|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

 الثلاثاء 24/4/ 2012                                 المهندس فتحي الحبوبي                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

البداوة الفكرية لمحترفي الإفتاء المشبوه

المهندس فتحي الحبوبي

الماثل لكل ذي عينين وبصيرة، الذي لا يختلف حوله اثنان عاقلان، هو أنّ عودة الوعي الديني أو ما يسمّى بالصحوة الدينيّة،التي شملت كافة الدول العربيّة من المحيط إلى الخليج، في ظل احتدام القنوات الفضائية الدينيّة من جهة ، وبروز عديد الأحزاب ذات المرجعيّة الإسلاميّة، من جهة ثانية، شجّعت بعض الفقهاء و"المتفقّهين'' في الدّين، من محترفي الفتاوى من تيّارات دينيّة متعدّدة المشارب والتوجّهات؛ من تقليدية إلى إصلاحيّة إلى معتدلة،  شجّعتهم على الإمعان في الفتاوى المصادرة للحريّات الفردية والتي يبعث بعضها على الغرابة والغثيان. لا بل وعلى السخريّة من أمّة كانت بالنصّ القرآني، خير أمة أخرجت للنّاس. حيث أنّهم توسّعوا في التضييق على النّاس بتحريم كل شيء حديث يجهلونه أو يشتبه عليهم، دون تنزيله في سياقه الزمكاني. فهم لم يتركوا مجالا إلّا وحشروا أنوفهم فيه. وهكذا، اقتحموا مجال الفكر والفلسفة والأدب  والفن والعلم والسياسة ونحوها. هؤلاء الشيوخ المزعومين والدخلاء على الإفتاء الشرعي المحدّد بضوابط معلومة ودقيقة جدّا يصعب توفّرها عندهم، يعتبرون أنفسهم مختصّين في كل مجال، بل و أوصياء على الناس جميعا، كأنّما لديهم تفويض ألاهي في التحريم والتحليل وما يجوز وما لا يجوز. رغم أنّه باستثناء المتشابهات، فإنّ الحلال بيّن والحرام بيّن بنص الحديث الشريف. ثم إنه لا وجود لمفهوم رجال الدين في الإسلام لأن كل المسلمين 'رجال دين' و'رجال دنيا' في آن معا. إلاّ أنّ الشيخ ابن القيّم الجوزية، تلميذ إبن تيمية،  الذي عاش في القرن الرابع عشر، اعتبر أنّ ''الفتاوى إنّما هي  توقيع عن ربّ العالمين''.وهو ما يوحي بأنّ الإسلام كما المسيحيّة، يسمح بوجود مؤسّسة كهنوتية ذات سلطة دينيّة تفرض مفاهيمها وتعاليمها على الناس، وتشارك الله في سلطته. في حين أنّ الإسلام ليس دين شرك وهو-قطعا- ليس حكرا علي أحد دون آخر، ولو أطلق لحية كثيفة وعمّم رأسه ولبس جلبابا فضفاضا وأعتكف بالمسجد ، كما لم يعتكف به أحد ''صباحا مساء ويوم الاحد''على حدّ قول الشاعر التونسي ''الصغيّر أولاد أحمد" في قصيدته ''أحبّ البلاد كما لا يحبّها أحد'' .

 وهذا ما يحيلنا بالضرورة إلى ما كانت تمارسه الكنيسة المسيحيّة، إلى عصر ما قبل ظهور فلاسفة غربيين ملاحدة من طينة آرثر شوبنهاور Schopenhauer  الذي أعتبر الحياة شرّا مطلقا وبالتّالي فالانتحار هو الحلّ، وفريدريك نيتشه Nietzsche  Friedrich المعادي الشرس للمسيح والمسيحيّة  وقد رأى فيها انحطاطا أخلاقيّا محيقا، حمله على أعتبار أن الله قد مات وبالتالي فكل شيء ممكن، وسيغموند فرويد Sigmund Freudالذي اعتبر الركن الأساس للحياة إنما هو الجنس، وداروينCharles Darwin الذي فنّد النظريّة الدينيّة للخلق وصاغ نظريّة التطوّر التي لا تزال تثير الجدل حولها، وفولتير Voltaireالذي تهكّم كثيرا على المسيحيّة وهاجمها بشدّة ولم يرجع عن ذلك حتّى وهو على فراش الموت. وقد قال فولتير (( إنّه خلال قرن واحد سيختفي الكتاب المقدس من الأرض وسيدخل التاريخ)). ومن سخريّة القدر ان اشترت ''جمعيّة جنيف للكتاب المقدّس'' مطبعة فولتير بهدف طبع الكتاب المقدّس. كما أصبح بيته بعد موته دار نشر للكتاب المقدس !! ويضاف إلى هؤلاء الفيلسوف السياسي والإقتصادي كارل ماركس Karl Marxالذي اعتبر الدين أفيونا للشعوب، وباروخ سبينوزا Baruch Spinozaمؤلف كتاب " مقالة في اللاهوت والسياسة'' الذي أكّد فيه أن حريّة التفلسف لا تمثل خطراً على الدين، بل إن في القضاء عليها قضاءً على الدين ذاته. وهو، تماما، ما نادى به أبن رشد، خمسة قرون، قبل سبينوزا، اليهودي المتأثّرعلى الأرجح، بالصوفيين، الحلاج وإبن العربي. ثم اتبع خطى هؤلاء من المعاصرين جان بول سارترJean-Paul Sartre، الذي اعتبر الإنسان قبل الوعي بالحريّة واستثمارها إنّما هو العدم ذاته، وجاء بعده ريتشارد دوكينزRichard Dawkins, الذي أعتبر في كتابه "وهم الإلاه'' أن لا وجود لأي خالق غيبي وأن الإيمان ليس أكثر من مجرّد وهم فحسب.

 وكان من تداعيات هذه الأفكار الجديدة، أن انتزعت القداسة من النصّ الديني المسيحي، وبدأت سلطة الكنيسة في التراجع والانحسار والابتعاد عن الشأن العام. وهو ما لم يحصل في العالم العربي والإسلامي الذي استمرت  فيه معاقل الرجعيّة والظلاميّة المتمثّلة في المؤسّسات الكهنوتيّة بمذاهبها المختلفة وتجلّياتها العديدة، إن ببعض الجامعات في السعوديّة،أو بالأزهر في مصر، أو بحوزات، النجف وقم، تمارس عليه، في زمان غير زمانها، وصاية لا مبرّر لها، إلّا في عقول المشايخ محترفي الفتاوى الموغلة في السخف وبلادة الفكر، الذين جعلوا من أمّة قال عنها الله تعالى  أنّها ''خير أمّة أخرجت للناس" أمّة ''ضحكت من جهلها الأمم'' كما قال المتنبي.  

فبربّكم، أيعقل ونحن في القرن الواحد والعشرين،عصر العولمة والانترنت وغزو الفضاء، أن يطلع علينا  شيخ أصولي''متفقّه'' بفتوى من قبيل أن المظاهرات  السلميّة حرام وهي إفساد في الارض. والحال أنّ السكوت عن الجور محرّم شرعًا والساكت عن الظلم شيطان أخرس. فيما يرى المؤرخ البريطاني آرنلود توينبي ''أن الإرادة الجماعيّة للشعوب تنهض وتتحفّز عند بروز التحدّي التاريخي'' وما المظاهرات إلّا مظهر من مظاهر التحدّي ، والتعبير عن رفض الظلم والفساد، والسعي لتحقيق مطالب مشروعة، انتصارا للحق ضد الباطل.

وهل من حصافة العقل، أن يفتي أحد شيوخ  السلفيّة في مصر- وبلاده بصدد ممارسة أولى  إنتخابات برلمانية ما بعد ثورة 25 يناير- بحرمة التصويت في الانتخابات للمرشّح المسلم الذي لا يُصلّي، والعلماني والليبرالي الذي لم يتضمّن برنامجه تطبيق الشريعة الإسلامية.  وهل هناك واجب شرعي أن يفتي سلفي ثان بتحريم التصويت للأحزاب العلمانيّة والليبراليّة لأنّ ''الإسلام لا يعرف المسلم العلماني أو المسلم الليبرالي، فهذه المبادئ تخالف دين الله''. وإمعانا في توظيف 'ما يجوز وما لا يجوز' في الحياة السياسيّة وممارسة التجربة الديمقراطيّة فإنّ المتصوّفة هم أيضا ، أدلوا بدلوهم  فأصدروا فتاوى تهاجم السلفيين وتعتبر التصويت للسلفيين في الانتخابات" خيانة للوطن". وأخيرا وليس آخرا أفتى أحد شيوخ الأزهر بأنّه ''لا يجوز لأي مصري أن يُزوّج ابنته لأي من أعضاء الحزب الوطني المنحل لأنهم غير أمناء ومضيّعون للأمانة".. ؟!

هذه الفتاوى السخيفة وغيرها، من قبيل "تحريم سياقة السيّارات على النساء السعوديات"، و''إرضاع الكبير''،  لا تزيد عن كونها  مهاترات مثيرة للبلبلة والإرباك والتشويش على أذهان المسلمين الغارقين باستمرار في بحر ليس له قرار من المشاكل اليوميّة التي لا تنتهي. لذلك أناشد محترفي الفتاوى السخيفة، أن أرفعوا أياديكم عن المسلمين واتركوهم يعيشون بسلام، واحتفظوا لأنفسكم فقط، بفتاويكم المتخشّبة وترّهاتكم المحنّطة،  ولا تذيعوها بين الناس فتسارعوا بتدمير العقل والدين معا مثلما فعل الفيلسوف الاسكتلندي ديفيد هيومDavid Home عندما نادى بوجوب بناء الإيمان على البرهان فقط. وذلك حتّى لا تكونوا، في أحسن الأحوال، محلّ استهزاء وسخريّة من الجميع، ولا سيما من جيل اليوم، الذي تستهويه قيم الحداثة التي افتتحها إمّانويل كانط Emmanuel Kantبممارساته النقديّة حتّى للعقل ذاته، كما جاء في كتابه الشهير ''نقد العقل الخالص'' . ومن كان النقد أداته في تفكيكه وتقويمه لكل شيء ثمّ الحكم عليه، فلا ننتظر منه قبول فتاوى نشاز،لا يستسيغها العقل ولا المنطق السليم، إلاّ أن يكون مصابا بالعمى والحول الفكري، لأنّها ببساطة وبكل المقاييس، تعتبر ضربا من الهذيان والبداوة الفكرية والتصحر الثقافي، وتتموقع خارج الإطار الديني وسياق التاريخ وسيرورته التي لا تعود أبدا إلى الوراء مهما كانت العوائق والمحبطات كثيرة ومتعدّدة. وهي بالفعل كذلك، لا سيّما بعد تفجّر الشارع العربي وانعتا قه من الخوف إنطلاقا من 14يناير،2011 تاريخ هروب الطاغية  المخلوع بن علي  .

 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter