| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

فيصل لعيبي

 

 

 

 

الأحد 22 /7/ 2007

 

 


أبو جناس


فيصل لعيبي

قبل سنوات وفي أمسية شفيفة والكأس في اليد اليسرى كالعادة , رن الهاتف في الغرفة فنهضت متثاقلا ومتبرما وأنا أحاور نفسي على وزن من الهاتف الداعي ؟ وعندما رفعت السماعة عرفت أن أبا جناس هو الداعي وبعباراته التي تتخللها لغة تقدير عالي للمبدعين من أبناء العراق تعلمها من تقاليد راسخة معلنا لي بأن الدعوة ستوجه إلي لحضور احتفال خاص بالشاعر الكبير سعدي يوسف , وما علي إلا أن أوافق , لكني وبحاسة نادرا ما تخطيء , سألته بعد فترة عن المدعوين الآخرين فذكر لي من بين ما ذكر أحد الذين وجهت إليهم وبما أني املك ما يسمى بالضمير وحرية الاختيار , أبلغته بعدم حضوري بسبب هذا المذكور أعلاه , حاول أبو جناس ثني عن موقفي لكني صارحته بالأمر فرضخ له مع شتيمة محب لأخيه . ثم انقطعت أخبارنا ما عدا دعواه المتكررة لإصدار المجرشة ثانية , حتى على ورق " جياسه " حسب تعبيره مبررا دعواه تلك ب " هذا وقتها ". ثم دارت الدنيا دورتها فرن مجددا هاتفي وكان الداعي أيضا أبو جناس وقبل أن افتح فمي جاء صوته وبضحكة يعرفها محبيه, قائلا : " عبالك خلصت ؟ " ضحكت وقلت قبل أن اعرف الموضوع أنت تأمر , فأجابني وبضحكته تلك :- انتو أهل البصرة تعرفون شلون تخجلون الواحد لكن هالمرة آني أأمرك بالمجيء وكل عذر غير مقبول وخاصة المناسبة هي أربع طعش تموز فلا تتفلسف عليّ تره آني دا اتكابح من أجلك . فلم يكن مني إلا الاستسلام , أمام كرم ( أبو جناس ) . وضعت السماعة ورحت أتذكر أول لقاء لي مع هذا الإنسان الخلوق والمتواضع حد الخجل . يومها كنا في بلد المليون شهيد بل ملايين الشهداء , الجزائر الجميلة , وكانت أوضاعنا لا تفرح الصديق ولاتحزن العدو وكانت الجلسة في بيته وتعرفت وقتها على سيدة البيت أم جناس وعلى الأولاد وما أجملهما , وقتها رأيت عراق المستقبل في وجوههم ووجوه أولاد أصدقائي الآخرين – الشاعر المتمرد عزيز السماوي , أبو كمال , أبو حسام , أبو سعد , أبو عبير والآخرين - وجوه تفكر بواقعية ووضوح اكثر منا وأحيانا يتغامزون فيما بينهم على طريقة تفكيرنا التي لم تكن تنظر للحياة كما يجب .
كان أبو جناس كعادته يقطع أحاديثنا مرة بالغناء ومرة بنكتة أو (فشورة مؤدبة - مال معلمات ) كما يقول , بيته آنذاك كان نظيفا جدا حد الخوف من أن تحرك ساقك بدون قصد في اتجاه قد يحرج أبو جناس أمام ربة البيت الدقيقة والمنظمة جدا , كان ذلك في نهاية الثمانينات على ما أتذكر وفي بيته في ولاية سطيف , بعدها زارنا في عنابة مع العائلة , وتمتعنا بحكاياته وقفشاته وادبه الجم أيضا , وعندما ودعناه همس في اذني قائلا : بربي انتو الفنانين على رأسي . لاتهتمون بترتيب البيت ولا تخافون من الخربطة ولا النسوان .
في تموز ، قبل أعوام ، وحسب الإتفاق وبمناسبة 14 تموز أيضاً ، كان أبو جناس حاملا أزهاره التي لا تذبل مستقبلنا بفرح طفولي لا يوصف وعانقني هامسا : هله بمدير الجرش في السويد بس بالعظيم إذا سويت مشاكل أنسفرك للعراق مخفوراً . ضحكنا ضحك طفلين معا وسرنا فسبقنا المارة .
كانت ثورة الرابع عشر من تموز بالنسبة لأبي جناس بداية ولادته وظل يردد حكاية تلك اللحظات التي رفع خلالها على الأكتاف ليهتف للثورة ، تحت باب وزارة الدفاع بالذات , وهو الذي كان قبل أياما منها مختبئا في أحد البيوت .هاهو الآن والأزهار بيده وجبينه العالي وبراءة نظراته التي تفضحه عندما يحاول أن يكون جديا .

لنترك هذه المناسبة لمن هو اقدر مني في الحديث عنها ودور أبى جناس فيها ولأحدثكم عنه ككاتب في المجرشة ومدقق وناقد لها بحرص المتضامن ومسؤولية الصحفي , والحقيقة أن الحكايات التي قيلت عن المجرشة من خلال الهاتف واللقاء بكثير من الأصدقاء ، تحتاج إلى كتاب ربما يسعفني الوقت لتسجيلها يوما ما – مع أن الصديق فائق بطي لم يكن منصفاً عندما كتب عنها في كتابه ( الصحافة العراقية في المهجر) وأستمد معلومات خاطئة من غيري دون أن يكلف نفسه حتى طرح بعض الأسئلة على مديرالجرش الذي كان يلتقيه دائماً مع الأسف الشديد، وفيما يتعلق الأمرثمن صف الحروف فقد كان فائق بطي على الغالب حاضراً عند دفعها عداً ونقداً الى صاحب المطبعة الذي ذكر بأنه كان يصفها دون ثمن ، كما جاء في المقاطع التي كتبها عن المجرشة - .نعود الى أبي جناس وهو يقول :- فيصل هاي شنو ما تجوز من سوالفك ؟
أرد عليه- : لازم نحدث الرجة ونكسر الهيبة الكاذبة والمقدسات المزيفة .
فيرد علي: - لكن أنت رايح زايد .
“وهل الذي ضحى به الشعب قليل يابوجناس ؟: -
: - حقك بس يعني
وهكذا مع كل عدد يصدر من المجرشه , يسجل أبو جناس موقفا واضحا منها وداعما لها بمقالات ذات اسلوب ميزه عن غيره ولغة تذكرك بالبديع والطباق والجناس وهو ابن المدينة العريقة في الأدب والثقافة والإيداع .
كان أحيانا يرسل رسوما وخطوطا وزخارف بكلمات لاتذكر إلا العراق وناسه والحنين إلى تلك المرابع.
يقال انه عند سماعه إعتقال الجرذ صدام حسين لم يتمالك مشاعره فأطلق هلهولة مدوية وهو الرجل الخجول والمرهف , هل كان ينتظر هذا اليوم ليودعنا مطمئنا ؟
هل هي اللحظة التي كان يخاف من عدم حدوثها وهو على قيد الحياة وبسبب علمه - وهو العالم الجليل - بمرض السكر الذي ينخر جسده النحيل فما أن حدثت فكل الأمور بعدها تهون ؟
في لقائنا الأخير في لندن منتصف شهر تشرين أول ( أكتوبر ) قبل أعوام أيضاً ، وبدعوة من الأخ هشام الديوان لعرض بعض ما يعرفه في موضوع هندسة الجينات ,أراد أن يلتقي بالجالية العراقية ويحدثها عن هذا الموضوع لكن الظروف وقتها كانت ليست لصالحه , سهرنا معا قبل سفره بليلة وتحدث عن طموحه للعودة للعراق وخدمة الوطن والمشاريع التي تشغل تفكيره وتعاهدنا على إبقاء الاتصال فيما بيننا , وكان آخر اتصال هاتفي بينه وبيني هوبعد ثلاثة أسابيع من لقائنا الأخير، عندما طلب مني صورة لغلاف مجلة النادي وكذلك مقالة : " من هاي اللي ما تريدهه " حسب تعبيره المغلف بنكهة الظرف والطرافة اللاذعة مثيرا فيّ الشعور بالمسؤولية التي يجب أن نتحلى بها نحن معشر العاملين في حقل الثقافة .
هل سيكون هذا المقال هو آخر مقال يطلبه مني العزيز أبو جناس ؟
قطعا لا .فرغبته هذه هي أمر دائمي ملتزم به كل ما تطلب الأمر ذلك ..
سيكمل الذين تعاهدت معهم من اجل حرية الوطن وسعادة الشعب طريقك أيها الغالي , وسيحمل المهاجرون في عودتهم جثمانك مع بقية الأحباب الذين فارقونا قبلك , فحتى نلتقي هناك , ليضع أحدهم وردة الجوري بدلا عني على ثراك الطيب .