| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

فيصل لعيبي

 

 

 

 

الثلاثاء 31 /7/ 2007

 

 


البصرة 
1
 

فيصل لعيبي

الى روح سليمان فيضي العراقي النبيل

لكل منا صورته الخاصة عن مدينته التي نشأ فيها وعاش تحت ظلالها ، واحيانا تتحول الصورة الواحدة الى صور ، فالمدينة مخلوق متطور ونامي ومتعدد الوجوه والزوايا ، وربما تنمو لنفس المدينة صور تختلف من شخص الى اخر ، كل حسب تجربته او ظروفه , وقد نكتشف متأخرين ، انها بعيدة كل البعد عن حقيقة المدينة نفسها
البصرة عندي عمل ابداعي ينمو وينتقل معي من مكان الى آخر ومن زمان الى زمان ضباب صباحاتها الندية والرطبة ، بيوتها الجميلة على العشار ، زوارقها الأنيقة وساحاتها المليئة بالمتعبين والعشاق والسكارى ، عمالها الجالسين على الرصيف ، يبيعون اذرعهم ، بشعرائها وفنانيها الحالمين بدنيا عادلة ، الملاهي : الفارابي ، النصر الشتوي ، النصر الصيفي الأندلس ، خماراتها الجميلة الهادئة ، سينماتها النظيفة بأستثناء سينما الحمراء العتيقة ، بنواديها ومقاهيها الشعبية ، بنهرها الخالد : شط العرب ، بشرائعها الخلابة ، شخصياتها المدهشة ، بنسائها الرائعات ، بطيبتها التي عرفت بها.واسواقها التي تجلب البضائع من جزر الواق واق وغيرها من الآفاق , صاغتها وصرافيها ، بحارتها وفلاحيها ، رطبها الجني ونخلتها البهية ملكة الشجر ، خليط ماءها المتكون من دجلة الخير والفرات العسلي وكارون العذب وملح الخليج المليء بالمحار واللؤلؤ والردى ، جوامعها القديمة ومراقد الاولين ، مثل قبر الزبير ابن العوام ابن عمة النبي وقبر طلحة بن عبد الله وقد قتلا في معركة الجمل ، والحسن البصري سيد التابعين وقبر حليمة السعدية مرضعة النبي وابنها رضيع الرسول ، وقبر ابي بكرة صاحب النبي ومحمد بن سيرين ومالك بن دينار وغيرهم . وفي البصرة ايضا مقام الأمام علي بن ابي طالب ، اثناء معركة الجمل.وقد تزوج فيه ليلى بنت مسعود النهشلي ، التي انجبت له ولديه عبيد الله وابا بكر اللذين استشهدا مع الحسين في كربلاء .
يذكر التأريخ الرسمي للدولة الأسلامية ، ان البصرة بنيت في عهد عمر بن الخطاب في عام (14 هجرية - 634 ميلادية) ، حيث اختطها ابو الحرباء عاصم بن دلف بعد اخذ موافقة الخليفة عمر والقائد سعد بن ابي وقاص وكان اول من ولي عليها هو قطبة بن قتادة السدوسي ، لكن المؤرخين يذكرون ان البصرة الحالية كانت قد بنيت عام (275هجرية-995 ميلادية ) وسميت بصيرة اما الحقيقة فان البصرة كانت قائمة منذ زمن الأكاسرة وما مدينة الأبلة الا صدى لتلك التي بنيت في زمن الساسانيين حيث كانت ميناءا للتجارة وسوقا معروفة قبل الأسلام ،الا انها تطورت بعد الفتح الأسلامي وازدهرت واصبحت واحدة من اهم مدن الأسلام انذاك مثل المدينة والكوفة ودمشق ، وارتبطت منذ ذلك الزمن بالهند والصين واوربا ، وفي عهد المأمون اصبح عدد الأساتذة والعلماء فيها اكثر من 700 عالم واستاذ وفقيه وراوية ، لكل واحد منهم العشرات من الطلبة والتلاميذ والأتباع ، وقد تم تأليف ما يقارب المائتي الف مجلد في الفقه والعلوم والأدب خلال عشرين عاما فقط من حياتها الثريةاذ امر المأمون بحملها اليه بثلاث سفن حارما بذلك اهلها من فرصة العلم والمعرفة ..
من نوابغها الأوائل : المعتزلةالذين اسسوا المدرسة العقلية الأولى في الأسلام ومدرسة اخوان الصفا وخلان الوفا ، التي ارادت توحيد الأديان والفلسفات والأمم والشعوب و النحويون البصريون الذين ساهموا في بناءواستخراج قواعد اللغة العربية وتحديد طبيعتها الخاصة ، وكانت لهم مواقف وتجديدات بارزة فيها . . .
في البصرة عاش الخليل بن احمد الفراهيدي ، صاحب كتاب العين وسيبويه مؤلف كتاب اطلق عليه ( البحر) لغزارته واسحاق بن حنين الطبيب المشهور وصاحب كتاب الألهيات لأرسطو ، وابنه حنين بن اسحاق مؤلف المقالات العشرة في مداواة العين ، وكتاب طبقات العين ، وشعبة بن الحجاج واضع كتاب جرح رواة الحديث وهو اول مصنف برز الى الوجود في هذا العلم ، وابو الأسود الدؤلي تلميذ الأمام علي الذي اخذ عنه علم النحو، وابن المقفع مؤلف كليلة ودمنة الشهير والمبرد والحريري صاحب المقامات والجاحظ وواصل بن عطاء مؤسس الأعتزال ، وابن دريد صاحب الجمهرة واسماء القبائل ، وابن جبيرصاحب عمدة الأدلة في علم الكلام ، والحسن البصري وابن سيرين مفسر الأحلام ، والمازني مكتشف علم التصريف ، والحسن بن هيثم معرب اقليدس في الحساب والهندسة وواضع علم البصريات والفرزدق والأصمعي والماوردي وابو نؤاس وابو وائلة القاضي صاحب علم الفراسة والذكاء وغيرهم.

في البصرة تأسست المكتبات العامة , وكانت تحتوي المجلدات الثمينة التي دمرها بعد ذلك الغزاة من جميع الأصناف ، وكانت مكتبة القاضي ابو الفرج تحتوي على (50 ) الف مجلد نادر ، وفيها استبدل العرب سوق عكاظ بالمربد الذي اصبح ماندعوه اليوم بالمهرجان السنوي للثقافة والفنون ، مثل مهرجان كان ومهرجان فينيسيا ومهرجان موسكو وغيرها من مدن العالم الحديث ..
كانت البصرة ولاتزال محط اطماع الحكام والأقوام المختلفة ومرت بمصائب لاتحصى ، ابتداءا من معركة الجمل عام 36 هجرية وانتهاءا بحروب الخليج الثلاث الأخيرة ، فلا الأمويون رعوا لها حرمة ولا العباسيون ، وتلا ذلك الغزو الأجنبي من هولاكو – الفرس العثمانيون - الهولنديون - البرتغاليون – الأنكليز- وأخيراً جيوش العالم المتعدد الجنسيات وعلى رأسهم الأمريكان والأنظمة التي جاءت معهم أو بعدهم ، اضافة للأمراض والفيضانات والكوارث الطبيعية والمجاعات ، او الحصارات وغزو الأعراب وبدو الجزيرة العربية لها من جهة الغرب والجنوب ، حتى اصبح خراب البصرة مثلا يضرب في المصائب والكوارث الكبرىفيقال في ذلك : " ا بعد خراب البصرة ؟" .والبقية تأتي ..

ولدت في قلب البصرة وفي منطقة العشار العريقة ، وبالذات في بريهة ، التي ذكرها ابن بطوطة ، تلك المحلة التي تجمع الأكراد بالعرب والفرس بالتركمان والبلوش بالهنود ، ونحن نختلط بالأجانب من مختلف الأجناس وخاصة الأوربيين ، بدون كلفة ولا حساسية او شعور بالنقص وانما الند بالند ، وقد كنا اول من تصدى لهم من اهل العراق في بداية القرن العشرين والقرون السابقة ولا يزال صدى معركة الشعيبة يرن في تلك البطاح ، والأضراب الذي اعلنه عمالها في الميناء عام 1918 ضد الأنكليز والشركات الأجنبية الأخرى ، يتردد مع امواج شط العرب التي تصطدم بالممسفن الذي شهد تلك الأيام .
ولبقايا جند علي بن محمد من الزنوج اعياد ولا كل الأعياد يتوسطهم تومان( شكوكو البصرة ) الشهير الذي يخلب لب المراهقات بألعابه البهلوانية ، فهو داعية شهير لبضاعته ونديم لايمل لطرافته , ولو كان الملك فيصل الثاني يحب الندماء لأصبح تومان النديم الأول ,وتومان هذا لايحب احتكاره من قبل جهة واحدة فقط , فهو داعية لسينما الرشيد صباحا معلنا عن فلمها الجديد الذي يبدأ بالمعارك وينتهي بها فلا يستطيع بطله ( برت لانكستر )حتى من تقبيل حبيبته (ايفون دي كارلو )., وعندالظهر , يكون فلم ( لحن الخلود ) المعروض في سينما الحمراء الجديدة ,موضع دعايته ,وتكون دموعه اسخن من دموع ( ماجدة وفاتن حمامة ) , بينما يقلد (فريد الأطرش) مغنيا بأعلى صوته : " انا غنيت بألهامك لحن الخلووووووود " ناهيا بذلك عذابات المحبين الذين حبسوا عواطفهم وآلامهم كي لا تنفجر في هذا الجو الرومانتكي المهيب ,ثم نراه مساءا قد تصدر فريق عمال سينما الوطني , فاتحا صدره للهواء العليل وهو ينادي على محبي الفن الراقي : _ " ذهب مع الريح ولا يبقى غير وجه الكريم , كلارك كيبل في اروع افلامه التي بز بها يوسف وهبي وانور وجدي ، فيفان لي , اموت عليها ، من ينتصر الظلام ام النور ؟ ان الباطل كان زهوقا . " رابطا جملا وحكما غير مترابطة في لغة لايجيدها سواه , وهكذا يلف تومان اهل البصرة حوله وعندما يتأكد من ان عدد الفتيات الجميلات اصبح كافيا ، يسقط مخشيا عليه من الوله و " الغرام الفني " كما يحلو له تسميته ، وهو في سقوطه هذا لايفوت فرصة " التكمكش " التي يجيدها, طالبا النجدة والمساعدة . وقد يزاحمه احيانا احمد الوطن ، صاحب السدارة والسترة العريضة لكن احمد الوطن – وهو لقب اكتسبه من عمله في سينما الوطني – لايملك حيوية تومان ولا فنتازيته الغريبة فأين هو من ملكات تومان التي لاتحصى ؟!

ويشكل الميناء ومحطة سكك الحديد وشركة نفط البصرة ثلاثي الوعي السياسي و الأجتماعي الحديث في البصرة ، وبواسطة هذه المواقع الهامة ,تعرفنا ايضا على العالم الجديد والثقافات والفنون والأفكار الثورية والأنسانية وقد ناد اهل البصرة بالنظام الجمهوري منذ بداية القرن الماضي أيضا ، مع ان بعضهم حاول الأنفصال وتشكيل دولة خاصة بالبصريين ، لكن اهلها الذين ينحدرون من سومر واكد وبابل ، عارضوا هذه الفتنة وقبروها في مهدها ... ..
وللبصرة اعيادها، لكن اهم الأعياد هو نوروز، الذي نطلق عليه اسم الكسلة ، اذ يمتليء شط العرب بالزوارق وتختلط الأجناس المختلفة ببعضها كعائلة واحدة، يتبادلون القبل والتحيات والمأكل والمشرب واحيانا كثيرة يلقون بأنفسهم في خضم النهر العظيم ، فتطفوا زجاجات البيرة والعرق المستكي والأجساد السكرانة من المحبة والنشوة والفرح .
كان في البصرة قبل ان تتدهور حالها في ايامنا هذه ، اكثر من (468) نهرا على الجهة الغربية و ( 165 ) نهرا على الجهة الشرقية، ولاتزال آثار هذه الأنهر التي درس معظمها باقية ولا تحتاج غير الأيدي الأمينة لأعادتها الى الحياة، فقد كانت تسمى الى عهد قريب : بندقية الشرق ( فينيسيا الشرق ).
اما التمور فحدث ولا حرج، فهي تحتوي على (335 ) نوعا من التمور النادرة، وكانت البصرة قبل نصف قرن فقط تحتضن وحدها (26 ) مليون نخلة، اما اليوم فلا يوجد في كل العراق اكثر من ( 9 ) ملايين نخلة .
وقد حكمها اكثر من (327 )عامل و حاكم او والي ومتصرف او محافظ منذ تولي المسلمين حكمها حتى ايامنا هذه .

كان متحفي الأول في البصرة ، هو الصف الأول الأبتدائي الذي زينه الأستاذ خلف ( الأعرج ) كما كنا نسميه لعاهة في رجله اليسرى, والذي.ادهشني بمقدرته الفنية الراقية ، اذ اعتبره الآن من الجنود المجهولين في عالمنا القاسي هذا ، ومن هذا الصف تطور عندي الأهتمام بالرسم ومن ثم الفن .
لاازال اذكر اغاني الفنان طالب غالي في نادي الأتحاد الرياضي ، الذي كان يقيم حفلة اسبوعية لجماهير البصرة بعد ثورة 14 تموز ، كم شدتني تلك الألحان وعلمتني مغزى العواطف الحقيقية لبني البشر، وكذلك حالي مع الفنان حميد البصري ، الذي كان يزورنا في البيت ويعطي دروسه في العود لأخي علي معلمي الأول، اذ يشنفذ اذاننا بالأغاني الجميلة والألحان الخالدة لعبد الوهاب وام كلثوم وغيرهما من مطربي العرب النوابغ .

ساحة ام البروم ، تلك التي تغنى بها السياب في قصيدة رائعة ، لاازال اذكرها جيدا، حيث تقع بارات العرق الى يسارك وانت داخل الى السوق ، خاصة بار (الوردة الابيضاء ) الذي كنت اشتري منه لأبي بهجته المفضلة :- "بطل عرق مستكي عصرية "يوميا . رائحة البارالمسكرة واطباق المزة المتنوعة واللذيذة ، وجوه الزبائن الطافحة بالحبور والطرب والنشوة العظمى ،بائع الشوربة الذي كنا نشاركه الأحاديث والمقالب والطرف. كل هذا لايزال في ذاكرتي ، كانت الساحة سوقا للبضائع الأجنبية القادمة من الكويت ، والدلالون في حركة دائمة والأسعار تصعد وتنزل حسب العرض والطلب ، وفجأة يخرج من احد البارات مطرودا سكير لم يسعفه الحظ في تدبير ثمن ربعية ، فيتزحلق بطين شوارع تلك الأيام الباردة والممطرة التي لاترحم ,تشيّعه اصوات المارة والباعة : -"سكران بالك عنه فلوس العرق مو مّنه " وفي محاولته التخلص من هذا المأزق نراه يلعن المياه والقدر ، كصياد السياب الحزين في انشودة المطر.
كانت حياتي في تلك المرحلة من الغنى والتنوع والبهجة ما تحسدني عليه سائر الشخصيات التي عرفتها في الكتب والقصص او الروايات، مغامر جريء وصاحب نزهات في بساتين البصرة الشبيهة بالجنة ، كان الصديق الشاعر مهدي محمد علي،على حق بتسمية كتابه عن البصرة ب " جنة البستان" , فالبصرة فعلا جنة البستان الذي تغنى به الفنان حميد البصري والفنان فؤاد سالم والفنان طالب غالي اضافة الى رضا علي، اشهر مغنيي بغداد في الخمسينات والستينات في اغنيته الجميلة :-" مركب هوانه من البصرة جانه" والتي اعادتها المطربة مائدة نزهت بعده , اما حضيري ابو عزيز فلا تزال اغنيته : - " احيا واموت عالبصرة , ام التمر والخضرة " تتردد في تلك الأجواء ،وفرقة الأنشاد لاتزال مع الجالغي البغدادي تكرر بستة : - " واكف على العشار يقرا بجريدة ويمشط تواليت حسباله اريده " وتقول التوراة ان جنة عدن تقع عند ملتقى دجلة والفرات ولاتزال هناك شجرة يطلق عليها اسم (شجرة آدم ), محاطة يسور حديدي لصيانتها من عاديات الدهر والشيطان الرجيم...

اهل البصرة اناس مرحون تستهويهم الطرف والملاحة والنصبات الأخوية ، يكثرون من التوابل في طعامهم ويتناولون السمك البحري والنهري على انواعه ، لهم اماكن لهو خاصة وبيوت للمتعة الجنسية قبل تحريمها بعد ثورة 14 تموز ( المجيدة )، وتعتبر بساتين ابي الخصيب اشهر اماكن الترفيه والمتعة البريئة عند اهل البصرة، يضاف اليها غابات الأثل التي تعتبر مقر حفلاتهم الصاخبة ونزهاتهم الربيعية الجميلة .
يعتبر شارع الكورنيش اهم شارع للمحبين والعشاق وبائعي الهوى والغرام ، حيث تنتهي جولتهم في حديقة الأمة وعلى مقاعدها يتبادل المحبون الأشواق ويشرح كل حبيب لحبيبه آلامه، و يحب اهل البصرة ورد الجوري كثيرا، وهو مزروع بكثافة ملحوظة , وبسبب حرارة الجو ورطوبته فأن اهل البصرة اكثر اهل العراق حبا للملابس الخفيفة والقصيرة الخاصة بالنساء وربما اكثرهم انفتاحا وتسامحا في هذا الأمر .
ولسوق الهنود كما يطلق عليه ، ميزة خاصة، فهو السوق الرئيسي لأهل البصرة ، اذ يتبضع البصريون وغيرهم من ابناء العراق الزائرين ما يحتاجونه من سلع وحاجات وفيه المكتبات المهمة والمحلات التجارية المختلفة ,والمخازن والمقاهي والمطاعم التي تقع عادة في الشوارع الفرعية , يكثر في هذا السوق باعة التوابل من الهنود و الباكستانيين وغيرهم من اصحاب المحلات المشابهة .
في هذا السوق شخصية مهمة ، هي : (قدوري الأعمى ) وقدوري هذا يبيع بطاقات اليانصيب لكنه يذيع ايضا نشرة الأخبار بطريقة مدهشة ، اذ يحفظ الأخبار من الراديو وينقلها الى المارة مباشرة ، مضيفا اليها رأيه الخاص حسب مزاج الوضع العام في السوق .
في العهد الجمهوري ، الذي اصبح اكثر جدية وجهامة من العهد البائد ، تلاعب الضباط الجهلة بالعراق كما يلعب عمو بابا بالكرة ، لكنهم لا يحرزون الأنتصارات مثله ولايحسنون التهديف الا على الشعب الأعزل ، كان عهدهم عهد خراب ، اذا ما استثنينا ايام تموز الأولى وهذا رأي شخصي ، قد لايعجب الكثير ، ولم يجد في هذا العهد حتى غازي الرسام ، مؤسس فن الكاريكاتيرالحقيقي في العراق ، موقعا لرسومه الرائعة في صحفه المتجهمة ، وفقدنا ذلك الألق المضيء, الذي كان يتملكنا .
عاث الحياني، محاقظ البصرة في عهد عبد السلام عارف بالبصرة ، فهدم شناشيلها الجميلة والمطاعم والقاهي المطلة على نهر العشار، ليقتح شارعا بأسمه ، وأزيلت ساعة سورين التي اخذت اسمها من مصور شمسي ارمني ، كان يجلس تحتها، اذ كانت كديك الصبح لنا او صوت المؤذن للمصلّيين ، وهي تشبه ساعة القشلة ببغداد وبك بن في لندن ، وغاب فندق الميناء الذي كان مقرا للحاكم البريطاني في بداية الأحتلال كما قيل ، وضاع تراث جميل يعود معظمه الى الفترة العثمانية المتأخرة ، وفقدت ابينة اثرية لاتعوض، اما حروب النظام العراقي السابق - الذي لايشبه الملكي ولاالجمهوري ولا حتى القرقوشي . فقد اتت على ما تبقى من بصرتي الأولى , ولااعلم ان كنت سأجد فيها موقعا عندي له ذكرى او حدث لو عدت لها الآن ؟! .
يقال الآن ان البصرة فقدت بريقها ورونقها السابق واصبحت مثل المدن المقفرة التي نشاهدها في افلام رعاة البقر ، حيث تدور فيها الرياح وتتدحرج الأشياء بدون هدف ويخيم عليها الصمت المريب و الدم والدمار.
فهل نحن في حاجة الى شخص مثل الراحل سليمان فيضي ؟ ! الذي اتمنى ان يطول العمر بي لأعمل له تمثالا في وسط ام البروم او على الكورنيش ، عرفانا لجهوده التي بذلها لتأخذ البصرة موقعها اللائق بها في عراقنا الحديث والذي اسس فيها عام 1909 اول جريدة ناطقة بالعربية اطلق عليها اسم :- ( الأيقاظ ) واول مدرسة للبنات ومدرسة للأولاد ، واول مركز للأيتام ، واول دار للعجزة ، واول من قام في الدعوة لبناء مستشفى فيها وتبرع لها ، و اول من كتب رواية عراقية عرفها القرن العشرين ، هي :- (الرواية الأيقاظية )، واول من اسس مكتبة عامة للجمهور، ووضع المشاريع الأروائية لها لحمايتها من الفيضانات المتكررة ، وكان شعاره الأثير( اليقظة ) ، فسمى كل مشاريعه بهذا العنوان النهضوي الطموح.