| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

فيصل لعيبي

 

 

 

 

الجمعة 3/8/ 2007

 

 


النجم مؤيد نعمة

فيصل لعيبي

نحيف ، ناعم ، وسيم ، خجول في أول لقاء ومشكلة بعد التعارف والميانات ، لايمكنك ان تفلت من ملاحظاته ، ماذا بعد ؟
مبدع بشكل باهر , مجدد للكاريكاتير العراقي وصاحب لمسة الحداثة فيه .

كان اول ظهوره للناس من خلال مجلة مجلتي وجريدة المزمار المختصتين برسوم الأطفال، ثم دخل معترك الصراع السياسي ، فأختار جريدة ( طريق الشعب ) كموقع والشيوعية كطريق ، وبدأت معركته ضد التخلف والبيروقراطية والفساد الإداري والمحسوبيات ، وساهم في فضح الرجعيات العربية والأوربية ، ونالت منه أمريكا ما لم تنله من رسام عربي معاصر، بإستثناء الفنان الفلسطيني النادر وأبن عين الحلوة ، الراحل ناجي العلي .
خطوطه جريئة ، حادة ، قوية ، معبرة ، افكاره نابته ، وفي الصميم وبنت الساعة .
كانت المرأة العراقية قد أكتسبت في رسومه نكهة أخرى ، بعد ان أدهشنا بها سابقا ، عبقري الكاركاتير العراقي الرسام غازي ، فمثلها وهي في الجامعة او مكتب العمل أو في البيت كزوجة ، وفي الحقل كعاملة ، سليطة اللسان ومتسلطة ، أما الرجل ، فقد قدمه مؤيد بكل تعقيداته ومشاكله ، التي لاتنتهي ومن مختلف المراتب والدرجات .

ما أجمل جلساته التي لاينقطع فيها الهزل والنصبات والتعليقات اللاذعة ، وفي مجلتي مع وجود المبدع الرائع طالب مكي ، بقفشاته التي لايفهمها إلا القليل والفنان البديع صلاح جياد الذي يبدأ النصبة مع احدهم عادة ، حتى تلتهب غرفة الرسامين ضحكا وترتج جدرانها ولا
تستقر حتى يطل رئيس التحرير، متوسلا بنا إلتزام الهدوء ، لأن معه ضيوف عمل من الوزارة ، وبعد دقائق ينطلق مؤيد بعبارة طالب مكي الشهير : "هاي شنو ملافتهمنا " ، مقلدا إياه بدقة ، لتعود الضحكات مجددا . فيؤكدها طالب مكي بعبارة له شهيرة أيضا : "معلوم العسكرية " ، او " ثمانية وثلث كرمز لشوارب " الرفاق الحلفاء " آنذاك لم تكن مجلة مجلتي رغم ما كان النظام يخطط لها من توجهات ، إلا مختبرا للمواهب العراقية الهامة في الرسم العراقي الساخر الحديث ، حيث ضمت المبدع اللامع بسام فرج ،الجسر الذي ربط تقاليد الرسم العراقي الساخر ، المتمثلة بأعمال الرسام غازي ، و تطلعات الوضع الجمهوري ، حيث كان بسام افضل ممثل لها ، بعد الرسام غازي ، الذي يمكن اعتباره إبن المرحلة الليبرالية ، التي دشنها النظام الملكي ، من خلال مشاريع الأعمار، التي اعلن عنها آنذاك ، والتي أجهضت من قبل الأحزاب السياسية ، التى أستلمت مقاليد الأمور في العهد الجمهوري ذو السحنات الحزبية الضيقة ، والعسكرية المتخلفة المقيتة .

كان الفنان طالب مكي ، عمودا من أعمدة الرسم في المجلات العراقية ، خاصة مجلة العاملون بالنفط ، اما الفنان الكبير صلاح جياد ، فقد انطلق من مجلة ألف باء بقوة ، أهلته إمكانياته الفنية، لأن يصبح أهم رسام وأبرز مبدع في هذا المجال ، ومن يتصفح ألف باء السبعينات ، سيجد برهان هذا الكلام ، وكان الفنان القدير وليد شيت ، لايقل موهبة ولا حماسة عن الآخرين ، إضافة الى الفنان الموهوب عصام الجبوري ، الذي ابدع في رسوم الشخصيات الصغيرة في مجلتي ، والتي أحبها الأطفال العراقيون وتعلقوا بها ، ثم مجموعة رائعة من المبدعين الشباب ، الذي كان مؤيد أبرزهم منذ البداية ، والذي لايمكن عزله عن صديق عمره وزميله في الدراسة والعمل والنصبات كذلك ، الفنان سعدي الموسوي ، الذي كان يطلق النكات ويحرك المشهد الساخر ، دون ان يظهر عليه الجرم المشهود ، والزميل جمال العتابي ، داخلا وهو يهمس قائلا : - " شلون الوذع ؟ " – يقصد الوضع – بإبتسامته الماكرة .

آه ما
أجمل تلك الأيام . لقد كانت مجلتي ، عشا للملائكة الأرضيين ، ولكنها لم تكن تخلو من الأبالسة ايضا .
ان مؤيد والزملاء الآخرين ، قد شقوا طريقا جديدا لرسوم المجلات العراقية ، لم يكن متكئا على المدرسة المصرية مثلا ، او العربية عموما ولا حتى الأوربية ، هناك شيء جديد كل الجدة ، انه الهوية العراقية في الرسم ، حتى الساخر منه ، فإحساس الرسام العراقي بقلة الأمكانيات والفرص ، جعله يضاعف الجهد ويختصر الوقت ، ليقدم عملا فنيا متكاملا ومنذ البداية ، فنحن لانجد في رسوم معظم من مارس هذا الفن ، ما يعرف بالهواية او البداية ، كان ناضجا من اول رسمة ، وبدرجة عالية من الإتقان ، أدهش أصحاب الخبرات من الفنانين العرب .
كان مؤيد نعمة أول فنان عراقي ، يتجه الى البورتريت الفخاري ، في فن السيراميك عندنا ، وقد أبدع فيه ، ومن أهم أعماله فيه ، بورتريت الفنانين الراحلين إسماعيل الشيخلي ، كاظم حيدر وفائق حسن ، وبذلك فتح لهذا الفن نافذة لم تكن مطروقة سابقا عندنا إلا نادرا .

بعد سفري الى الخارج ، لم يجري بيننا أي إتصال ، لكني قبل أكثر من ثلاث سنوات ، عرفت أنه يقيم في الأردن ، وكنت وقتها في برلين ، بمناسبة إقامة معرض مع الأصدقاء علي المندلاوي ومنصور البكري ، فتحدثت معه وجرى بيننا كلام جميل ،أحسست وقتها أن مؤيد قد بدا لي أكثر هدوءا ووقارا مما كنت أتصوره ، وإنتهى حديثنا على أمل اللقاء في مكان ما ، فلم يكن في بالنا أن صدام ستقلعه أمريكا بنفس السهولة التي أتت به ، وليس الحركة الوطنية العراقية العتيدة ، التي كنا نعول عليها ، وكان هذا أيضا بعيد المنال آنذاك .

بعد انهيار نظام صدام حسين الدموي ، عاد الفنان مؤيد نعمة من الأردن ، ليعمل مجددا في جريدة ( طريق الشعب ) ، ومن ثم جريدة ( المدى ) ، ليطالع القراء ومحبيه ، بما تجود به القريحة وما اغناها ، فكرس ريشته النقدية ، لفضح كل ما له علاقة بالتخلف والقمع والأرهاب ، وليقف وهو واعيا لمخاطر مواقفه هذه ، امام جبروت الذين يريدون إعادة عجلة التأريخ الى الخلف قرونا عديدة ، ودفع العراقي الى كهوف الظلام والعبودية والضغينة، وكأن ما جرى لنا لايكفي .
ماذا أقول بعد ؟
انه نجم آخر هوى أمامنا ، لكنه علمنا التحدي وهو النحيل البنية.
علمنا المثابرة والجدية والأصرار ، وهو الساخر المتحدي لكل صرامات الواقع المر .

لقد هدني مكتوب الفنان الصديق كفاح الريفي في الصباح الذي غادرنا به مؤيد ، معلنا وفاة مبدع وصديق ومناضل آخر ، من مناضلي تلك الكوكبة من المبدعين الذين لم تضعفهم أقوى الفاشيات في النصف الثاني من القرن العشرين ، ولم ينحنوا للطغاة من كل الأصناف ، وساروا في طريق يقينهم الذي أرتضوه ، وصمدوا امام أعتى العواصف والمنعطفات التأريخية الكبرى ، التي مرت على العراق والمنطقة ، لايملكون غير قناعاتهم وصدق النية والقلب واللسان ونظافة اليد ومحبة شعبنا .
ستبقى حكمة التاريخ التي لامثيل لها ، برهانا على ما أقول يا مؤيد يا صديقي ومعلمي أشياء لا تمحى .

29/ 11/ 2005