسيقى في المدرسة الابتدائية ، بل لأنها أحبت أصوات الأطفال ، وتغريد البلبل ، ورذاذ المطر الخفيف ، وهمس بحيرة هنسنسين ، وحفيف أوراق الشجر ، والنسمة العذبة التي تهفهف على وجهها في ليالي الربيع الدافئة . أقرت مع نفسها ، أنها تتقلب في معاناتها ، وأن صوت الخيار الصعب يغلي في أعماقها ، ويوسوس لها بكلام غريب . اندفع إلى خارج كيانها ، وابتعد عنها مسافة بعيدة ، لوح لها ، و أخذ يتوارى تدريجيا عن الأنظار _ قد تخلى عنها لتواجه محنتها ، وودعها لتنفذ قرارها الذي يضج في داخلها : التحقي ، التحقي ببير ، يا آنا .
غطت وجهها بيديها ، وأجهشت بالبكاء ، ورددت مع نفسها : ما أصعب خياري !
أسندت ظهرها إلى مؤخرة السرير ، ومدت ساقيها بلا اكتراث ، وسحبت الغطاء الأبيض المضطرب من تحت قدميها الصغيرتين ، وتدثرت إلى حد عنقها لتخبئ جسدها العاري عن عينيها المتربصتين الراغبتين في افتراسه . انكمشت على السرير ، متشبثة بطرف الغطاء كأنها في فراش الموت . كانت تتمعن في اللوحة بارتعاب ، تذكرت الصمت الموحش قبل أن تمارس عادتها المقيتة ، صمتان متقاربان بينهما صرخة فرح ، و عذاب . تذكرت في ليلة بهيجة ، كيف زحف بشفتيه المهترئتين من كثرة القبل فوق ساقها ، و صعد أدراجا مثل حشرة برية إلى صدرها ، آنذاك نضجت عندها الرغبة الجامحة ، أن تتكرر العذوبة ، فغرقت في ارتخاء جسدي حي ، وساخن في عتمة الغرفة ، ودفئها . لم تعد تحس أنها فوق السرير أو تحته، ولم تحس أنها فوق الأرض أو تحته ، مجرد أنها أغمضت عينيها في نعاس هادئ لامتناه ، و لم تعرف فيما بعد أنها كفت عن الحركة ، كفت عن العناق ، وتحول عندها كل شئ إلى بهجة لا توصف .
أرادت أن تبعد عنها الأفكار المتلاحقة ، المشتتة ، الممزقة في ذهنها المترقب ، وتتركها تغفو ، ولو لفترة قصيرة دون أن تحس بالزمن المربك الذي ولد على تحطم آمالها . قد تجد فيما بعد همسا دقيقا بما حدث كي يطمر انهيار أحلامها كان _ ثوب فتاة اللوحة _ يتمزق في عينيها الشاردتين الخائفتين ، ويداها ترتجفان ، وتتخبطان في الفناء ، تقاوم ، تتوسل ، إليها ، تستنجد بها . كان وجهها يواجه فتاة اللوحة . لم تكن ثمة عيون ، تستطيع أن ترتقي ببرود أليم في هذه اللحظة الحرجة بالذات إلى الموت بمثل ارتقاء عينيها . في عينيها تمزق جسد فتاة اللوحة ، وتهشمت عظامها ، وظهرت حشرة بحرية هائلة ، شرسة ، ليس لها مثيل على الإطلاق ، تشربت بدم فتاة اللوحة ، وابتلعتها .
في اللوحة انبعث أمامها حزين الوجه ، كئيب المنظر ، مطأطئ الرأس ، دموعه تترقرق في عينيه ، مرددا كلمات صماء : تعالي ، يا آنا ، رحلتي طويلة ، أنا أنتظر قدومك لنتمتع بحبنا .
_ أنا عاجزة ، عاجزة أن أحلق في السماء بأجنحة خضراء ، منتهكة ، أنا أطلب شفقة ، وعطف الرب ، أنا زهرة ذابلة ، لا لون لها ، تداس بأقدام الوقت .
_ إذن ، أنت لا تأتين اليوم .
أزاحت عنها الغطاء ، فتكشف جسدها العاري ، ثم نزلت بتثاقل ، وهي تردد أغنية قديمة . كان صوتها يمتزج بصوت رذاذ المطر الذي ما يزال ينقر النافذة مؤلفا نشيدا مهيبا ، ذكرها بنشيد أجدادها في الزمن العتيق ، حينما كانوا يذهبون لصيد الأيل الوحشي . كان المشهد الجنائزي يهيج في عينيها ، فالأجداد برماحهم ، و ملابسهم الجلدية ، يحيطون بالأيل الوحشي المثخن بالجراح ، المخضب بالدم ، والرمح مغروس في بطنه ، وهم يصرخون في داخلهم : أهذا هو الأيل الوحشي ؟ يتجمد بردا ، مخضبا بالدم الأسود ، إلى النار أيها الأخوة ، هذه هي النهاية ، إلى المأدبة .
انهالوا عليه بسكاكينهم ، وسلخوا جلده ، وشووا لحمه على نار هادئة ، أعدوها من حطب البلوط ، ورقصوا حول النار ، مرددين : قتلنا الأيل الوحشي ،قتلنا الأيل الوحشي ، هذا فرحنا، هذا فرحنا .
ثم ، وهم يرمون البلوط في النار ، مواصلين رقصهم الصاخب ، ويصرخون بأعلى أصواتهم :
يا شجرة البلوط اكثر…اكثر من صيدنا ! يا سيدة الغابة اكثر … اكثر من ثمرك .
فتحت خزانة الملابس ، وسرعان ما ارتدت فستانها المحبب إلى نفسها ، ذا اللون المزركش بالورود الخضراء ، ثم وقفت أمام مرآة الزينة مرتجفة . كان قلبها يرتعد ، ويبكي ، وعلى الرغم منه أرادت أن تموت موتا بطيئا . سوت شعرها ، وعطرت وجهها ، وجسدها ، ووضعت أحمر الشفاه على شفتيها . كان الخوف ، القلق العميق ، يحتويانها كأنها تقف تحت المطر ، وشيئا فشيئا دون أن تشعر ، حملت يداها المرتعشتان الحلي إلى أذنيها ، و صدرها ، ومعصميها . تفجرت دموعها بغزارة . كانت قوة تدفعها في كيانها لتنفذ قرارها الصعب . أطلقت شهقات مريرة ،وأخذت تجفف دموعها بمنديلها الأبيض بين الفينة والأخرى . اتجهت صوب النافذة بخطوات صامتة .أزاحت ستارة النافذة الخضراء ، المطلة على البحيرة ، فجأة لامست فراشة بيضاء ربما _ كانت عمياء النافذة ، وهي ترفرف بجناحيها ، فتراجعت إلى الوراء ، وأطلقت صرخة قوية ، غير أن الفراشة ابتعدت عن النافذة ، بينما كانت تلاحقها بنظرات حائرة ، و صدرت عنها كلمات متكسرة : يا فراشة ، لماذا خفت من صرختي ؟ أواه ، أيتها الفراشة البيضاء ! لن يمسك أحد سوى الهواء ، رفرفي فوق الصباح ، فوق الماء ، فوق صمتي ، أجل ، أجل ، أيتها الفراشة البيضاء لا تمسي أحدا سوى الزهور ، رفرفي فوق الربيع الشارد ، فوق عبير الأرض ، فوق ظمأ روحي يا فراشة ، لا تخافي صرختي البائسة !
تأوهت،و ضغطت بيدها اليمنى على صدغيها ،وجرت قدميها إلى السرير ، ثم سحبت الوسادة من خلف ظهرها بعد أن وضعت ظهرها على مسند السرير ، وغطت وجهها ، وواصلت كلامها : أيتها الجدران لا تنظري إلي بعيون ملتهبة ، ابتعدي عني ، ابتعدي عني قليلا ، ودعيني مستلقية في سريري التابوت كي أشيع نفسي.
رمت الوسادة على الأرض ، وسحبت قدميها إلى النافذة ، وتطلعت إلى البحيرة ، وهي تقول : أنا مضطربة ، إن ما يحدث لي لا يمكن أن يحدث لأي أحد غيري.

توقف تساقط المطر ، وظهرت السماء زرقاء صافية ، وتبددت سحائب عجيبة ،وامتدت تحتها أرض خضراء ،ساحرة، بأزهار زاهية ، ساطعة الألوان . كانت البحيرة تنبسط هادئة ، ووادعة،ويمتد شريط أخضر لأشجار كثيفة متلاصقة حول البحيرة لا يحده البصر . كان المنظر مدهشا ، بديعا ، ذا انسجام مديد . لم يكن ثمة مكان آخر تستطيع منه رؤية هذا الأفق الزاهي لألوان منسجمة إلا من خلال نافذتها .
فتحت درفات النافذة بتريث ، وسرعان ما مرقت نسمة باردة على وجهها ، و صدرها ، وحملت معها رائحة أوراق الشجر الرطبة ، و الزهور ، وطفحت المنطقة بصداح البلابل التي تصاعدت من بين الأغصان ، تنشد مرحة باتجاه النافذة ، وترددت وسط هذا السكون ، وصفاء السماء ، وزقزقة العصافير ، وما انفك بريق شفاف ، وساطع صدر من عينيها ، يفتش عن البلابل ، والعصافير في كافة الأنحاء . فبينما كانت عيناها تلاحقان سربا من طيور النورس البيضاء ، يحلق عاليا ، ويحوم في الفضاء الرحب ، وشيئا فشيئا ابتعد ، واختفى عن الأنظار . لاحظت ظهور ألوان زاهية في السماء ،فقالت مع نفسها : أي ألوان هذه ؟ ألوان سماوية ، تهمس ، و تتسرب نداءاتها إلى قلبي ، و تقول لي : أنت مقيدة بالسحر ، بتلاوين الأرض ، بماء البحيرة ، بالحب الشامل .
هذا ما دار في ذهنها ، وصارت تتطلع بإمعان إلى الألوان ، وتميزها،وتحسبها بأطراف أصابعها ، فقد أثارت اندهاشها ،وانبهارها ، وأخذت تردد مع نفسها : انه قوس قزح !
أمسكت ستارة النافذة المطوية ، وفركتها بحدة ، ثم رفعتها إلى وجهها ، ومسحت دموعها ، وتركت الستارة تفلت من يدها ، فتحركت ببطء حتى استقرت في مكانها مثل مهد تركته أم ليستقر وحده.
نقرت بأصابعها الرقيقة زجاجة النافذة ، ورمقت بعيونها أوراق الشجر الندية التي تساقطت منها قطرات المطر . مدت يدها لتمسك غصن الشجرة الذي تدلى فوق النافذة ، تمكنت بعد محاولات أن تمسكه ، لكنه أفلت منها ، بقيت ورقة ندية داكنة الخضرة في يدها ، وصار الغصن يهتز . وضعت يدها الباردة على نهدها الأيسر ، ثم رفعت الورقة إلى عينيها ، وتطلعت إليها بإمعان ، ورمتها عبر الشباك ، فسقطت ببطء على الأرض ، بينما عزف بلبل تغريده الشجي في أذنيها بعذوبة ، وفرح ، من بين أغصان الشجر : أحبك…جناحي مفتوحان لتحضنا ابتسامتك الناعمة . استقبلها بتغريد ، أتبادل الغناء معها، اترك، اترك هذا القلق على محياك ، تعالي نطير في السماء ، و نغني .
أخذت تروح و تجئ داخل الغرفة ، ثم وقفت قبالة وجه الأيل الوحشي ، فرأت شكل بير مرتسما فيه :سحبته بهدوء إليها ، ودفنت رأسه في صدرها ، وقبلته ، ومررت خدها عليه ، ومسدت رأسه . بقيا لحظات دون أن يتفوه أحدهما بكلمة . رفعت رأسه بيديها ، وقبلته قبلة طويلة على جبينه ، و إذا بها تسمع صوتا ، حنونا ، كأنه صدر من فم الأيل الوحشي: اذهب إلى الماء ، تعمدي به ، تطهري به ، مبارك ، مبارك ماء بحيرة هنسنسين .

ارتجفت شفتاها ، واصفر وجهها ، وارتعش جسدها ، لم تكن تصدق أن بقية ميت تتكلم ، فأصابها الارتباك ، وجثت على أرضية الغرفة كما لو أنها تصلي ، ثم أخفت وجهها بين يديها ، وانحنت برأسها إلى الأسفل ، لعلها أرادت أن تقبل أرضية الغرفة.
_ إلى البحيرة .
هذه الكلمات خرجت من فمها متلعثمة بائسة مثل بؤسها كأنها حزنت لآلاف السنين ، ثم قذفت بها دفعة واحدة لتعلن لأهل إكشو ، كم هو صعب الفراق !! كم هو صعب العذاب ، و الشقاء على الأرض !!
نهضت بعناد ، و وقفت تنظر إلى وجه الأيل الوحشي بإصرار ، و ساد صمت بينهما ، صمت ثقيل تراكم في الأعماق منذ أزمنة طويلة ، ثم خاطبته بحزم : يا أيل كلمني ثانية ! الأرض المعجزة كشفت عن أعماقها في وجعي بعد أن شهدت الحياة ، وإيقاعات الحب.
جاءها صوته أشبه يرجع صدى ميت يزحف من بعيد : اعزف خيارك الصعب ، يا آنا !غور في البحيرة .

وشيئا فشيئا دون أن تدرك مضت تجرجر نفسها نازفة ، معذبة إلى الصالة ، و جلست إلى البيانو ، و عزفت ، وذابت في : أصوات طلابها ، تغريد الطيور ، قطرات المطر ، عطر الزهور الزكية ، ألوان قوس قزح ، زرقة الماء ، عيني الأيل الوحشي.
كان العزف خافتا ، شجيا مثل التغريد الذي سمعته ، و هي في أوج آلامها ، ثم نهضت بفرح غامر ، فاردة جناحيها ، ترفرف مثل يمامة تتهادى بهدوء ، و بطء إلى البحيرة . لم تر أحدا .لم تسمع صوت البشر ، ولم يسمع البشر صوتها ، و هي تردد أنا حورية .
كان ضباب أبيض يلفها ، ويغطيها ، والماء يتلقفها بحنان ، ويقبلها ، ويعانقها ، ويداعب مفاتنها الجميلة ، ويطويها كصفحة من صفحاته التي لا تعرف المنتهى.

12\10\1996

الغلاف الخارجي:
إن حورية إكشو تعتبر ذات بناء جميل جدا لقصة شعرية ، مختومة بأحاسيس كبيرة ،وقدرة على عيش الأحداث ، وذات خيال معبر غير عادي . هي تجسيد بارع لشيء منجز .

تربيون لينيورن
دكتور في فلسفة أصول الأديان


Bokens namn : Huret Eksjo
Eksjonymfen

Forfatterns namn : Hamudi Abed Muhsen