حمودي عبد محسن

 

| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

 

السبت 11/11/ 2006

 

 

حمامة نوح


حمودي عبد محسن

كانت السفينة تنساب مدفوعة بقوة المياه ، اندفاع مجهول غامض بعد أن فتحت السماء مصاريع وأبواب المياه ، كانت تشق المياه التي تلاطمها الأمواج العالية ، ترتفع وتنخفض مع كل موجة تصادفها ، فتترنح تحت تأثيرها ، تستدير مهتزة مرنة مع قصر أو طول الموجة التي تريد أن تغزوها أو تبتلعها ، فالمياه تزمجر ، وتزبد ، وتبتلع كل شئ يصادفها ، وطمست الأرض تحتها ، بينما جدنا نوح وقف داخل السفينة في الطابق الأعلى مستغرقا بتأمله ، مفكرا بمصير السفينة ، وما فيها من مخلوقات ، ثم راح يمشي على مهل ، يتكأ على عصاه ، وهو يشعر بالضيق ، والثقل ، والاستياء من بني الأرض الذين كثر شرهم ، فعاقبهم الرب بهذا الطوفان ، كان ذلك يكدره ، ويجرحه ، ويزعجه تماما ، حيث بدا الحزن يهيج عذابه الخفي ، فجأة شعر أنه منجذب إلى الطابق الأوسط ، فنزل حيث أقفاص الطيور . قام بعدة خطوات ، ثم تأمل الطيور التي كانت تغمض عيونها ثم تفتحها ، وتحرك أجفانها بنظرات طويلة تلتقي نظرات نوح المتماسكة المتوازية أشبه بخطوط مستقيمة لا تحيد عنها . اقترب من قفص الحمام ، الذي كان يسجع سجعا حزينا ، وينوح ، ويهدر ، ويترنم : ( أين ؟ أين ؟ أين ؟ أين ؟ ) ، ويندب عزلته ، فوقع بصره على الحمامة المطوقة باللون الرمادي ، وهي تصفق بجناحيها ، استغرب نوح كأنها تقرأ أعماقه ، وخالجته لحظة تلقائية أن يجرب مقاومتها ، ورغبتها ، وراح يفكر بعمق في الانطباع ، الناتج من تأثير الحرية على الحمامة ، ذلك يخلق رغبة معاكسة قد لا تعود إلى موطنها – السفينة – وقد عرف عن هذه الحمامة أنها لا تغادر موطنها ، ولا تهاجر إلى مكان آخر ، فهي ذات طبع ودود ، ترفرف في الأعالي ، وترى عن بعد . وبغبطة فتح نوح باب القفص ، ومد ذراعه إلى داخله ، فحطت الحمامة عل يده مرفرفة ، ومشى بها إلى النافذة التي بقرب الباب ، وأطلقها مرفرفة على الماء العميق الذي بلا حدود ، بينما عينا نوح كانت تحدقان في المياه ، تحدقان في الأعماق الخفية التي يرقد فيها الموت ، فاختفت الحمامة تحوم ، وهي ترقب المياه ، لتحط على اليابسة ، وجدت نفسها إنها هي الآخر في خوف كما لو أنها خيال غريب فوق قتامة المياه ، رغم تحررها من القفص الذي كان سجنها فيه ، الآن يمكنها أن تطير طليقة أينما تريد ، مستقلة بطبعها العذب .أغلق نوح باب النافذة ووقف صامتا بوجه هادئ فيه دلالة مغزى عميق ، غارقا في التفكير ، شاعرا أنه واثق من النجاح إلى الحد سيأتي بعد فترة ، ويفتح النافذة .
أما الآن فقد صمت من جديد ، وفتح النافذة ، ومد يده منها ، فعادت ، وحطت على يده ، فأيقن أن المياه لا زالت تغمر الأرض ، فانتظر سبعة أيام بلياليها ، وأطلق الحمامة مرة أخرى ، وانتظر إلى المساء ، فعادت ، وفي فمها ورقة زيتون ، تأكد له أن المياه قد قلت ، فقد زهى وجهه لأن انتهاء الطوفان اقترن بالزيتون ، بلمعانه ، وقد تكون أول شجرة بعد الطوفان ، وتذكر نوح أنه ذات مرة تمسح بدهن الزيتون ، وسكبه على رأسه . انتظر سبعة أيام أخرى ، وأطلق الحمامة ، فلم تعد إلى السفينة – موطنها – هكذا انتهى الطوفان ، وإن أول شجرة اكتشفتها الحمامة كانت الزيتون ، كيف نجت من الطوفان ، لا أحد يدري ، وقد تكون خلقت بعد الطوفان دون أن يزرعها نوح ، أما الحمامة فكانت أول من حط على اليابسة ، وتركت موطنها السفينة ، قد يكون موطنها بستان زيتون هذه المرة ، تنعم بحريتها فيه .

18 . 8 . 2006