| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

فيصل لعيبي

 

 

 

 

الأربعاء 18 /7/ 2007

 

 


رشدي العامل
شاعر البهجة والوحدة والرماد


 فيصل لعيبي

ليس هناك شاعر عراقي يجمع هموم الوحدة ، كالشاعر رشدي العامل .. شاعر حقيقي ، يحمل فوق كتفيه، تلك اللعنة التي رافقته حتى دروبه الأخيرة .
في مقالة من مقالاته التي كتبها في الذكرى العشرين لثورة 14 تموز في جريدة " طريق الشعب " نراه يتمنى عودة تلك الصحبة والألفة وروح الإبداع ،التي كانت سائدة حتى الستينات (1951 – 1960 )، حين تجمع عدد من الموهوبين والمبدعين وكونوا تجمعاً ثقافياً، أسموه " أسرة الفن العراقي " وكان رشدي أحد مؤسسيها . لقد هدف هذا التجمع الى جعل الفن والأدب "لصيقا ًبآمال وألام شعبنا ومستوحى منه ". ربما كانت تلك المقالة إشارة من رشدي للشعور بالوحدة التي بدات تتسرب الى حياته . وقد تكون نداءً للألتفاف حول ما تبقى من روح الشعر والشاعر والخلق بعد أن غزت حياتنا وإنتاجاتنا ( مافيا ) السياسيين الفاشلين. وبعد ان اصبح كل شيء خاضع ل (الديناصور – البيروقراطي )الذي برز على يمين ويسار المبدع .
وهي كذلك شكوى من الفراغ الذي أحاطنا جميعاً. ويعبر ( أبو علي )عن أمله في عودة " أخوة المهنة " أخوة " الصنف " الأخوة في الأبداع ، في نهاية تلك المقالة عندما يذكر " جماعة المرفأ " وكيف تفرقت ثم تمنياته بعودتها وإجتماعها حول شمعة توقد وباقة زهور تتوسط الجلسة .. ومنذ تلك الأيام ،أصبحت الذكريات ، احلى من الواقع ، بعد ان غطى وجه العراق القار والوحل ورماد الأشياء ،هذا الواقع المليىء بالفواجع والإنهيارات والتقهقر وسطوة الفساد .
أن رشدي العامل واحد من شعراء العراق الذي شبوا على الشعر الإجتماعي ، الذي بدأه الرصافي ، شاعر الشعب الأول ، أولئك الشعراء الذين وضعوا قضية الشعب والوطن والطبقات المسحوقة كأهم موضوعة يجري حولها نهر الشعر الفياض . كانت النظرية الثورية (الفلسفة الماركسية –المادية العلمية والتاريخية الجدليتان ) قد وجدت طريقها إليهم بطرق مختلفة .
كان الرصافي ، عن حق ، اول من أدرك دور العمال في الحياة المعاصرة . فقد ألقى في عام 1933 قصيدة هامة في إحتفال جمعية عمال الميكانيك ، قال فيها :
كل ما في البلاد من اموال ليس إلا نتيجة الأعما ل
أن يطب في حياتنا الإجتما عية عيش فالفضل للعمال
وقد ردد الجواهري بعد أكثر من ربع قرن كلمات الرصافي في قصيدته التي القاها في ستينيات القرن الماضي والتي يقول فيها : -
بكم نبتدي وأليكم نعود ومن سيب أفضالكم نستزيد
فبين الرصافي والجواهري يتجمع عدد غير قليل من شعراء الشعب المهمين .. شعراء مبدعون ، حقيقيون ، شعراء أسسوا عالمهم تحت وطأة الإرهاب المنفلت وإنعدام القيم وكان رشدي أحد هؤلاء ، وربما اكثرهم تأثراً بذلك الجو المقبض . لهذا جاء شعره مرتعشاً . ... فيه خوف وحذر وشعور بالمستحيل . وأرتبط شعر هؤلاء " الغاوون " بالسياسة التي أصبحت مادة شعرية بالنسبة للكثير منهم ، ولكن ليس بالطريقة الفجة أو الإصطناعية ولا حتى على أساس الحماس ، رغم شرعيته هنا ، لكن بسبب قناعة هذه الأجيال بأهمية هذه المادة الضرورية في شعرهم . لقد أوضح الشاعر سعدي يوسف هذه المسألة في مقابلة له في جريدة الفكر الجديد العراقية قائلاً : " في تلك الفترة كنت أقرأ لشعراء تقدميين أوربيين واقول لنفسي أن هؤلاء استطاعوا أن يخلقوا قصيدة تقدمية عالية المستوى . بالنسبة لنا نحن الشعراء العراقيين - بإمكاننا أيضاً ان نكتب قصيدة تقدمية من نوع جديد "
1 .
في قصيدة لرشدي باسم : " قلبي على شفتي "
2 نقرأ : -
أنا هكذا أمضي وملء جوانحي
أمن وخوف
إن سدت العثرات دربي
لاأميل ولا أسف
الخوف إذن هو عالم هذا " الشاعر النشوان " ولكنه خوف واع ولن يدفعه الى ترك قناعاته وافكاره أو آماله . ورشدي من شعراء الحياة البسيطة اليومية والعادية .. عاشق من نوع مختلف ، يعيش حياة قلقة وعالمه غير متوازن ومتناقض جداً . ولا استطيع الجزم في دور رشدي ومشاركته الفعلية في تأسيس القصيدة العربية الحديثة والتدوير أو قصيدة النثر، التي ، نسبت الى الراحل حسين مردان، فقراءاتي للأشعار لاتجعلني أميل الى هذا الظن .
كانت مشاكله أكبر من مشاكل الشعر وحده ، وهذا نصيب عدد غير قليل من مبدعي العراق المرموقين، من الذين وجدوا انفسهم في احضان حركات اجتماعية و سياسية تنحو نحو تغيير العالم ، والتي ارهقت انصارها ومناضليها من المثقفين والمبدعين باجتماعات ومهام حزبية ونقابية ومشاكل - ليس لها علاقة بالإبداع ولا الثقافة – فضاع وقت ثمين وجهود لاتقدر، كان يمكنهم أن يبدعوا خلالها أجمل صنوف الإبداع والخلق والجمال. وقد أثبتت تجربة نصف قرن ان هذه الإجتماعات كانت ، عموماً ، بلا معنى وأظهرت الأحداث أن علاقتها بتغيير العالم مثل : " علاقة الكبة برأس الجسر " .
واليوم إذ نتذكر هذا المبدع ( الضحية ) علينا أن نقول بكل شجاعة بأن عهد " تسييس الثقافة " قد ولى الى غير رجعة ، وعلى المثقفين أن يقلبوا المعادلة بالقيام بدورهم الطليعي ( الهام جداً )
3 الا وهو : - " تثقيف السياسة " ونحن نلقي أحّر الكلمات وأجمل الأزهار على جسد الشاعر , علينا أن نتذكر تلك المجاميع المبدعة التي ألقت بها المقادير "بعيداً عن السماء الأولى " وشطت بها الأيام الى مواجهة مصائرها وحيدة ، ولكنها لم تتخل عن دورها التنويري الثوري والطليعي في ليالي العراق الدامسة والتي لايبدو لها نهاية ، هؤلاء هم من يجب الإلتفات أليهم ، قبل أن يصبحوا ذكرى وأثر ليس غير في زمن الجحود هذا .
في قصيدة " الصمت " والمهداة الى صديقه الراحل الفنان يحيى جواد ، يقول : -
من يعرف إنسا ناً
يضحك في غاب الأحزان
يترك في السفح ، إذا غادرحبه
يزرع في الحقل جبيناً
في البستان يواري قلبه
من يعرف إنساناً يعرف دربه ؟
صدقني ، او كذب ضوء عيون يايحيى
فأنا – الميت بين الأحياء
انا الحي أسير ، ويسأل دربي الخطوات
سفني تبحر، ألا تعيا
لاصارية، لا أشرعة ، ولا ربان
وحدي مثلك ، مائي الصبر
وزادي ملح الأحزان
أنت تدري ، طريقنا مستحيل
هاك كفي
فأين أين السبيل ؟
نحن صنوان ياصديق جراحي
ظللتنا سحابة ونخيل
نشرب الصمت في العيون سراباً
ونرى الضوء آن يدنو الأصيل
صبحنا مر ، والليالي طوال
غافيات ، وفجرنا مقتول .
كم هي مرارة هذا الشاعر الحساس والمرهف ؟
انها قصيدة رشدي التي تميزه ، مرارات والم وضياع الآمال والأحلام وتعميق لمأساة المثقف الواعي وهي مأساة خاصة وعامة معاً ، ضياع بيته وغياب أصحابه وإنهيار عالمه الذي رسمه مرة فوق مناضد الرفاق والمحبين الذين تفرقوا في زوايا العراق والمدن البعيدة والمنافي الخاوية حيث العالم يعيق الأحلام ويدفن الحالمين أحياءً .
ان أشجان رشدي وجيله كثيرة وصبواتهم لاتعد ،لكن لامعقولية الوضع العراقي قد إنعكس على الإبداع ، وأصبح الغموض الذي رافق إنتاج المبدعين ، أكثر وضوحاً في الحياة نفسها وأصبحت لامعقولية الحياة طبيعية في عالم منقلب الموازين،وتبدو لي أن مأساة رشدي قريبة من مأساة صلاح عبد الصبور الشاعر الأخاذ والشعبي الأصيل وأبن النيل الخالد، كلاهما مر بأزمة ليست شعرية فقط، بل حياتية ،فكرية ووجودية ، كلاهما خرج خالي اليدين،واتجهت الأنظار الى غيره، كلاهما كان نبيلاً في شعره وتضرب الفجيعة قصائده عمودياً فساد الحزن والوحدة أجواء عوالمهما.
برز جيل رشدي كنقيض لجيل الشعراء الجماهيريين ، والشاعر الحماسي، الذي كان يتسلق سلّماً خشبياً أو يطل من نافذة أو يقف خلف منصة الخطابة أو سطح بناية وحتى ملعباً رياضياً أحياناً ليلهب الناس ويحملها على التصفيق والهتاف ، كما كان حال الرصافي ، الجواهري وغيرهما من شعراء العراق البارزين ، رغم رؤيتهم المشتركة في الموقف الإجتماعي ، فشعر رشدي مكتوب ليقرأ وليسكن الكتب التي توضع داخل جيوب القراء المتفرقين هنا وهناك ، تلعب الصورة والفكرة والنظر دوراً هاما تشعر فيه وكأنه مكتوب لك وحدك ،تستطيع وضعه تحت وسادتك ، ويقرأ في أوقات شفيفة وبلغة هامسة وطرية ، فيه من التأمل والأسئلة ما لايقدر الشعر الجماهيري على التعاطي معها ،إذ ينزوي دور الأذن وتتضح الصور والأفكار ، لايحتاج الى مذياع وساحات عامة ولاحتى جماهير ، شعر يحاور ويهمس ولايصل مداه الصوتي أبعد من جدران الغرف التي يتردد داخلها ، فهو يشبه موسيقى الغرف التي عرفتها أوربا في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، ولا يحتاج الى أكثر من جو هاديء ، حزين وقابل للإمتداد كالليل نفسه، شعر يشبه الأزهاروالألوان والروائح ، يغلب الخريف على أجوائه ويتشح بالجلال . وشعر رشدي بسيط ومتواضع في كل شيء، عدا روحه العالية والعميقة ، وكان يكفيه أن يستمع إليه بعض الأصدقاء لتزدهر روحه ، ولم يظهر عليه إهتمام ملفق بالحداثة الكاذبة التي يحاول الكثير اليوم من كتّاب الشعر إدعاءها ، كما لم يلتفت الى التقنيات التي كانت تأكل روح القصائد المنشغلة بها ،ولم يزاحم " أبو علي " أحداً في موقع شعري وقد خط مربعه على الأرض وحدد المساحة التي يحتاجها بصمت ، تاركاً للخمرة دبيبها والغسق لونه البرتقالي والروح إمتداده اللانهائي . كتب مرة لصديقه الأثير الفنان يحيى جواد قائلاً : - من المؤكد أن القدرة على الإختيار مهمة صعبة في الأزمان الرديئة ، انها تتطلب وعيا ًعالياً وإرادة وثباتاً تحصن صاحبها وتدرأ عنه كل احتمالات النكوص المرير . أي أن الفنان يكوّن مع نفسه وعندها وداخلها ، نسغ حياته موهبته وما يرافقها من ثقافة وإدراك – أنه يبدو مكتفياً، أشبه بالناسك الذي لا يعبأ بشيء سوى هاجسه الذاتي. قرأت مرة أن سقراط كان يسير في أحد شوارع أثينا متطلعاً الى ما تضمه المخازن من سلع وبضائع ، متسائلاًعن هذه البضائع أو تلك .. وأخيرأ هتف : - شكراًأيتها الالهة فما اكثر الأشياء التي لا يحتاجها سقراط !!! .
ترى هل كان رشدي يتكلم عن نفسه ؟؟؟؟


1- "الفكر الجديد " : من الشرارة الأولى .. حتى الليالي كلها " ص4 ،5 ، 14 لاأملك رقم العدد ولا تاريخ الإصدار، أجرى الحوار ياسين النصيّر وسامي محمد .
2 - "الفكر الجديد " : من قصائد نهايات عام 1978 .
3- نظر معظم المثقفين سابقاً الى موضوع العلاقة بين السياسة والثقافة بطريقة خاطئة، مع الأسف وساهموا بهذا القدر اوذاك بتكريس ذلك الوهم ولا أبريء نفسي من هذا الفهم الخاطيء، لتلك العلاقة .
4 - مجلة " الأقلام " : العدد السابع ص 122 تموز 1988 و القصيدة مؤرخة بتاريخ كانون الثاني 1987 .
5 - نفس المصدر ، ص 118 .