| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

فيصل لعيبي

 

 

 

 

الأربعاء 1/8/ 2007

 




الحرب والفن


فيصل لعيبي صاحي  *

تبدأ الحكاية من فن العصر الحجري , عندما أخذ الأنسان يبحث عن قوته ,وهذا ما أنعكس على رسومه آنذاك حيث السهام الموجهة الى اجساد الثيران والخيول والحيوانات الأخرى .ثم جاءت الحضارات الأخرى لتسجل تأريخها الحربي بملاحم لانزال مندهشين لروعة الأعمال التي صورتها , كيف تسنى لفنان تلك العصور هذا الشعور القوي الذي اضفاه على اعماله لو لم يكن مؤمنا بعدالة الحرب او لاعدالتها ؟
ثم انتبهت الى الفنان الآشوري الذي كان ينقل مشاعره المعادية للحرب, من خلال تصويره آلام الأسود التي تعاني سكرات الموت جراء الحراب الملكية التي مزقت احشاءها , وهو يستنكر موت هذا الكائن البهي في معركة غير متكافئة بين الملك المدجج بالسلاح واعوانه وحراسه وعبيده وبين الأسد الوحيد امام هذا الحشد المسلح الذي يريد اغتياله .لم يكتب احد كالمبدعين عن معاناة الضحايا ولم يعبر عنها احد مثلهم , لأن المنتصر يكتب انتصاراته والضحية لم يتح لها الوقت لتسطر معاناتها او تشرح الجريمة كما وقعت حقا وليس كما وصفها القاتل .
حروب الطغاة كثيرة لا تعد او تحصى وهي دائما حروبا ظالمة , يذهب ضحيتها الأبرياء والعزل والمكرهين على خوضها بالقوة ,وقد رافق الفن هذه الحروب وسجل احداثها بدقة وحرص على عكس نتائجهاالوخيمة والمدمرة للجهود البشرية في سعيها نحو البناء والرخاء والتقدم .
الموت والحياة و الحرب والسلام , واذا كان ثمة موت حق فهناك ثمة حرب حق ايضا ,لكن هناك سلم باطل وكذلك حياة باطلة ,. لقد ظهر هذا في الفن ايضا فالفنان الذي يمجد حربا ما حتى لو كانت عادلة ا نما يعكس وجهها الآخر ايضا و عندما يصور المنتصر يكشف عن الخاسر فيها كذلك, ولما كانت الحرب خدعة كما يقول دهاتها وبما انها استمرار للسياسة بطرق اخرى فالسياسة هنا تصبح خدعة ايضا حسب هذا المنطق, ماهو الموقف الصحيح اذن ؟
عندما صور الفنان الفرنسي الكلاسيكي لوي دافيد في لوحة ( التتويج ) وفيها نابليون وهو يضع التاج على رأس جوزفين زوجته بدلا من البابا الذي جلس خلفه بنظراته التي لاحول ولا قوة لها انما هو ينبهنا الى ميلاد طاغية دون ان يترك اثرا لأدانته , لوحة مليئة بالفخر والأستعلاء , لكنها ايضا تكشف آلية دولة نابليون القادمة , دولة الحرب والدمار والكوارث , فلم يسقط نابليون بأقل من مليون فرنسي وبأضعافهم من الأوربيين من ضحايا حروبه وطموحاته التي ليس لها حد .وهذا ما جرى مع الفنان الأسباني فرانسيس دي كويا عندما تصدى في عمله الشهير ( الأعدام في الثالث من مايو عام 1808) الذي صور وحشية الغزاة الفرنسيين وهم يطلقون النار على الأهالي في اسبانيا , لم يكن مثل كويا فنانا اوربيا ادان اللاعقل والجنون الذي يحيط اوربا في ايامه , اذ صور حتى اساليب التعذيب وسجون الأنظمة وخاصة دكتاتورية اسبانيا رابطا المآسي بالتقاليد والخرافات المهيمنة على مجتمعه انذاك , لقد سجل لنا احداث قرن من الخراب والفوضى والجنون الذي كان يحدث امامه مع ان الثورة الفرنسيةكات الحد الفاصل فيه.اذ بدا و كأن العقل والقلب في انسجام في تلك اللحظة الفريدة وتحولت الفلسفة الى عمل سياسي وامتزجت التقاليد اللاتينية الثورية مع القكر الجرماني والسكسوني العقلاني الطابع , ثم جاء ت الرومانتيكية روح الثورة الفرنسية الحقيقية وظهر يوجين دولاكروا ليعكس في اعماله ليس فكر الثورة فقط بل حق الشعوب في التحرر من الطغيان وتضامنه بشكل خاص مع اليونانيين ضد الدولة العثمانية , واندفع الشاعر الأنكليزي اللورد بايرون نحو المساهمة الفعالة في الحرب الى جانب الثوار في اليونان ضد استبداد العثمانيين ., فالغالب والمغلوب هنا يكشفان عن موقف الفنان الحقيقي من الحرب رغم ان الفنان هنا يقف مع المنتصرربما لكن اللوحة تقول قولها الخاص بها بعيدا عن رغبة السلطات المتحاربة او المنتصر والخاسر , انها ببساطة تعكس المأساة وهذا احد وجوه الحقيقة التي تعكسها الأعمال الفنية الأصيلة .
كان بيكاسو آخر العمالقة في اوربا والذين عالجوا الحرب في اعمالهم , وسجل موقفه منها كما يمليه عليه ضميره : وحشية المعتدي وعذابات المعتدى عليه , وكانت صورة الحمامة التي صممها لمؤتمر السلم العالمي الذي عقد في باريس بعد الحرب العالمية الثانية , نداءه الأخير للبشرية لدرء مخاطر الحرب وعواقبها, كذلك كان فنانو المكسيك الكبار امثال ريفيرا وسيكيريوس وفريده كاحلو , اضافة الى فناني العالم الديموقراطيين اجمع , الذين ادانوها ونددوا بها .
و شاعرنا العربي القديم زهير بن ابي سلمى يصف الحرب ببيت من الشعر وهو على بساطته واختزاله يكشف عن شرها المستطير اذ يقول :

             وما الحرب الا ما علمتم وذقتم         وما هو عنها بالحديث المرجم

انها الكارثة والأمر متروك لكم هكذا كالبداهة والمكاشفة والوضوح يسجل هذا الشاعر موقفه منها , لم يكن المبدع مع الحروب لأنه يحتاج الى متسع من الوقت والأستقرار لينتج ثماره التي لاتزهر في الحرب الا نادرا .

تعتبر لوحة الفنان العراقي الرائد عبد القادر رسام التي تمثل طائرة فوق ملوية سامراء اول عمل عراقي وربما عربي يصور آلة حربية, طائرة فوق سماء العراق ( مرسومة عام 1919 على ما اظن ), هل هي احتجاج على السيطرة البريطانية ؟ لاعلم لي بذلك لكنها تكشف موقفا ما انها بمعنى آخر مرحلة جديدة في حياة العراقيين , لماذا الملوية ؟ هل هي صرخة الفنان بعد ان ظهر الكفار على حدود دولة الخلاقة الأسلامية كما يحلو ا للسلطان عبد الحميد وبطانته ان ينعتوا دولتهم وهو احد ضباطها ؟ لاجواب ملموس او جازم, ويجب الأشارة هنا الى الفنان المصري الكبير النحات محمود مختار واعماله الرائعة عن الشعب المصري وخاصة عمله المهم: ( نهضة مصر ) بعدها الفنان جواد سليم الذي اهتم بهذا الأمر منذ الأربعينات واعطاه قيمته من خلال تطوره الخاص , وظهر الجانب الوطني بوضوح بعد ذلك لدى مجموعة هامة من رسامي العراق البارزين : محمود صبري , فائق حسن , شاكر حسن آل سعيد ,كاظم حيدر ,محمد غني حكمت , محمد مهر الدين , حميد العطار , ضياء العزاوي , ماهود احمد , صلاح جياد , هادي الصقر و وليد شيت وآخرين شقوا طريقا لهذا الأتجاه بالرسم العراقي المعاصر وخلقوا تقليدا راسخا في الموقف من الحرب والنضال ضدها .وكانت حرب السويس والمقاومة المصرية الباسلة للعدوان الثلاثي ومن ثم اعمال الفنانين المصريين والعرب عنها قد عمقت الوعي واعطته طاقة ضرورية واساسية .
ثم اعمال جواد سليم خاصة بعد تعليق نصب الحرية وسط اكبر ساحة في بغداد و اعمال محمود صبري التي اخذنا نهتم بها وظهر سؤال علاقة الرسم او الفن بالمجتمع والصراع الدائر فيه, كان الألتصاق بهموم الناس يدفع الفنان العراقي الى تناول مواضيع مختلفة نوعا ما و كان الموضوع الذي يتعلق بالأنسان هو الطاغي على اهتماماته, وبسبب تعقد الوضع في العراق فأن الجانب المأساوي او الملحمي ان شئتم اخذ حيزا كبيرا من المساحة المفروشة امامكم اليوم من اعماله.
بعد حرب الأيام الخمسة مع اسرائيل وانكشاف زيف الشعارات العربية والأعلام العربي وخاصة القومي منه , بدأت الصورة تأخذ ابعادا أخرى , وأثيرت أسئلة جدية بعد ان اثبت الوضع العربي هشاشته ,فصارت القوىوالأحزاب السياسيةالمعارضة و المقاومة الفلسطينية رمزا لكسر الجمود العربي الرسمي وايجاد جوابا للأزمة برمتها , وكانت الأعمال الفنيةالمهتمة بهذا الشأن في تلك الفترة لاتتعدى هذا القوس, قوس مليء بالوعود والأحلام وزاخر بالأماني والتطلعات لكنه كان يقف على اسس لاتختلف عن اسس الأنظمة العربية نفسها , لم تطرح تلك الحركات والأفكار مفهوما للمجتمع المدني ولا حاولت اعطاء تصور ما لمستفبل المنطقة على مستوى الحقوق والواجبات ولم تحترم الرأي الآخر والمخالف وكانت ايضا صورة معكوسة للنظام العربي العام ,أي الوجه الآخر للقمع فتوالت الأنهيارات , قمع الحركة الكردية والقوى الوطنية ثم الحرب العراقية - الأيرانية و غزو الكويت , وها نحن امام حرب ما تسمى بتحرير العراق , اضافة الى صعود المد الأصولي المتطرف و لا يعلم احد منا الى اين ستأخذ المنطقة كل هذه التداعيات وكيف سيعالج الفنان هذه المذابح ؟


 * رسام عراقي