| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

د. فارس كمال نظمي
fariskonadhmi@hotmail.com

 

 

 

 

الخميس 17/6/ 2010

 

الشيوعيون والصدريون...
وخيار "الكتلة التأريخية"

د. فارس كمال نظمي

طرح المفكر الإيطالي المبدع "انطونيو غرامشي" (1891-1937)م مفهوم "الكتلة التأريخية" مقترحاً قيام تحالف بين قوى الإصلاح من ماركسيين وليبراليين في شمال ايطاليا المتقدم صناعياً، والقوى المسيحية المسيطرة على جنوب ايطاليا المتخلف اقتصادياً، سعياً لنهضة شاملة تحقق الوحدة الإيطالية. ثم تلاقف المفكرون والسياسيون فيما بعد هذه الأطروحة تعضيداً ونقداً.

وتعدّ "الجبهة الساندينية" التي حكمت نيكاراغوا (1979-1990)م من أبرز الأمثلة المعاصرة لمفهوم الكتل التأريخية، إذ نشأت في الأساس في بدايات ستينات القرن الماضي من تحالف قوى اليسار الماركسي مع المسيحيين المدعومين من الكنيسة، ونجحت بكفاحها العسكري والسياسي في إسقاط نظام "سوموزا" 1979م المدعوم من المخابرات المركزية الأمريكية. فالأب "ارنستو كاردينال" Ernesto Cardenal مثلاً، وهو من أبرز الزعماء المسيحيين في الجبهة وحاصل على جائزة نوبل للآداب وشغل منصب وزير الثقافة في الحكومة الساندينية، طرح فكرة أن الثورة لا يجب أن تكون دينية صرفة كما فعل "مارتن لوثر"، بل تحدّثَ عن اندماج المتدينين الثوريين بالماركسية، وتوقع ان الكنيسة ستشهد في المستقبل صراعاً طبقياً يؤدي إلى انفصال كنيسة الفقراء عن كنيسة الأغنياء، وقال: ((إن الله قوة التحولات الاجتماعية، وقوة الثورات...وقوة الحب أيضاً)) (1).

ويزخر التأريخ العراقي الحديث بصور التقارب السياسي بين التيارين اليساري والديني، إذ أسهم رجل الدين الشيخ "عبد الكريم الماشطة" في تأسيس حركة أنصار السلام ذات التوجه اليساري في تموز 1954م، وألقى بيانها الختامي في مؤتمرها التأسيسي ببغداد. كما أشار "حنا بطاطو" في كتابه "العراق" إلى أن نحو ثلث أعضاء اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي (1955-1963)م ينتسبون إلى عائلات دينية (الأسياد). كما شهدت مدن النجف وكربلاء والكاظمية في خمسينات وستينات القرن العشرين تجاوراً سلمياً فريداً من نوعه بين انتفاضات الشيوعيين ضد السلطة الملكية ونشاط المرجعيات الدينية التقليدية هناك، إذ عزا "بطاطو" ذلك جزئياً إلى أن الكثير من الشيوعيين الناشطين في النجف مثلاً كانوا أبناء "العلماء" أو أقاربهم الحميمين أو من الباحثين الدينيين (2).

أما السؤال الذي يجدر طرحه في عراق اليوم: ((إلى أي حد يصح القول أن الشيوعيين والصدريين يتماهون ببعضهم على صعيد سيكولوجية إدراك الظلم، بما يطرح إمكانية انبثاق كتلة تأريخية من تحالفهما، دون إنكار الفجوة الايديولوجية الشاسعة بينهما؟))، مع التنويه أن المقصود هنا بالأساس هو القواعد الشعبية والنخب المثففة للتيارين أكثر مما يقصد به زعاماتهما.

لنجزيء هذا السؤال إلى بضع مقاربات استفهامية فرعية، مع التوكيد على الصبغة الاجتماعية الاحتجاجية لكلا التيارين بعيداً عن التأطيرات السياسية أو الحزبية الضيقة:
1- هل أصبح الصدريون في فعلهم الاجتماعي الطبقي شيوعيي اليوم، بعد أن فقد شيوعيو الأمس دورهم التأثيري في صفوف الكادحين والمحرومين؟
2- وهل يغار الشيوعيون (ربما لا شعورياً) من الصدريين لأنهم أخذوا منهم دورهم التأريخي في حشد الملايين الحالمة بالتغيير؟
3- وهل يقدس الصدريون السيد "محمد محمد صادق الصدر" مثلما يقدس الشيوعيون "كارل ماركس" على صعيد الوظيفة الكارزماتية الشخصانية؟
4- وهل ثمة تقارب في السمات والنزعات بين الشخصية الشيوعية والشخصية الصدرية، لاسيما لدى فئة الشبيبة؟
5- ولو قرر الشيوعيون تبني مرجعية "الصدر" إلى جانب عقيدتهم الحالية، ولو قرر التيار الصدري أن يتبنى الماركسية إلى جانب عقيدته الحالية، فهل سيتبقى أي اختلاف جوهري بينهما على صعيد التنظير للفعل الإصلاحي الاجتماعي؟

أنطلقُ في تحليلي من قاعدة سيكوسياسية تقول أن الايديولوجيات المتضاربة لا تنبع بالضرورة من سيكولوجيات متضاربة. فالمحروم المتدين لا يختلف عن المحروم غير المتدين في بنائه الانفعالي المتضرر جراء الظلم والإفقار والتهميش، لكنهما قد يختلفان في كيفية تسبيبهما لحالتهما وفي مدى تسويغهما أو عدم تسويغهما لها. ولذلك أجيب بالإيجاب (نعم) عن الأسئلة الأربعة الأولى، وبالسلب (كلا) عن السؤال الخامس فقط.

فللشخصيتين الشيوعية والصدرية أرضية مشتركة من الانفعالات والدوافع والاتجاهات والسمات والنظرة المظلومية للعالم، ذلك أن أهم ما يميزهما حدسهما الكاشف للتفاوت الاجتماعي، وكرههما للحاكم الجائر، ووعيهما بالصراعات الاجتماعية، وشغفهما بالمعرفة، واحترامهما للكتاب، وولعهما بالأدب والفن، وإجادتهما للإصغاء، وانفتاحهما على العقائد المختلفة، وولائهما الرومانتيكي للرموز المشخصنة.

إلا أن التمايز والتباعد بينهما يتضح بجلاء في القشرة الايديولوجية التي تغلف الشخصيتين. فالشيوعي مادي وعلماني ووضعي التفكير، والصدري مثالي وديني- مذهبي وميتافيزيقي التفكير. والشيوعي مولع بتقديم حلول "عملية" و"بشرية" لمعضلات الوضع العراقي، فيما الصدري يتلهى دفاعياً بالطقوس والغيبيات أكثر من اهتمامه بالملموس والمحدد، بالرغم من النزعة الحداثوية الإصلاحية الكامنة في أداء التيار الصدري والتي إذا ما جرى تفعيلها فستنتقل به من نسبية المذهب الديني إلى مطلقية الفضاء المجتمعي.

وعلى الرغم من حقيقة هذا التباعد الفكري، فسيخسر الشيوعيون أكثر مما خسروا إذا ظلوا بعيدين عن الجذوة الصدرية الشعبية الحالية. وسيخسر الصدريون بالتدريج إذا ظلوا بعيدين عن العقلانية الشيوعية. فالإصلاح الاجتماعي الفاعل في التأريخ الحديث كان على الدوام نتاجاً لتلاقح الاتجاهات الإصلاحية الدينية الجريئة بالقيم التنويرية العلمانية، وصولاً لإنتاج نمط أرقى من الدولة العاقلة.

إن أشد ما يحتاجه العراق اليوم، بزوغ حركة اجتماعية منظمة، تتبني حقوق الأغلبية المحرومة ضمن الإطارين السياسي والنقابي، وتجعل تلك الحقوق مطلباً إجرائياً يومياً يتجاوز حدود الدين والطائفة والايديولوجيا والمكاسب الانتخابية الشكلية، إلى آفاق الدولة والوطن والإنسان.

ولأن الشيوعيين والصدريين (حضريين وريفيين، نخباً وعوام) يكادان أن يكونا الحركتين السياسيتين الوحيدتين المتجذرتين بعمق في التربة الاجتماعية لنسبة كبيرة من عرب العراق، وحققتا تنظيماً دقيقاً وحقيقياً في حياة المضطهَدين، بخلاف التيارات الأخرى التي نشأت على نحو نخبوي أو مصطنع أو انقلابي أو جراء تحديات سياسية وقتية، دون إغفال "أخطائهما" على مستوى الفكر والممارسة، فإنهما مدعوتان إلى تبني خيار التقارب السياسي التنسيقي بينهما، ضمن مشروع "كتلة تأريخية" ضاغطة، تنبذ أي إطار تنظيمي عسكري للعمل السياسي، وتسعى تدريجياً عبر برنامجها الاجتماعي المطلبي الواسع الامتدادات إلى ما يأتي:
1- إعادة تنظيم بوصلة الصراعات السياسية المحتدمة اليوم على أساس أن الاتجاه المنشود الذي يتوجب التأشير نحوه على الدوام هو حقوق الإنسان العراقي المسحوق لا مصالح النخب السياسية المرفهة، والهوية الوطنية المدنية المتآخية لا الانتماءات الطائفية والعِرقية ما قبل المدنية المتناحرة.
2- إعادة التوازن للعلاقة المختلة بين النزعتين العلمانية والتدينية في الحياة العراقية بفعل تسييس الدين.
3- معالجة آثار العنف السياسي الدموي (الفاشية والاحتلال والطائفية والإرهاب) التي ما برح يعاني منها الفرد العراقي.

وعندها يمكن أن تلحق بهذه الكتلة النواة تياراتٌ علمانية ودينية أخرى بمرور الوقت جاعلةً منها الخيار الأكثر معقولية لإنقاذ السوسيولوجيا العراقية. كتب المفكر المغربي الراحل "محمد عابد الجابري" الذي دعا إلى كتل تأريخية مماثلة في إطار البلدان العربية، في دراسته ((الكتلة التأريخية..بأي معنى؟)) قائلاً: ((إن أي حركة تغيير في المجتمع العربي الراهن لا يمكن أن تضمن لنفسها أسباب النجاح ...إلا إذا انطلقت من الواقع العربي كما هو آخذةً بعين الاعتبار الكامل جميع مكوناته، "العصرية" منها و"التقليدية"، النخب منه وعموم الناس، الأقليات منه والأغلبيات، صفوف العمال وصفوف الطلاب، وقبل ذلك وبعده صفوف المساجد... صفوف المصلين)) ((إن المطلوب هو قيام كتلة تاريخية تنبني على المصلحة الموضوعية الواحدة التي تحرك، في العمق ومن العمق، جميع التيارات التي تنجح في جعل أصدائها تتردد بين صفوف الشعب: المصلحة الموضوعية التي تعبر عنها شعارات الحرية والأصالة والديمقراطية والشورى والعدل وحقوق أهل الحل والعقد، وحقوق المستضعفين وحقوق الأقليات والأغلبيات... وبدون قيام كتلة تأريخية من هذا النوع لا يمكن تدشين مرحلة تاريخية جديدة يضمن لها النمو والاستمرار والاستقرار))(كتلة تجمع فئات عريضة من المجتمع حول أهداف واضحة تتعلق أولاً بالتحرر من هيمنة الاستعمار والإمبريالية، السياسية والاقتصادية والفكرية، وتتعلق ثانـياً بإقامة علاقات اجتماعية متوازنة يحكمها إلى درجة كبيرة التوزيع العادل للثروة) (3).

لا تفتقر الحركة الصدرية اليوم إلى الزخم الجماهيري بالتأكيد، لكنها تفتقر إلى العقلية التحليلية التنظيرية المنظمة التي يمتلكها الشيوعيون لأسباب تتعلق بالطابع الشعبوي المكثف للحركة. وبالمقابل، يمتلك الشيوعيون هذه الإمكانيات الذهنية العليا، لكنهم صاروا يفتقرون إلى قاعدة بشرية كافية تحيل أفكارهم إلى واقع عياني لأسباب تتصل بالبنية السيكومعتقدية لعموم المجتمع. ولذلك يحتاج أحدهما الآخر، ليس على مستوى الاندماج المفتعل وغير الواقعي، ولكن بغاية التشاور والتنسيق والتفاعل وتبادل الخبرات في مجال التخطيط السياسي للسلوك الاحتجاجي- الإصلاحي، ما دام يجمعهما الوعي المعارض بالمظلومية، فضلاً عن توافر عدد غير قليل من إمكانات التقارب الوجداني الضروري لنجاح أي نشاط سياسي، إذا علمنا أن مكونات مهمة من القاعدة الصدرية لها جذور ماركسية أو يسارية على الأقل. فما عاد الصدريون "أعداءً طبقيين" للشيوعيين الذين غادروا الماركسية "المبتذلة" منذ عقود، ولا عاد الشيوعيون "أعداء الله" في نظر الصدريين الذين أثبتت بعض نخبهم التنويرية قدرتها على التفاعل الفكري الإيجابي المتسامح حتى مع الملحدين.

قد توصف هذه الدعوة بالخيالية أو الطوباوية للوهلة الأولى، لكن التجارب البشرية وخصوصيات الوضع العراقي، تشير جميعاً إلى أن الحلول السياسية الإبداعية (أو ما يسمى بالنزعة الحداثوية السياسية) وحدها قادرة على انتشال المجتمعات العالقة في وحل الأزمات والانهيارات على نحو إعجازي. ألا يستحق إنقاذ العراق وقفة تأصيلية شجاعة من هذا النوع؟

لقواعد وقيادات الشيوعيين والصدريين، من نخب فكرية وشخصيات اجتماعية مؤثرة، أن يباشروا بأنفسهم ابتكار مسارات هذا الفعل الإصلاحي السياسي المفعم بالأمل. وليبدأْ الصدريون بالمبادرة بأن تثبت الكتلة الصدرية في البرلمان الجديد جديتها ومصداقيتها في برنامجها الداعي لتشكيل وزارة خبراء وأكاديميين، بأن تتبنى ترشيح وزراء يساريين تكنوقراط غير حزبيين، في خطوة تمهيدية أولى على طريق تأسيس كتلة تأريخية عراقية كبرى "علمانية- دينية"، تسعى لإصلاح العلاقة المختلة بين المجتمع والدولة والسلطة، سيراً نحو حلم قيام "الأمة العراقية".



الهوامش:
(1)
أحمد مرسي (2006).إرنستو كاردينال شاعر نيكاراجوا الوثائقي.
http://www.jehat.com/jehaat/ar/Sha3er/eransto.htm
(2) حنا بطاطو (2006). العراق- الكتاب الثالث: الشيوعيون والبعثيون والضباط الأحرار. ترجمة عفيف الرزاز. قم: منشورات فرصاد. ص 60، 303
(3) محمد عابد الجابري (2004). الكتلة التأريخية...بأي معنى؟
http://www.aljabriabed.net/pouvoir_usa_islam_4.htm


 

free web counter