| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

حمودي عبد محسن

 

 

 

الخميس 11/12/ 2008

 

فتاة البجع

حمودي عبد محسن

جدول هامس ، يتموج ماؤه فوق رمال القاع الأصفر ، تقدمت الفتاة ، وخلعت ملابسها ، ورمتها على الشجرة ، ثم انحدرت نحو الجدول ، وغمست قدميها في الماء لتستحم . وقفت في جرف الجدول ، وقد أحمر وجهها خجلا في تكوين جسدها الصارم المقيد بالسكون ، المقيد باللون الصريح الطليق ، وأنغام خرير المياه كامنة ، تتسرب في وجدانها ، فتترعرع أضواء باهرة تشد الأعين إليها ، فتطيل النظر إلى الجدول بهيبة وجلال ، وتفاؤل ، وجسدها الأنثوي البديع الرائع ، تحت ومضات أشعة
الضوء المتوهج في الفردوس ، متألق ، ويزداد تألقا مع كل ومضة من الضوء ذاته ، يجيش ، ويصطخب ، الذي يثير اختلاجات حسية ، وتحتدم الرغبة العزلاء أن تستريح برائحة أزهار الزنابق ، التي تنهمر بين سيقانها ، وتداعبها برذاذ المياه ، وتطيل النظر إلى قاع الجدول المرئي ، الأملس ، حتى الأوراق الذاوية ، للزنابق حول قدميها تزخها رشات المياه ، فيضئ جسدها ، وتستعيد وعيها أنها بأقدام ترسم على الرمل ظلالها ، وتختم نعومتها كأنها مبتكرة ، متنكرة بلحم آخر ، وكفها يستهل الوقت ، وجسدها تحت الماء ، وهي تنتظر وتفشي لكل الظلال خفقة من ضوء ينسل تماما على جسدها ، لأنها تسمع صوت البجع ، وتسمع زقزقات من أسفل ، ومن أعلى الأشجار ، فالجدول يستوعبها أن تجلس لبرهة تحت الماء حافية القدمين الملطختين بالرمل ، وهي ترخي روحها بشدة عبر الماء ، تلك التي تخف ، ثم تهبط ، وتسحق الرمل بأقدامها ، وأصابعها الرقيقة تمسكه ، ويفلت منهن مهما حاولت أن تحشو كفها ، يفلت الرمل ، وهي متيقنة أنها لن تتريث ، وتحوم بصخب الجسد ، ويتدلى شعرها الأسود الناعم مثل نزوة سرمدية لا تفنى ، مثل ابتسامة شفاه تدور في الجدول ، منغمسة وأسنانها تبرز لهاث قصير أو شهقة مفاجئة مع عضلات موهبة للحركة في تحسن ، في كل مرة في تحسن حينما تكون في المياه ، وتضرب بكفها بعجالة موجات خفيفة رقراقة مرتجفة ، لم يتوقف اهتزاز نهديها ، لا يمكن أن يتوقفا مع الرنة التي تنطلق من الجدول ، وقد تفتحت رغباتها وأمانيها ، ولم تجد أي بديل للجدول كأن محجر عينيها مخططة لنعمة الرؤيا ، وعندما تقف في الجدول يبرز نصف جسدها ، يعطي وعدا لنعمة الناظر ، وأي ناظر ؟! المكان منعزل ، وفي غمه شجر ، وقطر غزير دافئ أحيانا ، وحتى الكيانات الوردية ، تطوف حول سحرها ، تزحف لتغتني بدفء رائحتها ، هكذا بدأ البجع يحرث الجدول بصوته ، ولم يبق سواه الجميل ، وتأملاته فوق المياه الصافية ، يستعيد نقيق خرير الجدول ، وقد كان مهموم يعيد صورة الفتاة البارعة التي خرجت من الجدول ، ورفعت رأسها إليه ، ليتشبع في رؤيتها ، وهو خارج العالم الكبير ، خارج الأرض الخراب ، حيث النواح ، واحتراق فساتين الفتيات ، واللوذ بالصلوات ، مخلف وراءه عدم الأمان ، تلك الخلاصة : الحرب على الأبواب ، وفيما وراء العيون ، تلك الخطيئة : حيث تستنسخ الأيام دون ضياء ، دون وقود ، يا للغرابة ! تتداخل صور الفتاة الحسناء في عالمها الصغير مع طائر البجع ، وفي كل ليلة دون أن يستريح التاريخ الغامض ، ( اهدئي…اهدئي ) رافقتها الكلمات ، وراحت تصغي بانتباه ، محاولة أن تفهمها ، وتستنشق الهواء المنعش : الخطيئة ، العقاب ، الغفران ، الثواب ، الإثم . سيطر عليها الحزن ثم استولى عليها اليقين المضطرم ، أن البجع يحدثها ، هدأت نفسها متجاوزة الصرخة ، كانت تشفق على أولئك الذين يقتلون بلا ذنب ، تشارك أهلهم الحزن ، الذي لا يكفي ، شيئا فشيئا بدأت تخمن قدر اللحظة الدموية والدموع ، خافت للمرة الأولى من معاناة البجع، الذي يضمخ كلماته بالدم والدموع ، وهو يطلق صرخاته في اللحظات الأزلية ، الصرخة المرهقة التي لا تنسى ، الخالدة التي لا تزول ، هذه زهرة القدر ، قدر مزيف ، يتعثر على ملامح مزيفة والبجع يفتح منقاره الطويل الحاد :
البجع : - لنذهب أنا ، وأنت إلى النهاية ، لنذهب إلى الشاطئ المهجور ، ولا تسألي أين الجحيم ؟ لنذهب ، ونؤدي واجبنا ، فلا ضباب أبيض ، ولا دخان أبيض ، لنتسكع قليلا ، لا تنامي هنا ، وحتما هناك وقت للنوم ، حتما هناك وقت للتساؤل ، هل سأجرأ ، وأجرأ ، ثم أسأل ، وأتراجع ، وأنزل من الشجرة التي أنا فوق غصنها .

الفتاة : - هل سأجرؤ أن أزعج هذا الكون ، وأقول أنا أعرفهم ، أعرفهم جميعا ، وأعرف الأصوات التي تموت بسقوطها المحتضر ، سأجرأ ، وأنظر في العيون ، كلها أعرفها ، وربما – عرفتني ، وأنا أتمايل فوق السلم ، وحينما أصعد ، أتمايل ، وحينما أنزل أتمايل ، كيف سأبدو في نظرهم ، وقد عرفت الأذرع ، عرفتها جميعا ، الأذرع ذات الأساور ، هل أجرؤ ، وأدخل عالمهم ، وكيف سأبدو ؟!

البجع : - في يوم الحساب شخوص متفجرة ، متنافرة ، مضطربة ، هائجة يغلب عليها الخوف ، فيه أحداث أغرب من الخيال ، مكتئبة ، معتزلة ، عنق حاد ، وقبح مكدودين أرهقتهم الحياة ، أشخاص من مختلف الفئات ، هذا ينام بهدوء ، وذاك يعدو كالمجنون ، يلاعب أصابعه الطويلة ، وهناك من يبكي ، ويصمت ، ويصلي ، هؤلاء دون ثياب ، بعضهم يقهقه ، باختصار انهم خائفون ، هل كل ذلك يستحق إلى يوم الحساب بعد كل شئ ، أحدهم يضع وسادة تحت رأسه ، ينبغي أن أقول ذلك ما لم أعرفه على الإطلاق ، ذلك ليس هو على الإطلاق ، وهل كل ذلك يستحق ؟! مستحيل ، ذلك ليس ما عنيته على الإطلاق ، أنا أشيخ عندما تعصف الريح ، وتتفجر السيارات ، وتوقظنا الأصوات البشرية ، ونردد أصداء خطى في الذاكرة ، نستمع : على الأرض نواح ، وبكاء في ضوء داكن ، لا هو ضوء النهار ، ولا هو ما فات من الزمان .

الفتاة :- تحاول أنت أيها الطائر الجميل أن تحول الظلال إلى جمال زائل ، العالم الكبير في ظلام ، في حرمان ، ولا توجد ومضة على الوجوه ، إذ أجهدها الزمان ، لاهية في الذهول ، والشرود ، كآبة مليئة بالأوهام ، وقد تكون فارغة عن المعنى .

البجع : - ليس هنا في عالمك الصغير ، ظلام دائم ، وحرمان ، وانهيار ، وتعطل ، من هنا الطريق ، الطريق الآخر إلى نهاية الجدول المهجور .

لم تمر برهة وإذا بها تصرخ ، وتسقط على شاطئ المياه ، ، وإذا بها ترى أفعى قد لدغتها ، وفرت ، فصاح البجع الرشيق الأبيض ، الذي سحره أخاذ ، ذو أقدام ذات الأكفاف ، وحط على الماء ، وصار يطفو عليه ، يبحث عن الأفعى ، ثم خرج من الجدول ، وهو يتنقل ، ويمشي خارج المياه ، وجد الأفعى عند حافة الجدول ، التقطها بمنقاره الضخم ، وأكلها ، وانساب على الماء بحركته الملهمة ، وقد انتفخ فكه السفلي ، مكونا كيسا ، يحمل فيه الأفعى ، واقترب من الفتاة ، وتسلق صدرها ، فراح يمزق صدره بمنقاره فانساب الدم نازفا من جراحه ،فسقطت قطرات الدم ، وصبه في فم الفتاة ، أطعمها بدمه بعد أن شق خاصرته ، وغسل وجهها أيضا بدمه ، كل ذلك أرتبط بنقائه ، وطهره ، وتحوله الروحي ، وحنانه ، وحبه اللامحدود ، لم يلبث أن غنى أول و آخر أغنية ، وهو يميل بصدره إلى الجدول ، وداعا أيتها المياه ، وداعا أيتها الفتاة ، وداعا متع الدنيا ، اقترب مني أيها الموت ، حينها نهضت الفتاة ، فوجدته مطروحا ميتا قربها ، بكت ، وقالت يائسة : ( مات من أجلي ) .

مشت الفتاة إلى البجع ، وأعطته الزهرة ، شمها ، تغذى منها ، فهو معروف عنه يحب الزهور الذكية ، جميل ، لا يخدع أحد ، حرك جناحيه ، وعنقه الطويل ، صفق ، وغنى أنشودة العالم الكبير ، وصار يشدو ،
 

3 .8 .2007
 

 

free web counter