| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

فائز الحيدر

 

 

 

الأحد 26/4/ 2009



في الذكرى العاشرة لرحيله
منعم مظلوم الحيدر.... فنان مندائي فقدناه

فائز الحيدر

كثيرون هم الفنانون التشكيليون العراقيون ، وكثير هم الفنانون التشكيليون المندائيون الذين ينتمون الى مدارس فنية مختلفة ، مثل الواقعية ، السريالية ، التكعيبية ، الكلاسيكية ، والأنطباعية .... الخ من المدارس الفنية المختلفة ، ولكن القلة منهم من برز على الساحة الفنية العراقية والعالمية لأعمالهم المتميزة أمثال يحيى الشيخ ، سلام الشيخ ، منير الكيلاني وموسى الخميسي وغيرهم بحكم دراستهم في كليات الفنون المتخصصة في داخل العراق وخارجه .
نتحدث اليوم عن فنان نحات ورسام تشكيلي مندائي ذو طاقة فنية كبيرة ، لم يدرس فن الرسم أو النحت دراسة أكاديمية علمية كبقية الفنانين ، وبقي بعيدا" عن الأضواء ولا يعرفه إلا القليل من المندائيين أو من الذين عملوا معه وتذوقوا فنه الرفيع .

إنه الفنان منعم مظلوم الحيدر ، فالجميع يدرك انه ليس من السهل الكتابة عن هذا الفنان الكبير , خاصة وأن المعلومات والوثائق المتوفرة عنه قليلة ، أضافة الى صمت الفنان الكبير وتواضعه وزهده ، وأبتعاده عن المهرجانات الفنية والأضواء المغريه وتوزع نتاجاته الفنية ، وتجاهل الجهات الثقافية لهذا المبدع الخلاق . كان الفنان منعم مظلوم الحيدر طاقة فنية رائعة بعيدة عن الأضواء . وهذه ليست مشكلته بل مشكلة عدد كبير من الفنانين الموهوبين الذين ساهموا في رفد الحركة الفنية بأعمالهم البارعة ، وهذا يعزى الى أزمة النقد التشكيلي ، والناقد الذي لا يجهد نفسه بالبحث عن فناني الشعب الذين قست عليهم الظروف ، أو من طور قابليته الفنية الأبداعية بجهوده الشخصية وأختصر الطريق لدخول عالم الرسم والنحت والخط بدون ان يدرس ذلك في مدرسة فنية معروفة حيث المعاهد الفنية لم تؤسس بعد في ذلك الوقت ومثالنا على ذلك الفنان الفطري رشاد حاتم .

ولد الأستاذ المربي والرسام والنحات والخطاط منعم مظلوم الحيدرعام 1918 في محافظة ميسان / ناحية الكحلاء ، لعائلة جنوبية مندائية معروفة بالزهد والبساطة والكرم ، مكونة من ثلاث أخوة وثلاثة أخوات للمرحوم مظلوم لفته الحيدر وزوجته ناكة سهر المسودني ، وأكمل دراسته الأبتدائية فيها عام 1932 ، وأتم دراسته المتوسطة في مركز مدينة العمارة عام 1936 ، بعدها ألتحق بدار المعلمين الأبتدائية في حي الأعظمية ببغداد لعدم وجود دار للمعلمين في العمارة وتخرج منه عام 1939 . وكانت هذه المرحلة هامة في حياة المرحوم ، حيث كانت تلك الفترة فترة أنتشار الأفكار الوطنية والماركسية في العالم العربي حيث باشر شباب ذلك الوقت على المطالعة للكتب الثورية التي تصل العراق سرا" من الخارج والأطلاع على تجارب الشعوب وثقافتها المختلفة ، أضافة الى أن العديد من الهيئة التدريسية في المعهد كانوا من المدرسين الأنكليز حيث تعلم منهم الدقة في العمل والأنظباط والألتزام في الوقت وتبلورت موهبته الفنية في الخط والرسم والنحت ، حيث حصل على الدعم والتشجيع .

كان المربي منعم الحيدر دمث الأخلاق ، رقيق القلب ، حنون ، خدوم ، سهل التعامل مع الجميع ، محبوب ، مثقف لدرجة كبيرة في الأدب والشعر والسياسة وله أسلوب سرد قصصي مشوق ، وكانت هوايته أضافة الى الرسم والنحت مطالعة كتب الأدب والشعر والتأريخ والفنون .
بعد تخرجه من معهد المعلمين عين في مدرسة شيخ سعد الأبتدائية عام 1940 وبعد عام نقل منها الى مدرسة الكحلاء الأبتدائية وكان ذلك في عام 1941 وكان من تلاميذه في الصف الأول الأبتدائي العديد من أبناء عائلة الحيدر والطائفة المندائية . ونظرا" لجهوده المميزة في التعليم حصل على كتاب شكر وتقدير من مدير معارف العمارة ولحسن سلوكه وأنظباطه وكان ذلك عام 1942 .

في أواسط الأربعينات كانت المظاهرات الصاخبة تعم المدن العراقية ضد حكومة رئيس الوزراء صالح جبر الذي كان يعد لمعاهدة بورت سموث الجائرة وكان من نصيب المرحوم الأعتقال والفصل من التعليم عام 1947 لمساهمته الفاعلة في هذه المظاهرات ، حيث كان من أوائل المندائيين الذين نشروا الفكر التقدمي في الطائفة المندائية بأنظمامة الى الحلقات الماركسية الأولى في العراق في بداية الثلاثينات من القرن الماضي .

أعيد الى الخدمة وعين معلم في ناحية الدغارة في محافظة الديوانية عام 1948 وفي تلك السنة تزوج من الأبنة الكبرى ( نصرة ) للشيخ عبد الشيخ محيي الداموك رغبة منه في الأستقرار وتكوين أسرة .
كان المرحوم كثير النشاط دائم المشاركة في اللجان المشرفة على الأستعراضات الرياضية والمعارض الفنية السنوية ، وكانت تناط به مهمة التشريفات والتحكيم والأشراف على سير الأستعراض الرياضي للمدارس الأبتدائية والثانوية الذي تقيمه المحافظة كل عام ، بعد أن توفر كل ما يلزم لنجاحه وكان يتلقى كتب الشكر والتقدير من مديرية المعارف لجهوده المميزة لأنجاح الأستعراض .

لم يدرس الفن دراسة أكاديمية في المعاهد الفنية لعدم وجود مثل هذه المعاهد في ذلك الوقت وكان كل مايملك هو هوايته للرسم التي نماها ذاتيا" ،واستفاد من الكتب الفنية التي كان يحبذ شرائها للأطلاع على المدارس الفنية وطرق الرسم واستعمال الألوان بدقة وصبر وتأني ، لدرجة أنه كان ينظم معرض سنوي للرسم والنحت والأشغال اليدوية في المدرسة ، ويعرض انتاجه من الرسوم الجميلة والتماثيل والمنحوتات والزخارف على الخشب والنحاس والخط العربي ، مما يثير إعجاب زوار المعرض الكثير من العراقيين والأجانب ويتلقى عن ذلك الجوائز وكتب الشكر والتقدير من مدير المعارف في المحافظة ، حيث كانت تنظم سنويا"معارض فنية لجميع المدارس الأبتدائية والثانوية تتنافس فيما بينها وكالعادة كانت أنتاجاته تفوز بالجائزة الأولى كل عام .

بعد ان تأكد للمسؤولين في مديرية معارف الديوانية من موهبته الفنية غير العادية في الرسم والنحت والأشغال اليدوية من الزخرفة والخط نسب الى ثانوية الديوانية لتدريس الرسم والنحت والأشراف على جميع الفعاليات الفنية في الثانوية حيث كانت المدارس في ذلك الوقت تفتقر الى مدرسي الفن المختصين .

وكان المرحوم قد بدأ العمل الفني نحاتا"عام 1950 ، فأنجز تمثالين للشاعرين الكبيرين أبو العلاء المعري ومعروف الرصافي ، حيث برزت مواهبة الفنية في الرسم والنحت ، وقد نمت هذه الموهبة ونضجت أثناء عمله كمدرس لمادة التربية الفنية في المدارس التي عمل فيها ، وقد كان عطاءه واضحا" في رسم وعمل الوسائل التعليمية في المحافظة التي ساعدت الطلاب على فهم وأستيعاب المواد الدراسية المختلفة . حيث عمل مدرسا" لمادة التربية الفنية في محافظة الديوانية في أواسط الخمسينات وعمل في مركز الوسائل التعليمية في المحافظة .

لم ينسى المرحوم واجبه الوطني تجاه وطنه العراق فقد اشترك في عام 1955 مع مجموعة من المدرسين كمتطوعين في دورة لمكافحة الأمية في الجيش العراقي في دورات مسائية للجنود والمراتب من الأميين . وفي تلك الفترة رسم الكثير من التخطيطات لحال الجنود في الخدمة العسكرية اثارت اعجاب كل من شاهدها من المسؤولين. وفي نفس العام رشح من قبل وزارة المعارف العراقية لدراسة فن السيراميك والتخصص فيه في الولايات المتحدة ولمدة أربع سنوات ولكنه تخلى عنها لزميله المدرس صالح جاسم بسبب عدم اهتمامه بالسيراميك مقارنة بحبه للرسم والنحت والسبب الأخر ولكونه عاطفيا" وحنونا" لدرجة كبيرة لم يشأ ان يترك اطفاله طيلة اربع سنوات بدون ان يكون بينهم ويرعاهم ويوجههم .

نسب لتدريس الرسم والأعمال اليدوية في دار المعلمين الأبتدائية في الديوانية عام 1957 حيث درسّ مادة التربية الفنية وطرق تدريسها ، وأستمر بجميع نشاطاته الفنية والمعارض السنوية للرسم والنحت والأعمال اليدوية وتخرج على يديه عدد من الأساتذة في الجامعات ورجال الدولة والفنانين المبدعين وقد شهدوا له بالذوق الرفيع ، ورهافة الحس الفني . وفي نفس العام رشح ثانية للدراسة في مصر لمدة عامين ولكنه رفضها للأسباب السابقة . في عام 1959 نقل الى بغداد ونسب الى مركز وسائل الأيضاح ، وعين رئيس قسم النحت في المركز وكان يلقي المحاظرات على طلبة دورات مركز وسائل الأيضاح من المعلمين والمدرسين التي يقيمها المركز بأستمرار ، كذلك على طلبة معهد الفنون الجميلة في بغداد . وقدم ومجموعة من العاملين في القسم برنامج تلفزيوني حول أهمية وسائل الأيضاح في المدارس ولغاية عام 1962 حيث ألغي مركز وسائل الأيضاح و عاد من جديد للتدريس في مدرسة الصراة الأبتدائية في كرادة مريم في بغداد وحتى عام 1966 حيث نسب لتدريس فن الرسم في ثانوية المنصور للبنين وبقي فيها لمدة سنتين ، أعيد بعدها الى مدرسة الصراة الأبتدائية بعد صدور تعليمات وأسس جديدة لتنسيب المعلمين والمعلمات الى النشاطات الفنية وألغاء إنتداب المعلمين على الملاك الأبتدائي للتدريس في المدارس الثانوية .

وفي عام 1969 أحال نفسه على التقاعد وعمل مدير لمدرسة الطفل الأهلية في الدورة لمدة اربع سنوات وتركها بعد أن تم ألحاق المدارس الأهلية بالمدارس الرسمية .
ففي فترة نشاطة الفني قام بعمل العديد من التماثيل للكثير من الشخصيات العالمية والتأريخية والقادة العراقيين ، وآخر تمثال قام به كان للدكتور عبد الجبار عبدالله تكريما" لهذا العالم المندائي ، وهو موجود في مندي الطائفة في بغداد في وسط القاعة التي يقام فيها حفل توزيع جائزة الكتور عبد الجبار عبد الله على الطلبة المتفوقين من الطائفة كل عام . كما وأنجز العديد من التماثيل لأصدقائه ومنهم تمثال رفيق أطيمش وهو أحد طلابه في الدورة التربوية لسنة 1952 .

وبسبب مرض زوجته المبكر وعدم قدرتها على العناية بالبيت والأولاد لوحدها أضطر لترك هوايته المفضلة وكرس حياته لتربية أولاده .
لقد تميز الفنان الراحل بأسلوبه المؤثر في الرسم والنحت وكان يحسن بأجادة تامة عمل النماذج التعليمية ومنها التمائيل الجبسية لشخصيات عاصرته ، كما كان رساما" بارعا" يستخدم الألوان الزيتية في رسم لوحاته لا سيما المناظر الطبيعية التي تحمل نكهة الجنوب في شموخ نخيله وجمال أهواره وأمتداد مساحته المائية ومشاحيف الصيادين ... وكان شغوفا" برسم الصور الشخصية ( البورتريت ) ، حيث لازالت عائلته تحتفظ بالعديد من لوحاته ومنها صورة كبيرة بالحجم الطبيعي للشيخ عبد الشيخ محيي الداموك بلباسه الديني ( الرسته ) كما في الصورة المرفقة وصورة اخرى لوالده المرحوم مظلوم لفتة الحيدر فعند النظر اليها تحس وكأنها تنبض بالحياة والحركة .

كان الفنان المرحوم يحس بالسعادة ويدخل البهجة الى نفسه ونفوس الأخرين عندما يهدي اللوحات التي يرسمها بأنامله الرقيقة وفرشاته وألوانه الجذابة الى أصدقاءه ومحبي فنه وكان ذلك شاهدا" على رقي فنه وعمق أحساسه بالفن . ونادرا" أن تجد بيتا" من بيوت أهله من عائلة الحيدر لا يملك أحدى لوحاته الفنية التي رسمها بدقة وأهتمام ليضيف البهجة في كل بيت من العائلة . ولا زلت أتذكر تلك اللوحة الفنية الرائعة التي كانت تتوسط صالة الضيوف في بيتنا وهي تمثل بحيرة رائعة تتوسط الجبال وتحيط بها الأشجار ولا اتخيل مدى دقة الفرشاة التي رسمتها والألوان التي أستعملها في فترة الستينات والتي حاولت تقليدها مرارا" وعلى مدى سنوات العمر دون جدوى ، وبنفس الوقت شجعتني على تنمية هوايتي المتواضعة في الرسم وتطوير قابليتي الفنية مستفيدا" من تجربته في هذا المجال .

لقد كان مندائيا" محبا" لدينه وطائفته ومربيا" فاضلا" وفنانا" مبدعا" وشخصية متحدثة جذابة ذات تأثير على كل من تعرف عليه ، كان محبوبا" ومخلصا" لعائلته ووالدا" برا" بأولاد متفوقين حصلوا على أعلى الشهادات في الطب والأختصاصات الأخرى ، وتواصل أبنته في مالمو / السويد نهج والدها في الرسم ولها مدرستها الخاصة وأسلوبها المميز في فن الرسم .

فارقنا الخال منعم مظلوم الحيدر في  25 / 4 / 1999 ، وفقده كل محبيه ولكن أعماله ستبقى خالدة في نفوس الجميع .
 


نيسان / 2009

 


 

free web counter