| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

داود أمين

 

 

 

                                                                                       الخميس 28/4/ 2011

 

 الملتقى الأنصاري في مالمو
إستعادة للذكريات ، وسعي جاد للتوثيق

داود أمين

مثل كل مرة، عندما يلتقي الأنصار الشيوعيون، بعد قطيعة إضطرارية، قد تدوم بين بعضهم سنوات طويلة، بسبب مشاغل الحياة والتوزع بين العديد من البلدان. مشاعر تنفلت دون رقابة أو حدود، الأصوات تتعالى، والقبلات تتواصل، والعناق سيد اللحظات الأولى للقاء.

مدينة مالمو السويدية، أو ريفها، بل إحدى غاباتها القريبة، تحتضن هذا التجمع الأنصاري الكبير نسبياً، ففي يوم الجمعة 23 نيسان 2011، تجمع حوالي 70 نصيراً شيوعياً، قدموا من الدانمارك والنرويج وبريطانيا وهولندا والتشيك ومن عدة مدن سويدية، ملبين دعوة كريمة من فرع رابطة الأنصار في مدينة مالمو، التي تكفلت بحجز المبنى وتهيئة كل المستلزمات لإنجاح هذا التجمع الكبير، والخروج ( بالوجه الأبيض ) أمام هذا العدد الكبير من الضيوف المعروفين بالنقد الباشط، إن لم يكن كل شيء على ما يرام! المجاميع كانت تصل تباعاً ، وكنت وخمسة أنصار من الدانمارك ونصيرين من لندن، ضمن الوجبة التي وصلت في حدود الخامسة مساءاً، حيث إستقبلتنا مجموعة متنوعة من أنصار مدن السويد، وبينهم من إلتقيته قبل فترة قصيرة فأسعفتني الذاكرة بتذكر ملامحه، وبينهم من لم ألتقيه من سنين، فتلعثمت ذاكرتي في ترتيب ملامحه، لذلك كان على أبي سرمد وأبي عطا أن يقدما لي نفسيهما مجدداً، وهما يبتسمان، وكأني أتعرف عليهما لأول مرة!

السيارات كانت تتوافد، بعضها يضع حمولته ويعود مجدداً لمدينة مالمو لنقل رفاق آخرين، والبعض يوقف سيارته إلى جوار العديد من السيارات، وينزل حقيبته وفراشه، فالمبنى لا يضم أفرشة كافية! وتلك كانت اول حلقة في مسلسل النقد.
داخل المبنى كانت هناك قاعتان كبيرتان تزدحمان بالمناضد والكراسي، وحين سألت عن غرف النوم قيل لي : هاتان القاعتان هما للنوم، وعلى أرضهما العارية سنمضي الليلتين القادمتين!! إذ ليس هناك أسرة في المبنى! ولم تكن المفاجأة شديدة علي أو على غيري من الحاضرين، ففي كردستان كنا ننام، نحن الأنصار، في الجوامع والمدارس، وفي الأودية والمغارات، ورفاقنا في فرع مالمو ربما تعمدوا حجز هذا المكان لأنهم يريدوننا ان نتعايش بصدق مع واقعنا الأنصاري السابق! وضعت حقيبتي، وتجولت في المبنى، لأكتشف مطبخاً صغيراً ومغاسل تضم حماماً بدون باب، أي إن على من يجازف بالإستحمام أن لا يستغرب عندما يجد نفسه بعد أيام على اليوتيوب، فلدى الجميع كاميرات متقدمة مع أحدث الموبيلات!( وهيج فلم ما يتفوت) ولأني لا اريد ان اكون بطلاً في فلم مثير، وفرت الشامبو الذي احمله، وظلت ملابس الغيار والمنشفة الكبيرة مركونة في مكانها في حقيبتي، ومعها أدوات الحلاقة والعطر، وهو أمر هين ومقبول، أن لا تغتسل ليومين، ولكن المفاجأة أن المبنى لا يضم سوى تواليت واحد، ولسبعين شخص! ولذلك كان عليك أن (تُغَبِش) منذ الفجر، أو( تلزم سره ) في طابور طويل، لكي تُنجز مهمتك!

خلف المبنى كان الموقد، المحاط بجذوع الأشجار المعدة للجلوس، يزخر بالحطب المشتعل، فالأنصار الذين سبقونا للمكان، تطوعوا لإنجاز هذا الطقس الأنصاري الثابت، ترامس الشاي الكبيرة، المصفوفة على الطاولات خارج المبنى، تمنح الحاضرين لذة الإرتشاف، السؤال عن الصحة بات يتقدم الأسئلة، فالعمر يمضي بالجميع نحو شواطيء غير مأمونة، والعام الماضي حصد من الأنصار عدداً ملفتاً للإنتباه! الشيب والصلع يكلل معظم الرؤوس، والتجاعيد تشي بمرور عقود أخرى على هذه الوجوه، لكن الفرح يظل طافحاً في النفوس، والإبتسامة علامة فارقة على أغلب الشفاه.

قبل أن يحل الظلام، كان شباك المطبخ يرَّحِل لأكف المجتمعين حول المبنى، صحون الورق، حيث تستريح فوق كل منها نصف دجاجة، البعض كان قد باشر سهرته مبكراً ففتح زجاجته وراح يعب مما يشتهيه، ومع أول لسعات البرد، بدأت مجاميع الأنصار تدخل القاعة الكبيرة، حيث تطوع البعض لتنظيم الطاولات والكراسي، على شكل حدوة حصان، لسهرة الليلة الأولى .

ليلة الجنون الأولى
أستميح السياسيين الأمريكيين العذر، حين أستعير منهم مصطلح ( الفوضى الخلاقة ) فقد كان هذا المصطلح هو ما توصف به الليلة الأنصارية الأولى، الطاولات صفت، والجميع أخرجوا عدة سهرتهم، حيث إصطفت على الطاولات عشرات القناني المختلفة الأشكال والمضامين، ولم يكن أمامي سوى التأكد بإنتقال ( أبو نؤاس ) السبعينات، بجلال قدره لقاعتنا المزدحمة. في إنفراجة حدوة الحصان كان الفنان ( أبو نجيب ) يعزف على الكمان، يرافقه على الرق والدربكة النصيران حمودي شربه وأبو صبا، النصير هوبي كان أول الراقصين، فقد أمسك سترته بكلتا يديه، كما يمسك مصارع ثيران إسباني بخرقته الحمراء، وراح يدور بالسترة حاثاً ومشجعاً الأخرين للمشاركة، خصوصاً والأغاني عراقية وشائعة، كاوه الطريق المتورط بموقعه الألكتروني، حمل اللابتوب وهز نفسه مع جهازه، وهو يعبر للجهة الثانية، إذ يبدو أن مادة سريعة كانت قد وصلته وعليه إنزالها! أبو خالد عجين، المبتسم بخجل كما هي عادته، تطوع (للم البوش) وكان حصاده وفيراً تلك الليلة! الراقصون تكاثروا، إذ نزل الساحة أبو ولاء وابو روزا سماوة وأبو فائز وأبو ليلى السراج، أما أبو نادية ناصرية فقد رقص بطريقة لا ينافسه فيها أحد، فهي تقع بين الرفس والتشبخ، الأغاني تنوعت، وكثر المطربون وتنوعوا، فمن (سمر سمر) إلى (هذا مو إنصاف منك والليلة حلوة وعذبتني إشلون شلون)، إلى سلسلة من المواويل والأبوذيات والبستات، التي ساهم فيها بالإضافة لحمودي شربة الأنصار أبو بسام وهوبي وأبو ظافر وجبار وأبو روزا سماوة، كما بدأت فرقة أبو حسنة المتجمعة حول منضدة خاصة، بتقديم الأغاني الأنصارية المحببة (كلتلها مكسر تكسير ما بدي هيك مشاوير) مع الصفكات البصراوية الخاصة، ثم قدم النصير أبو فائز مربعاً إنتقادياً جميلاً كانت لازمته ( ياخساره، للرتب ما حَسَبتْ ) وموضوعه رواتب الأنصار التقاعدية ورتبهم العسكرية، والغبن الذي لحق بالكثيرين منهم! الكاميرات كانت تصور، واللحظات الفالتة كانت توثق من عدد كبير من الحاضرين، وكأنهم يستعيضون لا شعورياً ضياع سنوات الكفاح الأنصاري التي لم توثق! الجلسة التي لم يكن لها برنامج واضح ومرتب، بل كانت بحق ( فوضى خلاقة ) إستمرت بنفس المتعة والحماس لحوالي الثالثة صباحاً، بعدها نظم البعض أفرشة نومهم، ولفق البعض، ممن لم يحمل فراشاً معه، أفرشة عجيبة، إذ نفخ أبو روزا ناصرية كيساً أسوداً وأدخله في شرشف مخده ، ليكون مخدته طوال ليلتين! كثيرين ظلوا دون أفرشة، وبينهم النصير أبو إنعام الذي إنشغل بالحديث لساعة متأخرة، وعندما قرر النوم، بحث طويلاً عن فراشه دون أن يجده! سالم البزن، الذي رقد إلى جانبي في فراش ملفق، شن حملة على الشاخرين، ساخراً من موسيقاهم المنوعة، وبعد خمس دقائق من تمدده فوق فراشه، فاق بشخيره كل الأصوات وبتنويعات لم يجرأ أن ينافسه عليها أحد! ورغم إنني رقدت بعد الساعة السادسة صباحاً، فقد أيقظتني الأصوات في التاسعة، لأجد المتطوعين قد هيأوا البيض والجبن والمربى وشوربة العدس، التي قدمت لنا في أوان بلاستيكية غريبة، تشبه الحزورات، فلا هي صحون ولا هي طاسات!

نهار مشمس ونشاطات متنوعة
الشمس كانت مشرقة طوال نهار السبت، والدفء يعم المكان، ومع ذلك فالنار تُلقم بمزيد من الحطب المجاني الذي يملأ الغابة، وقد أمضينا النهار في الأحاديث الجانبية، أما النصير أبو ليث، فقد واصل مهمته، وبمساعدة النصير أبو نادية قامشلي، في إجراء مقابلات سينمائية مع معظم الموجودين، عصراً وصل رفاق جدد من النرويج، كما وصلت نصيرتان من مالمو، مع عدد من ألأبناء من الجيل الثاني. النصير أبو بسام علق على حائط قاعة النوم الكبيرة معرضاً للصور الفوتغرافية، التي سبق له أن صورها في موسع أنصاري سابق، وفيه لقطات دالة مع تعليقات طريفة، وقد لفتت إنتباهي صورة لصديقي اللدود علاء الصغير، فقد كان يحتضن عوداً وكأنه فريد ألأطرش أو عبد الوهاب! وقد كتب أبو بسام تحت الصورة عبارة ( حَيّال ما يعرف يعزف .. مجرد بوز ) وحمدت الله أن متظاهري ساحة التحرير غير موجودين معنا، إذ لو كانوا هنا لأبدلوا شعارهم ( جذاب نوري المالكي جذاب ) إلى ( جذاب علوكي البطل جذاب! )، كما عرض النصيران أبو فائز وأسعد بعضاً من لوحاتهم التشكيلية، وكانت مبيعات المعارض لصندوق دعم إنتاج الأفلام السينمائية، الشاي والقهوة إستمرا طوال النهار، والمطبخ ظل مزدحماً بالمتطوعين وهم كُثرُ، حمودي شربه لم يعجبه نوع التمن، وعندما سألته عن ( الحكاكة ) لعن سلسفيل الذين إشتروا هذا التمن! وجبة الغداء تأخرت لحوالي الثالثة، و( العوازة ) كما في كردستان، كانت أكثر من الوجبة! والجميع كان راضياً ومكتفياً، ولأن العشاء كان لحماً مشوياً ، والعدد فاق السبعين، والشواية لم تعد تتحمل ثقل ما صُفَّ فوقها، فقد تأخر العشاء لما بعد التاسعة، فجرى إستغلال الوقت لعرض الفلم الأنصاري ( أبو إصطيف..مناضل لا يعرف الحزن ) الذي أخرجه النصير أبو ليث، وهو يتحدث عن النصير الفقيد أبو إصطيف، الذي توفي في العام الماضي في لندن، وكان عرض الفلم مناسبة لمناقشة موضوع توثيق الحركة الأنصارية، من خلال السينما ومقابلة الأنصار وتسجيل ذكرياتهم، وحاجة المشروع للدعم المالي، وقد طُرحت الكثير من الأفكار، ومن بينها الإتفاق بالإجماع على توجيه رسالة بأسم الفروع الحاضرة، إلى اللجنة التنفيذية للرابطة، لدعم هذا المشروع مادياً، وتخصيص الميزانية التي يستحقها، كما جرت حملة تبرعات مباشرة لدعم المشروع من قبل الحاضرين.

بعد عرض الفلم والحوار الذي أعقبه، كان العشاء، الذي قدم في القاعة، ومعه بدأت السهرة ، وكانت هذه الليلة أقل صخباً من الليلة السابقة، وأقل عدداً أيضاً، إذ يبدو إن تعب الليلة الماضية وسهرها قد أرهق الجميع، كما غادر البعض المكان بعد ساعات الليل الأولى، وقد تنوعت فقرات هذه الليلة، فعدا الغناء الذي ساهم فيه جبار وهوبي وأبو بسام، والرقص الذي إشترك فيه أبو سيزار وأبو فائز وأبو روزا سماوة وهوبي وأبو بسام، فقد قرأ أبو كاوة وبإنفعال صادق وحزين قصائد لمظفر النواب، كما أكمل أبو فائز المربع الذي بدأه أمس، وبعده بدأت فترة النكات المسموعة، إذ لم أسمع جديداً رغم مساهمة الكثيرين. وفي حدود الرابعة صباحاً كانت فترة النوم، وهذه الليلة كانت أهدأ وأفضل وأقل إزدحاماً من سابقتها.
صباح الأحد إستيقظنا مبكرين لتناول فطور يشبه فطور اليوم السابق، وقبل أن ينتصف النهار كنا نودع رفاقنا الأنصار من البلدان الأخرى، على آمل أن نلتقي في تجمعات مماثلة وفي ظروف سكن أفضل، بحيث تستطيع عوائلنا أن ترافقنا، وخصوصاً أبناءنا من الجيل الثاني الذي يجهل معظمهم أي ماض مجيد كان لآبائهم .



 

free web counter