نسخة سهلة للطباعة
 

| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د.فلاح إسماعيل حاجم

 

 

 

 

الثلاثاء 15 / 8 / 2006

 

 

نظــرة قـانـونيــة:

بعـض خصائص الأجهزة المستقلـة في الدولة الفيدرالية

 

د. فلاح اسماعيل حاجم

ان واحدة من المسائل التي ستحتل مكان الصدارة في جدول اعمال مجلس النواب لنصف الفصل التشريعي القادم، كما تشير اغلب المؤشرات، هي اعداد ومناقشة، وربما اقرار، التشريع الذي من شأنه رسم الاطر العامة لشكل دولتنا القادم. واذا كانت الفيدرالية تشكل واحدة من ادوات اللعبة السياسية ، والانتخابية تحديدا، فان ثمن (اللعب) بمصير دولتنا دون قواعد صارمة سيكون باهضا جدا. من هنا تبدو مهمة التنقيب والبحث والدراسة والتحليل في التراث الانساني مهمة مقدسة وبالغة الاهمية. ان المادة المطروحة هي حلقة من سلسلة مقالات نشر اغلبها في الصحافة العراقية، وربما ستتبعها دراسات اخرى في الشأن الفيدرالي. وهي مساهمة متواضعة لما يطرح حاليا في الصحافة العراقية حول هذا الموضوع.
الى جانب اجهزة الدولة المعروفة مثل الجهاز التشريعي والتنفيذي واجهزة القضاء، تمتلك الدولة الفيدرالية اجهزة اخرى يماثل اغلبها اجهزة الدولة البسيطة، مع انها (الاجهزة) تتمتع بهذا القدر او ذاك من الخصوصيات التي تعكس الطابع الفيدرالي للدولة. بالاضافة الى ذلك فانه ليس من العسير العثور على اجهزة للدولة الفيدرالية لا نعثرعلى مثيلاتها في اقاليم الدولة وولاياتها ومحافظاتها .....(اطراف الدولة الفيدرالية)، وربما تجلت خصوصية الدولة الفيدرالية ايضا في حجم الصلاحيات التي من الممكن ان تمنحها تشريعات الدولة حصريا لاجهزتها المركزية دون غيرها من اجهزة السلطة في الاقاليم.
ان من بين اجهزة الدولة الفيدرالية المركزية، والتي يمكننا العثور على مثيلات لها في اقاليم الدولة, هي ما بات يعرف في ادبيات القانون الدستوري بالاجهزة الرقابية, مثل المحاكم الدستورية واجهزة الرقابة الدستورية الاخرى ولجان الرقابة العامة ومفوضيات حقوق الانسان المختلفة ولجان النزاهة... وغيرها الكثير، اي كل الاجهزة التي لا يشكل توفرها لدى الاطراف الفيدرالية اساءة لوحدانية سلطة الدولة ومبدأ السيادة فيها. ويمكن تكوين تلك الاجهزة وفق مبدأ الازدواجية المعروف في الدوّل الفيدرالية. فقد اتاحت التشريعات في تلك الدوّل لسلطات الاقاليم امكانية تشكيل اجهزة خاصة للرقابة الدستورية يكون من بين اهم اختصاصاتها التأكد من دستورية التشريعات الصادرة عن اجهزة السلطة المحلية (بكافة مستوياتها)٬ بالاضافة الى النظر في القضايا الخاصة بتعسف سلطات الاقاليم بالحقوق الدستورية لمواطنيها. فيما اعتبرت تشريعات الدول التي تخلو اقليمها من الدساتير (الهند مثالا) مهمة الرقابة على تشريعاتها من الاختصاصات الحصرية للقضاء الدستوري الفيدرالي. بالمقابل فأن ولايتين من الولايات الهندية الستة والعشرين يمتلكان مفوضا خاصا بحقوق الانسان، في الوقت الذي تفتقر فيه الهند لهذا الجهاز المهم على المستوى الفيدرالي.
ان واحدا من الاجهزة التي تمتلك استقلالية تامة والتي يتميز نشاطها باهمية استثنائية في كلا شكلي الدولة البسيط والفيدرالي هي اجهزة الرقابة المالية. فهذا الجهاز وان امتلك فروعا في اقاليم الدولة، فان تلك الفروع تعتبر جزءا عضويا من الجهاز المركزي, فيما تؤلف ميزانيتها احد اجزاء الميزانية الفيدرالية. وليس غريبا على الانظمة الدستورية وجود المحاسب العام (يطلق عليه المراقب العام في الكثير من الدوّل) حيث من الممكن ان يكون عمل الأخير جزءا مكملا لتنفيذ اختصاصات دائرة الرقابة المالية، حتى ان بعض الدول ارتأت ايكال مهمة الجهازين لموظف فيدرالي واحد (نيجيريا مثالا). يعتبر الادعاء العام واحدا من الاجهزة التي لا يمكن ان تكون اختصاصاتها مشتركة بين المركز والاطراف، ولا من الاختصاصات الحصرية لاقاليم الدولة. واذا كان هذا الجهاز البالغ الاهمية لا يدخل ضمن تركيبة المنظومة القضائية للدولة، وانما يؤلف منظومته الخاصة (روسيا والبرازيل) فأن اجهزته في اقاليم الدولة وولاياتها يتم تعيينها من قبل السلطات المركزية، على ان ذلك لا يمنع تشاور الاخيرة مع السلطات المحلية لاجراء تلك التعيينات. وهنا اجد مناسبا الاشارة الى ان درجة استقلالية الادعاء العام (كما هو الحال بالنسبة للسلطة القضائية) لا يحددها شكل الدولة، الفيدرالي او البسيط، ، وانما النظام السياسي في تلك الدولة، اذ عادة ما تكون اجهزة الادعاء العام في الدولة الشمولية مرتبطة بالجهاز التنفيذي للدولة، وربما تابعة بالكامل لاجهزته القمعية ايضا، وهذا ما تجلى بأوضح صوّره خلال فترة الحكم الشمولي الصدامي في العراق.
اضافة الى اجهزة الدولة الفيدرالية الثابتة والتي تجسد وحدانيتها سيادة الدولة، مثل الجيش وحرس الحدود والمخابرات بكافة صنوفها والسجون وقوات الطوارئ واماكن الحجز الاحترازي والتوقيف والشرطة (الاخيرة مع ان مرجعيتها العليا الوزارة الفيدرالية) ألأ انها عادة ما تقوم بتنفيذ واجباتها تحت امرة السلطات المحلية. اضافة لكل تلك الاجهزة كثيرا ما تلجأ الدولة الفيدرالية الى اعتماد آليات مؤقتة تكون مهمتها ، في اغلب الاحيان، التنسيق بين الاجهزة المركزية للدولة واجهزة اقاليمها، او لحسم القضايا الناشئة بين اجهزة الاقاليم فيما بينها. وربما كانت الاجتماعات الدورية لرؤساء وزراء كل من الهند والمانيا وكندا مثالا لتلك الاليات، حيث يكون لقرارات اللجان المنبثقة عن تلك الاجتماعات اهمية استثنائية في حل الكثير من القضايا التي عادة ما تفرزها طبيعة العلاقة بين السلطات المركزية وسلطات الاقاليم. وتبدو الاجتماعات الدورية بين رئيس الدولة الروسية او رئيس وزرائها مع رؤساء الاقاليم ومسئوليها تقليدا معروفا في الحياة السياسية لروسيا الفيدرالية. وكثيرا ما تمخضت هذه الاجتماعات عن تشكيل لجان ومؤسسات وتشكيل المنظمانت المناطقية (اتفاقية الفولغا الكبرى او العقد السيبيري ...الخ)، وعقد اتفاقيات بين السلطات المركزية وسلطات الاقاليم يكون من بين اهم اهدافها تنفيذ البرامج التطويرية لتلك المناطق. ولم تقتصر تلك الانشطة على اجهزة السلطة العليا على المستويين المركزي (الفيدرالي) والمحلي وانما تتعداها الى العمل المشترك والتنسيق بين مختلف مؤسسسات الدولة.
وتبدو تأثيرات الطبيعة الفيدرالية للدولة اكثر وضوحا خلال النظر الى هيكلية الاجهزة في اقاليم الدولة وولاياتها، وحتى اجهزتها المحلية الدنيا (الاجهزة البلدية مثلا). ذلك ان واحدة من الاشكاليات التي ينبغي على المشرع في الدولة الفيدرالية مراعاتها هي تحديد حجم الصلاحيات الممنوحة لاجهزة السلطة في الاقاليم (الاطراف الفيدرالية) بالشكل الذي يحول دون بروز ما يمكن تسميته بتضارب الاختصاصات. وربما كان الخلاف على تحديد حجم تلك الصلاحيات واحدا من اسباب النزاعات (وحتى المسلحة منها) بين السلطات المركزية وسلطات الاقاليم. بالاضافة الى ذلك فان تحديد مسئوليات اجهزة السلطة المحلية في الدولة الفيدرالية تثير هي الاخرى الكثير من المعضلات امام المشرعين والمنفذين على المستويين الفيدرالي والمحلي، فيما يكتسب القضاء ،وهو فيدرالي (مركزي) في اغلب الاحيان، اهمية قصوى في هذه المعادلة، فالتشريع الفيدرالي يبدو مجتزءا ومنقوصا اذا لم يؤمن ضمانات للحلقة الاهم والاضعف في منظومة العلاقات الاكثر تعقيدا، ألأ وهو مواطن الدولة الفيدرالية اي كان مكان اقامته. فالتأريخ السياسي للكثير من الدوّل الفيدرالية يشير الى ان واحدا من اسباب تصدع البناء الفيدرالي للدولة وانهيار بناءها هو تعسف سلطاتها بحق مواطنيها وانتهاكها لحقوقهم. من هنا يبدو مبدأ التدخل الفيدرالي والذي تتميّز به الدولة الفيدرالية عن سواها، ضمانة مشروعة للدفاع عن الحقوق والحريات الاساسية لمواطني الدولة. ويبرز مبدأ التدخل الفيدرالي كواحد من اشكال الاكراه التي تعتمدها السلطات المركزية للدولة ليس تجاه السلطات العليا في الولايات والاقاليم فقط، وانما تجاه الاجهزة الادنى (مثل البلديات) اذا تطلب الامر ايضا. ومن هنا ايضا الدور بالغ الاهمية الذي من الممكن ان تلعبه اجهزة الدولة المستقلة، مثل مفوضيات حقوق الانسان، على اختلاف مسمياتها، واجهزة الرقابة المختلفة، والمفتش العام....الخ، كمؤسسات تتضاعف مهماتها الرقابية في الدولة الاكثر تعقيدا، اي الفيدرالية.
انني ارى ان ثمة مبادئ ينبغي على مشرعي دولتنا وقادتها وضعها نصب اعينهم عند مناقشة واقرار التشريعات الخاصة بالبناء الفيدرالي المرتقب للدولة العراقية، وربما كان من بين اكثر تلك المبادئ اهمية، هو النظر الى الفيدرالية باعتبارها الشكل الذي يفترض ان يؤمن تعايشا سلميا لمكونات الشعب العراقي المختلفة، ويضمن الحقوق والحريات الاساسية لتلك المكونات. بخلاف ذلك سيحمل الشكل الجديد بذور انهياره، وربما انهيار دولتنا بالكامل، وهذا ما لا نود حتى مجرد التفكير به.