| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

داود أمين

 

 

 

                                                                                       السبت 6/10/ 2012

 

رسالة كردستان

أربيل : نشاطات ثقافية متواصلة، وجماهير تنهل بحماس ورغبة

داود أمين

رغم أن الربيع، كما يُفترض، كان قد غادر الوطن، قبل بضعة شهور، ونحن الآن في أول أشهر الخريف، إلا أن أجواء كردستان، ومدينة أربيل، التي عدت إليها قبل أيام، هي أجواء ربيعية بإمتياز، فأنا وأغلب من حولي، نسير بقمصان ( نص ردن )، ولا تنز من أجسادنا قطرة عرق واحدة، لذلك فالمشي والنزهة في طقس كهذا، هما نِعَم لمن كان يحمل مثلي ( نصف درزن ) من المتاعب! أما عندما يترافق هذا الطقس المثالي، مع نشاط ثقافي، تتوق له الروح العطشى، فهذا يعني أن المزاج سيكون في أعلى حالات ( الرواق! ).

الشوارع النظيفة والأرصفة المُشجرّة، في معظم أرجاء المدينة، تقودني، في الرابع من تشرين الأول 2012 من بيتي البعيد، ل( متنزه شاندر )، حيث يحتشد في حدائقه هذا المساء، مئات من المهتمين  بالشأن الثقافي، فالمساء يحمل لهم اليوم أكثر من فعالية ثقافية.

 وسط فسحة من الثيل الأخضر والهواء الطلق داخل المتنزه، تنتشر عشرات اللوحات التشكيلية، والتماثيل والمنحوتات، مختلفة الأشكال والألوان والمواد المستخدمة، رسمها ونحتها مجموعة من فناني كردستان، وهي تعكس في أشكالها ومضامينها، مستوى متقدم للفن التشكيلي الكردستاني، ولطاقات إبداعية شابة، تشق طريها بثقة وإقتدار.

قبل أن أنهي سياحتي الممتعة، وسط هذا الشلال الزاخر بالألوان والأشكال المُبهجة، توجهت للكهف المُشيد وسط المتنزه، (والمصمم ككهف شاندر، الذي شهد ظهور أول الأجناس البشرية) ففي داخل هذا الكهف، تقيم الفنانة التشكيلية السورية ( هبة عيزوق ) معرضها التشكيلي الأول، والذي إفتتح من قبل وزير الثقافة والشباب الكردستاني، الدكتور كاوة محمود.

المعرض الذي يضم عشرات اللوحات، مختلفة الأحجام والألوان، والمرسومة بالفحم والأكريل، هو عبارة عن وجوه بشرية فقط، وجوه تكتب الفنانة هبة في دليل معرضها عنها قائلة ( لا وجه يشابه الآخر في هذه الحياة... ووجوهي مستمدة من الواقع بشكل فضولي، هي دواخلنا التي تضم كل المشاعر الإنسانية من قلق، إنتظار، أمل، فرح وغيرها... فانا لا أقدم عرضاً ذاتياً، بل أحاول الوصول إلى أعماق الآخر، وأجسده في لوحتي، فالوجه هو مرآة الروح، يعكس ما بداخل النفس من إنفعال...

ولوحتي تحصر القبح والجمال في بورتريه للكشف عن حقيقة الأنسان المخبأة في دواخله، مبتعدة كل البعد عن إظهار تفاصيل الوجه المجردة، لأركز على العامل النفسي للملامح الإنسانية التي تُعبر عن الغربة الذاتية والنفسية ) وبالفعل كانت جميع لوحات الفنانة السورية هبة، تعابير واضحة، عن مشاعر إنسانية مختلفة ومتناقضة، فالوجه الذي تحسبه عابساً أو متألماً، قد تجده يبتسم، عندما تُدقق جيداً في تفاصيله، والوجوه إنسانية بالمطلق، فهي لا تخص إنساناً محدداً، كأن يكون رجلاً أو إمرأة، شيخاً أو طفلاً، مفكراً أو ساذجاً، والغريب إن عدداً كبيراً من لوحات المعرض، الصغيرة والكبيرة، رُسمت بحيث يظهر الرأس ( من نهاية الجبهة ) والذقن (قرب نهايته) وكأنهما مقطوعان، أو ممتدان بإتجاهي السماء وأعماق الأرض، وقد أوحت لي هذه الملاحظة، أن الفنانة ربما تقصدت، جعل إنسان لوحتها ملتحماً بالسماء من جهة، ومغروساً بعمق في الأرض من جهة أخرى، فهو ككلكامش سماوي الآمال والطموحات، والبحث عن الخلود، وارضي الخيبات والخسارات والهزائم، وعندما سالت الفنانة هبة، عن إمكانية تفسير ذلك، قالت إنها لم تنتبه أو تتقصد شيئاً في الملاحظة التي إنتبهت لها.

قلت للفنانة هبة، المولودة في السلمية في سوريا عام 1986، والمتخرجة من المعهد العالي للفنون في دمشق عام 2009، هذا معرضك الأول في أربيل، هل كنت تتوقعين مثل هذا الإقبال من الجمهور؟

تجيب الفنانة هبة: لقد قيل لي أن جمهور أربيل، لن يتفاعل مع أسلوبي في الرسم، فالجمهور هنا، كما اخبروني، يعشق المناظر الطبيعية، ولذلك قررت أن أتحدى، أن اضع الجمهور الأربيلي أمام فن ربما لم يالفه، وأعتقد أنني نجحت في التحدي، والعشرات وربما المئات، الذين غصت بهم قاعة العرض، بالإضافة للعدد الكبير من الصحفيين والقنوات التلفزيونية، دليل على التفاعل والنجاح الذي حققه المعرض في يومه الأول.

واسأل الفنانة السورية هبة مجدداً: هذه الوجوه المتعبة والمقهورة والغاضبة والمحتجة، هل لها علاقة بما يدور الآن في سوريا من قتل وقمع وبشاعات؟

الفنانة هبة تقول : لا أبداً فمشروع هذا المعرض وفكرته والعمل في تفاصيله، بدأت منذ حوالي خمس سنين، وسبق لي أن شاركت في العديد من المعارض التشكيلية في العاصمة السورية دمشق، وفي الخارج أيضاً وبهذا الأسلوب.

خارج قاعة المعرض، وفي فضاء المتنزه الأخضر، كان الجمهور، وبينه وزير الثقافة والشباب الكردستاني، يجلس فوق كراسي، صُفت على شكل أقواس تحتضن مسرحاً، تقف خلف منصته، عريفة الحفل، بزيها الكردي الجميل، وهي تقدم فرقة موسيقية شابة، تتكون من سبعة عازفين، بينهم مطربان، قدما أغان عاطفية وفلكلورية كردية اسعدت الجمهور، ودفعت الكثير منه للتفاعل والمشاركة، ثم قدمت عريفة الحفل الشابة، فرقة موسيقية أخرى من الشباب، وبينهم مطربة شابة، شدت الجمهور بما قدمته من أغنيات كردية شائعة ومعروفة.

في مساء اليوم التالي الخامس من تشرين الأول، كان لنا موعد آخر مع نشاط ثقافي جديد، وهو العرض المسرحي، الذي تم تقديمه على مسرح ( جمعية الثقافة الكلدانية ) في مدينة عينكاوة، حيث غصت قاعة الجمعية بالجمهور، الذي شهد عرضاً ممتعاً لمسرحية ( الوردة الحمراء )، وهي من تأليف وإخراج الفنان ( فاروق صبري )، ومثلها الفنانان ( جيهان طه ) و ( رفيق حنا )، وقد زاوجت المسرحية بين اللغتين العربية والكردية، وقدمت مجموعة لوحات فنية ناجحة، رغم تواضع الديكور.

 لقد إستخدم المخرج كل مساحة المسرح لتحريك الممثلين، بل إستعان بالقاعة أيضاً في مشهدين، عندما حرَّك الممثلين بين الجمهور، والحقيقة أن الممثلين أجادا دوريهما بمهارة عالية، وكانا يتنقلان بين الشخصيات المختلفة والمتناقضة، التي أدياها، بيسر وسهولة، كما عبَّرا بوضوح عن مشاعر متعاكسة، وكان للموسيقى المصاحبة لمعظم مشاهد العرض، ولإختياراتها الموفقة حسب كل مشهد، الأثر الهام في شد الجمهور، وفي إنجاح الإيصال الأعمق لمضامين النص، علماً إن النص كان زاخراً بمضامين إنسانية، تمجد الكلمة والشعر والحب والتضحية .

في اليوم التالي السادس من تشرين الأول، كان صباحنا مفعماً بالفكر والتاريخ النضالي الحافل بالعطاء والتجديد، ففي مقر إتحاد الأدباء الكرد في أربيل، تم تقديم الكاتب والمفكر اللبناني ( كريم مروة ) في محاضرة، تتعلق بمضمون كتابه الجديد( قادة تأريخيون كبار في القرن العشرين )، والكتاب، كما قال مؤلفه، يقع في جزئين، وهو إستحضار ل(37) شخصية قيادية لثورات القرن العشرين، والسبب في تأليفه، كما ذكر المحاضر، هو نجاح ثورات الربيع العربي، أو الثورات التي حدثت في القرن الواحد والعشرين، والتي دفعته لإستحضار ثورات القرن العشرين، إذ أن التأريخ لا يبدا من الفراغ، والجديد يولد من القديم، ولا يكرره في معظم الأحيان، ثم تحدث المحاضر مفصلاً عن سمات الثورات الجديدة، وكيف إنها بلا برامج واضحة، ولم تقدها أحزاب، وليس لها أيديولوجية محددة، وإن قادتها والمساهمين فيها، لم يعودوا قادرين على البقاء، في ظل الإستبداد والقهر، وهم أرادوا الحرية والكرامة والعيش الكريم، ولكنهم كانوا يفتقرون إلى كيفية البناء الجديد، إذ لايكفي أن تزيل القديم ولكن المهم أن تعرف ماذا بعد؟ وأكد المحاضر أن ثورات الربيع العربي، حققت إنجازاً تأريخياً غير مسبوق، وإنها وضعت نهاية لنظام الإستبداد، فالذين قادوا الثورات وإشتركوا فيها لا زالوا موجودين، وهم ما يشبه حراس المرحلة القادمة، وقد بدأوا ينتظمون في حركات ويضعون برامج، ويجب أن تكون هذه البرامج واقعية.

وأشار إلى أن الربيع العربي مازال مستمراً، ولن يسمح الذين قدموا التضحيات الجسام، بظهور مستبد جديد. ثم تحدث المحاضر مطولاً عن سمات ثورات القرن العشرين، وإرتباطها بشخصيات تأريخية تحول معظمهم لمستبدين، واشار لأهمية ثورة أكتوبر التي دشنت القرن الماضي، وفتحت أفاقاً لإنتصار حركات التحرر، في معظم قارات العالم، وأيضاً حمل القرن، إنتكاسة الثورة الإشتراكية وسقوطها قبل نهايته .

بعد المحاضرة ساهم العديد من المثقفين الأكراد وغيرهم، بطرح الإستفسارات والمداخلات، التي أجاب عنها المفكر الضيف بوضوح ودراية، لتنتهي هذه الأصبوحة الهامة، بالمتعة والفائدة وتعميق الفهم.  

 

free web counter