| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

حمودي عبد محسن

 

 

 

الخميس 11/12/ 2008

 

النوم والحلم

حمودي عبد محسن

كنت أريد أن أنام نوم متعب كامل ، وابتعد عن جلبة النهار ، تلك التي تريد أن تنتزع قلبي ، أريد أن أرقد مثل طفل شفتاه مفتوحتان إلى القمر ، متعطشتان للماء ، لا أريد أن أعود إلى الشفاه المتعفنة والموتى الذين فقدوا دمهم ، لا أريد أن أغفو برهة قرون ، دهرا ، أني في قلق الحرب ، وأني الظل لدموعي الجافة ، أريد أن أنام ببرقع من حلم ، غيب يطهرني من الرمال ، لأنني أريد أن أعيش ، والكلمات مليئة بتحجب واحتضار ، فليس هناك ابتسامة على الوجوه ، وليس لي أن أنسى الجثث الخامدة .ليس لي اتجاه غير الوطن ، جذوري في باطن أرضه ، لا أريد أن أضيع مرات عديدة ، جاهلا أن الحرب تفنيني ، جاهلا أن الرصاص يمزق القلب ، يمزق الجسد بالثقوب ، الجريح يئن ، أي ضجيج ، أي موت ، أي صحاري كانت تحفر فيها رمال البؤس ؟! كنا وجها لوجه في احتضار ، آه ، أرى عشرات الجنود متمددة على الأرض في احتضارها ، أجل ، لا أريد أن أسمع البكاء ، لأنه لا يسمع شيء آخر غير البكاء ، والجنود في احتضار ، أنا لا أريد غير وطني ، إذ كل ما تبقى يمر عبره ، حتى شرشف احتضاري يمر عبره ، بينما نفر أسراب من الحرب ، لم تبحث الحشود شيئا آخر ، هذا هو المصير ، ليس هناك شئ يشبه العيون الهاربة ، والدم الذي يرتعش بغموض ، الليل يئن باحثا بين الخنادق عن مخبأ كسول ، عودة إلى الوطن ، نهر دم دافئ ، نهر يأتي نابحا ، دم مضطرب ، وصيحات رهيبة ، احترقت روحنا بجنون ، سرقت نفسي من النار الشنيعة ، أريد أن أغمض عيني الشاحبتين ، وأنام ، نومي كان بقرارة نفسي ، كنت أريد أن أنام ، وأحلم ، حاولت أن أنام في الخندق ، وأتدثر بمعطفي ، وأحلم ، فارس كامل بطبيعته ، في البدء كانت أحلامي قلقة متوالية ، وبقيت في أحلام أشباحي ، كنت أبحث عن مساهمة وحيدة في هذا الكون ، فقد أنشأت فارسا يمتطي صهوة جواده الأبيض ، عرفت أني لم أحلم مع ضياء الفجر المضطرب ، فقد انتابني آرق مرهق طوال الليل لأني كنت أركض في الخندق الضيق الطويل لجلب الذخيرة من السخط السماوي ، ومع قصف الجحيم ، عيوننا كانت مملوءة لهبا ، ودموع ، ونحن نأتلق مع الاصطفاف الصافي للنار ، صمتنا الطويل من الروح للروح حتى يختصر كل شئ :روائح الموتى ، أنين الجرحى ، لون الدم ، الخوذات ، الجزمات ، حتى الملابس العسكرية ، الأنا هو شخص آخر ، وجودنا حقيقي ، كانت صرختي كل ما في داخلي من حيرة ، وثورة ، وشعور بالألم من الجحيم ، أني وحش همجي ، قذفونا بالرصاص ، كي يغسلني الحزن ، ويغسل آهاتي على عتبة باب التطهر من الشقاء والبؤس ، أنا الشقي البائس ، حيث لم أقتل أكثر من جثة هامدة ، أنهار همجية تستشعر أوار النار ، وأنا في جوفها ، أشعر بأني رجيم ، ولعين ، وأني وقود النار ، لقد فقدت القدرة على الكلام وهذا شئ من هوسي ، وبؤسي ، وجحيم السواد ، والدم الذي يراق ، يا رب ، لم استطع الكلام ! اعتقدت أنني أكملت قصة جحيمي ، أنه الجحيم القديم ، كنت أشكي أوجاعي ، وأتحرك مع هذه الأوجاع ، الهدم في وجوده ، هدم النفس ، والضجيج ، لحظات عدمية ، موهومة ، أن أتحرك بسرعة ، لم يبق في داخلي من الهدم سوى التحرك بصمت ، صمت طويل جدا ، صمت الذي تلتهمه النيران ، صمت عميق يسقط كالصاعقة على الخندق ، أروح وأجئ إلى مشجب العتاد ، وأحمل الذخيرة ، كل هذا يقزمنا ، ولا معنى له ، نحن نهدم ، ونموت ، لكن على الأقل ليست الميتة التي نريد ، نهمد ونموت ، هل سنفهم ذلك ؟! ليس ثمة سؤال عند الموت : الحلفاء يعرفون ذلك ! ليس ثمة من أرض ، ونحن في جهنم ، الكل موتى ، العيون غاضبة ، التيه النهائي للقسوة ، كنت أدقق في المعركة بانشداه ، بحثت عن رأس صديقي ، وجدت الرمال في شعره ووجهه ، لا حديث جاف يلتهم أنفاسنا ، حرب الخرافة ، ينخرها الخوف . الصحراء التي ترمز إلى الجفاف القاتل ، لم أعد قادرا فيها على التحرك ، كنت إنسانا منهكا ، أصبحت أتخذ خيارا بملء إرادتي ، فناء ذاتي ، حيث لم أعد أخشى الموت ، أو أقبل الحياة ، طالما سقطنا في الهاوية ، أين تكون الكلمة هنا في الصحراء ، في أرض الرمل ، لا صمت في آناء الليل والنهار ، الزمن الصحيح غائب ، وتخلق العيون شاحبة مثل شحوب السماء ، هذا هو مكان الوحدة و زمان التوتر ، المضطرب ، ماذا علي أن أفعل في الأرض الموات ؟! أرى الخوف في حفنة رمل ، غاضب ، بائس ، وحزين ، وقد أرسلت تنهدات فأكون كمن مات ، أحيانا الموت يتحدث لي في الحلم ، والتنهدات ، وأنا أحكي مع نفسي ، هل أعرف شيئا عن هذه الحروب ؟!أعرف عن الجحيم عندما كنت أحكي مع صديقي عنه ، واصفا نبع الأسى من أغصان ساكنة في الصدى ، في سعف النخيل ، الصدى في أجمة نائية ، ووحيدة ، ما أطول الطريق ؟! فذات الموت ينتظرني قبل بلوغه ، تعذبني برودة الليل ، وتؤلمني ، ماذا أفعل هنا ؟! ما أعظم طعم الموت ! لا أريد أن أسمع الصراخ لكنني لا أسمع سوى الصراخ ، وثمة سوى الصراخ ما يتناهى إلى الأسماع ، مجد لن يسكننا في هذه الصحراء ، رتيبة الأصوات فيها ، من المستحيل إسكاتها ، بلا هدف ، إنها مجرد أصوات المعركة ، الموت يدخل ويخرج من الخندق ، دفقات الدم ، وسقط صاحبي على وجهه ، متعبد الوجه ، انطفأت أصوات الموت في داخلي بموته ، جسد هارب إلى الأبد ، فمي صار بلا ضوء ، باقتراب الموت ، مشهد مدمى بألف شفه ، قلب يخفق فوق سنبلة ، قلب شامخ جداره قاس مثل قلب حيوان مفترس ، الخطيئة الأبدية ما كانت نقية ، أريد أن أنام نوم متعب في أشياء الزمن البعيد ، وأحلم للزمن القديم دون دم السماء المقدس ، دم الأرض الجريحة ، دم الرياح الجريئة ، أريد أن أنام نوم متعب ما قبل التاريخ ، للدم الذي يجري في العروق ، الدم المراق ، لا أريد أن أرى دما على الرمال ، العالم القديم يظله المنام ، فوجدت دمي ، لم يغمض لي جفن ، وأنا أريد أن أنام ، وأحلم بنومة سرمدية حين تنوح الأحلام ، القمر شاحب ، السحب ساكنة ملطخة بالدخان ، أتأمل الليالي ، وأنتظر…نعست ، أريد أن أنام ، وأحلم ، وشاهدة النوم تفشي ألف صورة ، لم تغمض عيناي ، روحي سلفا خلفت باتجاه السماء ، وعندما عدت إلى عالمي ، وعندما ينسل الضوء ، ستكون لدي رؤيا في المنام ، رؤيا نزوة رقيقة ، وعناء حلم ، يكون في الأقدار الخاوية ، انجررت إلى الخندق مترا إثر شهقة قصيرة ، مستنشقا صدمة القذائف ، بحرب مفروضة حديثا ، إنها رحلة في قلب الظلام ، صدمة أبدية متكررة ، مركزا انتباهي بدقة تسقط قدرا من الرعب الذي لا يكون غائبا .حدقت باندهاش ، ونهضت من صدمة القذائف ، انجرفت أجساد القتلى إلى أعماق الخندق ، ساقطة من تلك الصدمة ، فهنا رؤوس متدحرجة ، سمعت وقع الصدمة هذه المرة فوق الخندق ، كان حديثنا الجاف عن الفرار تلتهمه الصدمات ، نغمة هزلية تماما وساخرة ، من الذي يقدر أن يضحك ؟! أنا من إثر صدمة القذائف ، تلك سخرية سوداء أنا الألم ، ولو كنت هادئا في التخوم ، من الذي يثير الضحك ؟! أنا هو المتناغم الضمني مع الموت ، موت المناخات المسدودة ، الصحراء في داخلي ، الحياة مدفونة في ذاتي ، أذهب إلى مثواي الأخير ، أنا منبوذ من الجحيم والفردوس ، أنا في التطهر على شفير الهاوية ، مهمش ، لم أعد أشفى من التآكل المريع ، المتغلغل في مكوناتي الأولى . أريد أن أنام ، وأحلم في الصحراء ، ، محشورا في الخندق ، في جفاف قاتل ، مفروضا علي الإنهاك ، سقوط في الهاوية ، جسد بلا تكوين ، خطايا بلا قرون ، سأفنى في الخندق ، عيوني متضرعة إلى السماء ، لم أقدر أن أنام ، وأحلم ، ففررت من خندقي ومن الحرب والدكتاتورية ، والتحقت بالبيشمركة في كردستان .

 

20 \ 6 \ 2008
 

 

free web counter