حمودي عبد محسن

 

| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

 

الأربعاء 13/12/ 2006

 

 

طيور بنلوب


حمودي عبد محسن

سقطت طروادة ، ودمرت بيد الإغريق بعد حرب دامت عشر سنوات ، وقتل ملكها فريام ، وولده هكتور ، وكذلك باريس الذي أغوى هيلانة زوجة منلاوس ملك إسبرطة ، وخطفها إلى طروادة التي كانت السبب للحرب ، وبدأت رحلة العودة إلى الأوطان ، إذ آذن الوقت أن يعود الإغريق منتصرين إلى بلدانهم ، ومنهم عودة أوديسوس إلى ايثاكا لكن صادفته مصائب متوالية منذ رحلة العودة ، فما أن يجتاز مهالك ليالي مرعبة ، ويكابد طوال رحلته البحرية ليبلغ وطنه ، تبدأ معانات أخرى ، ويبدأ عذاب هائل ، فيقاسي مشقات يبتليه بها إله البحر _ يوسيذون _ فينتشل بأمر من إله آلهة الإغريق _ زفس _ من بحر أسود غائم عظيم ، فتغوص سفنه الاثنى عشر أعمق فأعمق في بحر مظلم مبهم ، تائه فوق أمواج تردد العواء المدوي ، وتلاطم السفن للارتطام بنتوءات صخور عملاقة ، وأخاديد رهيبة ، وهي في دوامات هذا المضيق ، وتحملها الريح إلى جزر عجيبة مسحورة ، ويقتل الجنود ، ويعود اوديسوس للبحر ، فتهب عاصفة شديدة ، فيفقد الاتجاه في عرض البحر العميق ، ويشق عباب البحر الفسيح ، فيبقى في التيه المائي يعاني من أهوال ، ويلاقي من الغرائب في الجزر ، فها تهب عليه ريح عاتية لتحطم سفنه ، ، وتنزلق في عمق المياه ، وتتمزق الأشرعة البيضاء المنشورة وفقا لقاعدة الريح ، ولم ينج من هذه المصيبة إلا أوديسوس من الغرق في البحر ، فيحتضن صخرة ، ويصرخ : ( أخشى أن تمسك بي العاصفة من جديد ، وتحملني إلى البحر العميق ) . ذلك كان في بحر شاسع مبهم ، وظلال أشباح مرعبة ، تطارده بالرغم من قرار _ زفس _ في مجلس الأرباب الذي عقد في بهو الأولمب : ( أن الوقت حان لإرجاعه إلى وطنه ) ، فظل في التيه عشر سنوات ، وغائبا عن مملكته عشرين عاما ، فكثر خطاب زوجته _ بنلوب _ وهددوا بقتل ولدها تليماخ ، وبقتل ادويسوس إذا عاد ، وطمعوا بملكه ، وامتدت أياديهم إلى ثروته ، وهم معربدين ، ثقلاء من أمراء ، ونبلاء في قصره ، متجاوزين حرمة قصر سيدهم الغائب ، فكانت بنلوب تتذرع بإتمام نسيجها من الطيور على سجادة في يدها ، حيث تعمد على تقطيع الخيوط ليلا التي تنسجها نهارا ، وهي تتطلع إلى استغلال الأعوام لحين عودة زوجها ، متواصلة في مناورتها مع طالبي يدها ، مخلصة ، طاهرة ، نبيلة ، ذكية في أحرج ظرف تمر بها ، وهي في انتظار عودة أوديسوس ، ذات مرة حلمت بأن سربا من الأوز يتعرض لهجوم نسر ضخم دون أن تتمكن الخلاص من مخالبه الحادة التي راحت تمزق أجساد الأوز ، وتبطش بها ، فتقع فريسة غضب ، وقوة النسر .

كانت بنلوب تصحو في الصباح ، ونفسها ملأى بالعذاب ، وهي تود أن تذرف الدموع في كل يوم جديد آت ، لأنه لم يظهر فيه أوديسوس ملكا لمملكته ، فيصبح اليوم عبئا ثقيلا ، والحياة غادرة ، اليوم مثل غد ، وهي تستيقظ ، وتنهض من فراشها ، وتمشي في غرفتها ذهابا وجيئة ، وتختلي بنفسها حتى تبكي ، فابنها رحل يبحث عن والده في البحار ، هكذا بللت دموعها طيورها ، تناجيها ، تكلمها عن العودة ، وتمشي أناملها الناعمة على الخيوط ، وتواصل النسج ليفعم قلبها بالصبر ، تتوهج وجنتاها ، ويبرق لمعان من عينيها على السجادة ، إنها تنسج طيورا جميلة شابة ، مفعمة بالحيوية ، وهي تقول : طر يا طير ، طر..! وهي تقف قبالة البحر ، تنظر إليه من خلال نافذتها ، وتتراقص عيناها ، فتشاهد السحب تمر فوق ايثاكا ، ثم تناشد ذاتها طوال النهار ، وأنصاف الليالي : يا ليتني كنت طائرا ! أحيانا تستنفد العبرات ، ثم تعود إلى الهدوء في الظاهر ، لكنها حزينة دائما ، تذهب إلى غرفة التعبد ، وتجلس على ركبتيها ، وتقول :
- أواه ، أيها الإله الحافظ ، عمت الفوضى بيتي ، وأوديسوس لم يظهر من البحر ، آه ، ولدي أيضا لم يظهر من البحر ، آه يا أوديسوس ، تعال أخبرني عن محنتك !
- أنه عائد ، وسيعيش أوديسوس شيخوخته بسرور ، ويموت فوق المياه ، اذهبي ، وانسجي الطيور ، واستقبلي تليماخ ، أنه عاد من البحر !

أقام تليماخ مأدبة بمناسبة عودته ، وجلس المدعوون على مقربة من بنلوب يطلبون يدها ، وكان هناك شيخا متسولا دخيل أشيب الرأس ، يمتلأ وجهه بالتجاعيد ، واللمعة تغيرت في عينيه ، والندوب تغطي جلده ، يدور متنكرا بين المدعوين ينهره هذا ، وذاك ، حتى أراد أحدهم أن يضربه ، فلم يعرفه أحد ، من يكون هذا الدخيل الفقير ؟ فكان يعرفه تليماخ ، وعرفته مرضعته دون أن تتفوه بكلمة ، وقد سألوا بنلوب إن أكملت نسج سجادتها ، وأعطت كلمتها بالزواج ، فأجابت : أعطيت كلمتي بالزواج من الرجل الذي يشد قوس نشاب زوجي ، يوتر قوسه الصلب ، ويخترق الأقراص الأثني عشر بسهمه مهما كان هذا الرجل …ثم انسحبت لتكمل نسج الطيور على السجادة ، وقد جعلت الخطاب يتنازعون فيما بينهم ، فانطلقت مباراة رمي السهام ، أخذ القوس سائر الخطاب ، فألقوا به عاجزين عن رمي السهام ، وفشلوا في تصويب الهدف ، فأخذه العجوز ، ورمى سهما من قوسه ، فأصاب مبتغاه ، فجأة هجمت عليه مجموعة من النبلاء والأمراء ، فراح يبطش بهم بالتعاون مع ولده ، وبنلوب تنسج الطيور في غرفتها ، اهتزت السجادة ، وتحولت طيور بنلوب التي أتممت نسجها إلى أرواح ، على هيئة طيور ، وتحولت إلى طيور بحر ، تصدر منها ألحان فرح ، وطارت هاربة عبر النافذة المفتوحة برشاقة ، وحلقت بعيدا ، وعاليا عن القصر، وصارت تطير دوما ليلامس صدرها لسان البحر الضيق ، ويبدأ فورا النشوء فوق أعتى الأمواج الهائجة ، فتصير الشواطئ ، والأمواج بهيجة لعيونها دون ضباب ، لامعة مضاءة ، متألقة بهدوء ، هذه الأمواج المتلاطمة ، الطرية ، المصقولة ، تقضي الطيور حياتها عليها ، تستمتع بدون آلام مع لطائف البحر ، وتبصر من بعيد مملكة ايثاكا ، تحمي البحارة ، إذ لها قوة لا تقهر ، تسيطر على أعتى الأمواج ، وتواجه أي هزيمة مخيفة للبحارة ، مهما أبرق الرعد برقا شرسا ، ومهما كان الموج تلو الموج يحاول أن يطيح بالسفينة ، وتحاول ابتلاعها الأعماق ، ستكون معينا للبحارة ، لأنها خلقت في ايثاكا ، من أيدي بنلوب الناعمة ، وستحلق فوق مياه ساطعة جميلة ، وترسل الشمس شعاعها ، ويهب النسيم العليل ، فيعلو الصفاء البحر ، ويكون الموج أليف مع الحياة ، وإن حدث شئ لبحار ، ستحمله على ظهرها في المياه الخالدة ، لأنها طيور مأخوذة بنار الحب للبحار ، فلها أجنحة بيضاء ، إنها نوع خاص من الطيور نشأت من سالف الأزمان ، مقدسة ، قابعة في همس الليالي ، في ضفائر الأمواج اللطيفة الهادئة ، وربما _ الدافئة ، تعير القمر ضوءا بأجنحتها ، وتعير ظلال النجوم الصفاء ، كأنما كل شئ نشأ منها مع المياه ، فتهب كل ما تستطيع للبحارة ، أي معجزة هذه التي تومض ومضات لامعة أثناء صخب البحر ؟!

أذهل بنلوب هذا التحول للطيور ، فنزلت راكضة إلى قاعة المدعوين ، فكان الخطاب قتلى يملأون القاعة ، والدم ينزف من أجسادهم ، وهي ترى أوديسوس قد فارقه الشباب ، يمسك سيفا بيد مرتعشة ، وابنه يقف إلى جانبه كما لو تم تنصيبه بالخلافة من بعده .

21 . 10 . 2006