| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

حمودي عبد محسن

 

 

 

الثلاثاء 11/12/ 2007



السيد الرئيس …إمبراطور عظيم

 حمودي عبد محسن

أولا : المفاجأة
استيقظ السيد الرئيس ضجرا في صباح باكر ، غائبا في حيرته ، متوجسا من نفسه ، بعد أن سرح نظره إلى جسده ، كاد يقر في داخله ، أنه لم يعد دكتاتورا اليوم .
-  هذا شئ غريب .
هذا ما ردده مع نفسه ، إذ اليوم لم يستطع أن يخاطب قوات أمنه التي تقمع الشعب ، و لم يستطع أن يتحدث عن عرائس الجنة أو الجن القابع في ظلمته ، فسلطته خارت ، و إنه لم يعد أيضا قادرا أن يتحدث مع الكواكب الأخرى ، و يمد نفوذه إليها ، و إن حكمه لم يعد أبدي ، متوارث عبر الأجيال ، فكل شئ انهار في هذه اللحظة المشؤومة ، هذا ما أقلقه ، إنه يريد أن يتواصل حكمه ، و يتوارثه الأبناء .طالت نظرته ، ثم قصرت ، ثم استحالت إلى دهشة لم يكن يصدق أن ما يراه هو جسده ناعم ببشرته البيضاء ، و لم يصدق أن يرى انتفاخ نهديه ، جالت عيناه في الجدران ، حينئذ استقرت أصابعه في السرة ، و طالت إلى تحتها ، و إلى الساقين الطويلتين اللتين أصبحتا ناعمتين مثل ذراعيه ، و هو رهينة صمت ، و مفاجئة ، يتوسطهما ارتجاف .عبثت في دروب جسده ، ثم كفت عن بحثها ، لتنفض كل ما تعلق بها من زغب ، و شعر متساقط ، تناثر ليلتصق بالفراش الوثير .دقق في كامل جسده ، وجد فيه تغيرا .حدق في زوجته العارية النائمة بجنبه .إنها أنثى رائعة تشبه نعومة جسده ، أنفاسها في يأسه المطلق ، متفتتة في بقع الألوان المتناثرة في عينيه .نهض من سريره ، و مشى إلى الحمام ، فتعلقت عيناه بالمرآة ، كان وجهه قد تغير أيضا ، أما شعر رأسه فطال على غير توقعه حتى بلغ كتفيه ، اهتزت شفتاه ، و هو ينصت إلى صوت في داخله :
-  ملعون ، مطرود أنت من جنس الذكر .
غسل وجهه ، ثم ثبت عينيه في المرآة ، و رأى ثانية وجهه ، أنه وجه أنثى .جلس القرفصاء في حوض الحمام ، خافيا وجهه بين ذراعيه .لا يدري أين يختبئ ، موقنا أن ما يحدث له أمر لا مفر منه .دخلت زوجته و نادته باسمه ، إلا أن شعر رأسه الطويل أثار دهشتها ، فتوقفت صامتة حائرة ، ساكنة في مكانها لبضع لحظات تنظر إليه ، فرفع رأسه بعد أن امتلأت عيناه بالدموع . شهقت ، و تراجعت إلى الوراء ، ثم ألقت نظراتها على كامل كينونته الجديدة ، و لتستقر في الصمت القاسي ، و الذهول كأن الزمن توقف هنا .أشارت بيدها نحوه ، و تمتمت بصوت مرتعش :
- أهذا أنت ؟!
همس بصوت إلى الحد الذي لم تسمعه :
- أجل …أنا…
هزت رأسها غير مصدقة .ربما -  سيطر عليها وهم وحشي لا تعرف كيف تقابله أو تتخلص منه … لا …هذا ليس تخيلا أو تصورا …كانت تتأمله باستغراب ، ثم اقتربت منه ، انحنت ، و راحت تتفحصه ، و أخذت تداعب رأسه لتواسيه في محنته ، فاحتضنها باكيا ، و هي تشده إلى صدرها ، و تهمس بارتباك :
- ماذا جرى في عالمنا اليوم ؟!
فقال بصوت مخنوق متذمر :
- لا أدري…
كان صوتها يرتعش :
ماذا يحدث في بلادنا ؟!
فقال بامتعاض ، و بصوت غير واضح :
- العالم تغير…
قالت بنبرة رافضة :
- إنها معجزة…
في بادئ الأمر اعتقدت الزوجة أن كل الرجال - لربما شملهم هذا المسخ ، و إن الدنيا اختلطت في التحول - رجالا ، و نساء - هذا أرعبها ، لأن الدولة ستنهار ، و المجتمع سينهار ، و العائلة ستنهار ، حيث أن تبادل الأدوار في تغير الجنس ، سيكون فوضى لا عاقبة لها ، و هذا لم يحدث إطلاقا في تاريخ البشرية ، و عصور الإمبراطوريات ، و لم تقرأ عنه في الكتب السماوية ، و الأرضية ، ماذا يحدث لو شمل هذا التغير الحيوانات أيضا سواء كانت مفترسة أو أليفة . تملكها تشوش ذهني ، فأخذت تتطلع إلى وجهها في المرآة ، وجدته لا يزال جميلا ، و لم يتجعد جلده ، ليكون خشنا مثل وجوه الرجال ، اعتقدت أيضا لربما تكون - عقوبة سماوية لامتهان زوجها التنكيل بالأطفال - لتجعله يعرف كيف تتحمل الأم حتى تنجب وليدها بالصراخ ، و الدم ، و كيف وهبت كأم للحنان ، لم تكن تصدق اعتقاداتها ، فخرجت مسرعة ، و هو يسألها :
- إلى أين أنت ذاهبة ؟!
فردت بانزعاج :
- سأعود…
وقفت في الصالة ، تنادي على الخدم - رجالا و نساء - و تتفحصهم ، وجدت أن المسخ لم يشملهم ، و لم يشملها ، بل إنه فقط يشمل زوجها ، فرجعت إليه ، و خلعت ملابسها ، و راحا يستحمان سوية في حوض الماء برغوة الصابون ، يتفكران ، يشيدان عالما خاصا بهما ، سوف لن يدعا الحياة تفلت منهما ، و لن يدعا سلطتهما التي تمتد إلى خارج البلاد تضيع منهما ، هذا ما اتفقا عليه ، و اتفقا أن يرفع الرئيس ذراعيه ثم يخفضهما ، و يرفع ساقيه ثم يخفضهما ، لتفرك الزوجة جسده بإسفنجة حمراء صغيرة .حاولت أن تحرره من تلاطم القهر في داخله ، و ينسى صرامة وجهه السابق ، و كثافة الشعر في ذراعيه ، و ساقيه ، و ينسى أيضا صوته الخشن ، و تبعث فيه وداعة امرأة .إنها حاولت ، و هو يرفض ذلك ، و يرفض أن ينسى مجده كرئيس ، مجده في قتل الناس ، إذ كان يفرح لموتهم ، و ود أن يمتهن صنعة الموت ، ليتفنن به ، و ليخاطب البشر : ( إنكم في قبضتي ) .كان يحن إلى كل شئ يفلت من يديه ، فحلق بخياله إلى مواكب الجماهير التي تهتف باسمه : ( القائد العظيم ، قائد الأمة ، يحيا الرئيس ) ، و الاستقبالات الفاخرة التي تهيئ له .مدت يدها النحيلة بحذر إلى نهديه ، و بطنه ، ثم تراجعت ، و تعجلت الوثوب لتخور في أسفل السرة ، و لتشق طريقها في غابة الشعر ، و صفقت أصابعها فوقها .كل شئ على ما يرام .إنه أنثى أيقنت أن التحول شمل ذلك الجزء الذي تدلى كتمثال ، و الذي انزلقت منه سوائل الرجولة التي هبطت في صحنها الأنثوي .أنهضته من ذراعه ، فوقف مطيعا ، منكس الرأس ، ينظر إلى أرضية الحمام بعينين متقدتين ، فهو لم يعد كما كان سابقا .نشفته من البلل ، و سرحت شعره ، و طلت شفتيه بأحمر الطلاء ، ثم كحلت عينيه موصية إياه أن لا يفسد الكحل الأسود بدموعه ، و أمرته بصوت طاغ :
- اذهب إلى السرير !

ثانيا : الكره
بزغت الشمس ساطعة على أبواب ، و نوافذ قصره ، و رن التليفون في الغرف كما في صباح كل يوم ، لتبدأ مراسيم ، و طقوس يوم جديد ، معلنة ، عن تفجر هياكل مرعبة قذفت من طائرات جيشه على مجموعة متمردة من الجيش ، ( إنها محاولة انقلابية فاشلة ) ، هذا ما قاله باستهزاء ، لينحدر إلى حالته الشخصية التي يتفرد فيها في هذا الكون ، يعاني منها بعد أن قضى ليلة سرية مع زوجته ، لا يعرف عنها أحد .كان يعاني ، و يتألم ، و يرتعش ، تتقلص عضلات بطنه المنتفخة ثم ترتخي .يعاوده الألم ثم يختفي .أخيرا هده في مضجعه ، فهمهم قائلا : ( إني أكره هذا الوليد ) .كان يخاف هذه اللحظة التي يترقبها ، و ها هي قد حانت .لم يفكر بشيء سوى كيف يتجاوزها بصبر راح يحدق في بطنه بعينين بائستين ، فاغر الفم ، مهموما ، و قد استقرت يداه على صدره ، ما لبث أن دفن وجهه بهما كي يدفع عن عينيه نظرات حانقة ،مزعجة .انزلقت يداه إلى الفراش ، و توجه بالكلام إلى وليده : ( ماذا تريد ؟!…هيا…اخرج… ماذا تنتظر ؟… هيا اخرج ؟! ) .صر بأسنانه ليتخلص منه ، إنه لا يريد أن يراه أو يلمسه ، إنه أراد فقط أن يقذفه بعيدا عن جسده ، و يتخلص من آلام المخاض التي بدأت تنتابه .أفرج ساقيه ، و ضغط ، و كلما ضغط أحس بآلام ، و خوف من أن يأخذ أحشائه معه .إنه يكرهه .أصر في داخله فيما إذا تخلص منه سوف لن يضمه إلى صدره ، و لن يرضعه . غمغم بينه ، و بين نفسه : ( إنه يتحرك…لا إنه يرقص…إنه يعمل ضجة داخل بطنه … ) . فجأة اندفعت مادة سائلة صفراء من رحمه ، تلمسها بقلق ، ثم تبعتها قطرات دم دافئة .كانت ساقاه ترتجفان ، فثبت كعبي قدميه في الفراش ، و ضغط ، أخذ نفسا عميقا ، و ضغط هذه المرة بقوة ، و راح يتلهف لسماع صرخة ، راكم قوته ، و أراد أن ينهض ليرى ما يحدث بين ساقيه ، إلا أنه لم يفعل ذلك ، أخذ يهذر ، و تصبب جسده عرقا ، و أحس بالإنهاك في كامل جسده ، و عجز أن يقذفه إلى الدنيا ، فأرخى ساقيه ، و غاصت ذاكرته في أعماق أحلام مظلمة : ( ضجة غاثية ، تائهة ، أطفال في صراخهم ، و فزعهم ، أذرعهم مرفوعة إلى السماء ، انفجارات ، و هو في كابوس حلم المجانين - أنا إمبراطور عظيم - أذرعهم مرفوعة إلى السماء ، أسراب الرئيس الطائرة تقتل ، تهدم البيوت ، تحرق المزارع ، دماء تنزف ، صخب ، ألم ، عقاب ، كابوس حلم مجانين - أنا إمبراطور عظيم - أطفال ترتفع أصواتهم ، أذرعهم مرفوعة إلى السماء ، و هو في حلم المجانين ) انفتحت باب الغرفة ، و ظهرت منه زوجته متألقة بثيابها الوردية الفاخرة ، فأسرعت مرتكبة ، قائلة :
- ماذا بك ؟
- مخاض …
عرته من ثيابه ، و وضعت قطعة قماش بيضاء في فمه لتلغي صراخه ، و تأوهاته ، ثم حثته أن يضغط .جاهد بيأس أن يضغط ، ذلك ليس سهلا أن يقذف الكائن الملتحم بأحشائه إلى خارج جسده .صرخت زوجته بانفعال : ( اضغط …شد …حاول مرة ثانية …) . أحس بكتلة هائلة متحركة تنفصل منه ، مصحوبة بشهقة ذهول من زوجته ، و صراخ متواصل لوليده ، سارعت الزوجة لقطع الحبل السري ، لقطع حبل الصلة بينهما ، و هي تردد بحيرة : ( طفل مشوه …طفل مشوه…) .كان الطفل كبير الرأس ، طويل الوجه ، عيناه واسعتان دائرتان ، أنفه غائصا في وجهه ، فمه صغير متعرج ، يداه قصيرتان منحدرتان من صدره ، ساقاه قصيرتان كأنهما ملتصقتان في جسده .لم تكن الزوجة تصدق ما تراه ، فلفت الوليد بمنشفة بيضاء ، ثم ذهبت مسرعة إلى الحمام ، و قد لطخ الدم يديها ، و ثوبها ، أما هو فأغمض عينيه ، و انتابه إحساس بالراحة ، و البهجة ، إذ تجاوز آلام المخاض ، و انفلات المخلوق منه الذي أثقل جسده ، و عذبه ، إنه سيعود إلى سلطته ، سيعود إلى الجماهير التي تهتف باسمه ، إنه سيقمع ، و يبطش ، و يقتل كل من يقف في طريق تحقيق حلمه العظيم - إمبراطور عظيم - يمتد نفوذه إلى الكواكب البعيدة الساطعة فوق كف يده ، إنه الإمبراطور العظيم الذي خرج من مخاض التاريخ القديم و الحديث ، دكتاتور من نوع جديد .خرجت الزوجة من الحمام مرتبكة بعد أن غسلت المخلوق الغريب ، و مشت مضطربة إلى غرفة مجاورة ، أرقدته على السرير ، ثم عادت إليه مفزوعة لاهثة ، متصنعة ابتسامة ، و هي تقول :
- إنه ولد ، هل تريد أن تراه ؟
- كلا…
- ماذا أفعل به ؟
- ارميه في القمامة .

ثالثا : الاسترشاد بأسطورة قديمة
وقفت زوجة الرئيس على ساحل البحر ، متخفية بملابس عادية ، زرقاء ، و ربطة حمراء ، و عوينات سوداء ، وقفت تتأمل البحر ، عيناها مثبتتان إليه ، لا تحيدان عنه كأنهما مسمرتان فيه ، مسمرتان في انعكاس ضوء شمس الصباح على أمواجه الهادئ .وقفتها مأخوذة بضوئه ، و بحلم زوجة إمبراطور ، و عائلة إمبراطور ، فسلطتها تمتد إلى عمق ، و سعة ، و أنفاس بحر ، كل شئ في البعد نفوذ ، و تدبير ، و تحكم ، أما إذا هاج البحر ، إذا غضب ، إذا جن ، فبعده في أمواجه العالية الفتاكة ، و قد يسقط نفوذ البعد ، و سلطة الإمبراطور تمر في مخاض ، كل شئ يمر في مخاض ، و يخرج من مخاض الدم أو المياه أو الأعوام ، الآن الدكتاتور يمارس مهام الدولة بارتياح بعد أن خرج من مخاض عسير .الآن ، أمامها تماما بحر صاف ، أزرق ، بارد ، عار من شراع ، فقط نسيمه يضرب وجهها ، فقط أن نظراتها ترحل ، و تعود ، و تغيب في عمقه ،إنه بحر لا نهاية له ، كانت تتأمله ضائعة في مداه اللامرئي ، تراقب سعته قبل أن يراقبها غريب . لم تلوح لها الأمواج كي تكف أن تتأمل أو تراقب ، فللبحر سعة ليس فقط لنفوذ و سلطة الإمبراطور العظيم ، بل و كذلك للسلة الصغيرة التي تحملها بيدها سعة فيه ، و حيث يرقد الوليد ، و هو يتنفس بهدوء ، ملفوفا بغطاء لا تنفذ إليه ملوحة البحر .نزلت بخطوات بطيئة إلى البحر . وضعت السلة على سطحه ، دفعتها مع الأمواج الخفيفة ، فتلقفتها ، كانت السلة تطفو ، و تبتعد ببطء ، و ترحل ، و تبحر لوحدها ، فيها رضيع لا يفهم عمق البحر ، و رحابة زرقاء ، مهده سلة مرفوضة ، منفية ، تهزها الأمواج ، و تداعبها برقة .توارت السلة عن أنظارها ، و انطلق خطاب مثل إيقاع أمواج البحر ، و البحر يستوعب صرخة واحدة ، صرخة ثانية ، صرخات الرضيع الذي أنهكه الجوع .
 

20 . 9 .2005

 


 

Counters