| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

داود أمين

 

 

 

الجمعة 28/5/ 2010

 

شهادة

مشهد الناصرية الثقافي في السبعينات

داود أمين

لا يمكن الحديث عن المشهد الثقافي السبعيني في الناصرية دون العودة للجذور، فالسبعينات هي نتاج عقود سبقتها، وهي حصيلة طبيعية لجهد سابق، إشتغلت عليه عوامل إجتماعية وسياسية وثقافية محلية ووطنية وقومية وربما عالمية أيضاً .

فعلى المستوى المحلي، كانت الناصرية التي تأسست عام 1869 تتشكل وتنمو ببطء من خليط تجانس وتماثل من السكان، الذين وفدوا من مختلف مدن العراق وأريافه، من المسلمين بنوعيهم الشيعة والسنة، ومن اليهود والصابئة وبعض المسيحيين أيضاً، لذلك لم يكن غريباً أن يتعايش كل هؤلاء بيسر وسلام، وأن تسود بينهم روابط مدينية لا تزال أثارها مائلة حتى الأن في سلوك أبناء المدينة الأصلاء، أؤلئك الذين تجمعهم الناصرية( أقصد المدينة) قبل العشيرة والطائفة والدين والقومية، كان موظفو الناصرية في غالبيتهم من السنة( كما يذكر الفقيد راشد العودة في كراسه) ومعظم الصياغ والحرفيين من الصابئة واليهود، في حين كان الشيعة وهم غالبية أبناء المدينة يتقاسمون الزراعة والأعمال الحرة الأخرى غير المرتبطة بالدولة.

كانت دواوين بعض البيوت ميادين للجدل والحوار والنقاشات السياسية، لذلك لم يكن غريباً أن تنشأ بعد عقود من تأسيس الناصرية( أي في نهاية العشرينات ) أول الخلايا الماركسية في المدينة، وأن يسقط فيها أول شهيد يمكن أن أسميه طبقي وهو { محمد السايس} وأن يؤسس احد ابنائها ومثقفيها، وهو الرفيق يوسف سلمان( فهد )، فيما بعد أول حزب شيوعي في العراق.

لقد لعب المعلمون الأوائل في المدينة، ومن بينهم محمد مهدي الجواهري ومصطفى جواد وحسين مروّة وكريم مروّة دوراً في توعية جيل من شباب المدينة في الثلاثينات والأربعينات، إلى جانب دور الحركة السياسية الوطنية والماركسية التي إعتمدت على الفكر التقدمي والثقافة المتنورة، ولذلك لم يكن غريباً أن يبادر كادح واعي كعزران البدري في أربعينات وخمسينات القرن الماضي، من تحويل مقهاه المتواضعة لميدان حوار وثقافة، ولساحة أدبية يتبارى داخل جدرانها المثقفون في يوم الأربعاء من كل أسبوع، وفي هذه الفترة ظهر عدد من ألأسماء الأدبية والشعرية الهامة، كعبد القادر رشيد الناصري وعبد الرحمن الكاتب ورشيد مجيد وعباس الملا علي وطالب الحاج فليح وصبري حامد وعبد الواحد الهلالي ومجيد حمد النجار وسالم حسين وعناية الحسيناوي وشاكر الغرباوي وقيس لفته مراد وعبد الخالق العطار وفاضل السيد مهدي وحميد السنيد وحمدي الحمدي وخالد الشطري وزهير الدجيلي وشهاب أحمد التميمي وعشرات غيرهم، في الناصرية والأقضية التابعة لها وخصوصاً سوق الشيوخ والشطرة.

أما على المستوى الوطني فقد عاشت الناصرية التي كانت مركز تحالف عشائري كبير، يوم تأسيسها، هو تحالف المنتفك في زمن الدولة العثمانية، عاشت بين مد وجزر في صراعها مع السلطة المركزية، ويقال إن مدحت باشا بناها في منخفض أسفل الفرات، ليفتح عليها(أبو جداحة) ويغرق سكانها إذا فكروا بالتمرد! ومن يطالع تأريخ هذه الفترة يلحظ أن المدينة لم تهدأ قط، إذ كانت بركاناً هائلاً ومتواصلأ، ما أن يبرد حتى يعاود الغليان والثورة، وقد تركت أحداث هذه الفترة وحروبها وإنتفاضاتها ميلاً دائماً للتمرد والتحدي، ربما لا تزال أثاره تسم حتى الأن أبناء هذه المدينة!

وبعد قيام الحكم الملكي ظلت المدينة تنظر بشك وريبة للملك الهاشمي الأول القادم من الحجاز، وللحكومات التي تشكلت في ظله وظل ولده وحفيده اللذين جاءا بعده، وقد إنعكست هذه المعارضة في الأنتماء الواسع في مقاييس تلك الفترة، للحزب الشيوعي العراقي، والحزب الوطني الديمقراطي، وعلى المستوى الأدبي والثقافي، إنعكست المعارضة في مضمون الكتابات والقصائد التي كانت تمجد الحق والثورة والعدالة، وتدين الظلم والجور والأستبداد.
أما على المستوى القومي فقد كان لنهوض الوعي القومي ضد العثمانيين، في بلاد الشام ومصر أثره على سكان العراق ومن بينهم أبناء الناصرية الذين تمردوا كثيراً كما ذكرت وعلى الدوام ضد العثمانيين، وبعد الأحتلال البريطاني للعراق قاوم أبناء الناصرية الأنكليز وساهموا في معارك مشهودة ضدهم، بقيادة المجاهد محمد سعيد الحبوبي ورؤساء القبائل ورجال الدين، وبعد قيام الحكم الوطني كانت الصحف والمجلات الأدبية المصرية والسورية تصل للناصرية وتقرأ من قبل مثقفيها، وقد أثرت هذه المنشورات الأدبية والثقافية، في جيل من المتعلمين في المدينة.

وفي المجال العالمي كان للحرب العالمية الأولى، وما رافقها من أحداث وتطورات تمثلت في إنهيار الدولة العثمانية، وإنسلاخ البلدان العربية من هيمنتها، وفي قيام ثورة أكتوبر الأشتراكية في روسيا، والأفكار التي حملتها، وكذلك في قيام الحرب العالمية الثانية وإنتصارات الجيش الأحمر فيها، وقيام المعسكر الأشتراكي، كان لكل ذلك تأثيراته على جيل واسع من شباب المدينة.

إذن يمكن القول إن مجموعة عوامل محلية ووطنية وعربية وعالمية هي من كونت وهيأت لجيل السبعينات لكي يظهر ويتبلور بالشكل الذي ظهر وعُرف فيه، ولكن الحدث ألأبرز والأهم في رأيي الذي هيأ لظهور هذا الجيل، بالأضافة لما تقدم، تمثل في ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958، فقد هزت الثورة المجتمع العراقي، ومن بينه أبناء الناصرية هزاً عميقاً ، وأحدثت الثورة تغيرات هائلة على جميع الصعد الأجتماعية والسياسية والثقافية، وفتحت المجال أمام جيل من المثقفين الوطنيين والديمقراطيين، وفي مختلف المجالات، من نشر نتاجاتهم بين الجمهور، فنشط المسرح وألأماسي الثقافية والفنون التشكيلية والموسيقية، وقد تبنت المنظمات الديمقراطية التي كان يقودها الشيوعيون، وهي إتحاد الطلبة وإتحاد الشبيبة الديمقراطي العراقي ورابطة المرأة ، بالأضافة لجمعية الصداقة العراقية السوفيتية، تبنت ورعت هذه النشاطات الثقافية، والتي إتخذت طابعاً شعبياً غير مسبوق، بعد أن كانت مقتصرة على النخبة، كما لعبت مديرية التربية في المحافظة وإدارات بعض المدارس دوراً إضافياً في تنشيط الحركة الثقافية عموماً، وبألأخص المسرح المدرسي والمعارض المدرسية، وقد هيئت الثورة لظهور أسماء كان لها الأثر فيما بعد في القصة والرواية والمسرح والتشكيل كعبد الرحمن مجيد الربيعي وفهد الأسدي ومهدي السماوي وعزيز عبد الصاحب وحسين الهلالي وصلاح نيازي ورزاق رشيد وفخري رشيد وعادل سعد وأحمد الباقري وحيدر الجاسم وفايق حسين وحسن عبد علوان وكمال السيد وطالب القرغولي وعزيز السيد جاسم ومحسن الموسوي وقاسم دراج وإبراهيم دراج والعشرات غيرهم وفي مختلف الأختصاصات، وقد لعبت صحيفة ( إتحاد الشعب ) الناطقة بلسان الحزب الشيوعي العراقي وصحفاً ديمقراطية وتقدمية أخرى كالأنسانية والبلاد والأهالي وغيرها دورأ بارزاً في نشر الوعي، وفي إشاعة الثقافة التقدمية والفكر التنويري.

وكان لأنقلاب 8 شباط الأسود أثره الهائل في شل الحركة الثقافية في المدينة والعراق عموماً، لزجه بالوف الشيوعيين وأصدقائهم، وبينهم معظم مثقفي المدينة في السجون والمعتقلات، وفي منع الكتب والمجلات التقدمية والصحف الديمقراطية من الصدور، أو من الوصول من الخارج، كما عُطّل عمل المنظمات الديمقراطية وجميع نشاطاتها الثقافية ناهيك عن السياسية، لكن المثقفين والمبدعين الشيوعيين والديمقراطيين عموماً واصلوا إبداعهم من داخل السجون والمعتقلات، وبغض النظر عن مواقفهم السياسية والشخصية، وهل حافظوا على قناعاتهم الفكرية أم تخلوا عنها؟! وكانت كتابات بعضهم تتسرب عبر جدران السجن لتصل الى النشر في الداخل والخارج، أو إلى أيدي بعض القراء على الأقل!

في هذا الجو أعتقد أن الجيل السبعيني بدأ يتكون وتتضح ملامحه، فهو إستمرار للجيل الذي أفرزته ثورة الرابع عشر من تموز، وإضافة جديدة ونوعية لذاك الجيل، ولكنه يختلف في التكوينات الجديدة التي أسست لظهوره، وكذلك في توجهاته اللاحقة ووسائل وأشكال تعبيره .

مميزات جيل السبعينات الثقافي في الناصرية
بالرغم من أن جيل السبعينات هو إستمرار للجيل الستيني الذي ساهمت في صنعه ثورة الرابع عشر من تموز، وكل ما سبقها من أحداث وتجارب، لكن هذا الجيل( الذي أنتمي اليه ) لم يكتوِ مباشرة بجحيم إنقلاب شباط الدموي، ولم يزج بمعظمنا في السجون والمعتقلات ولم نتعرض، مثل من سبقنا من المثقفين اليساريين والشيوعيين للتعذيب الذي تعرضوا له، ولذلك كانت لنا سمات خاصة يمكن إجمالها فيما يلي:
1 - أعتقد أن مصادر ثقافة الجيل السبعيني إختلفت كثيراً عن مراحل تأسيس ثقافة الجيل الستيني الذي أفرزته ثورة تموز، إذ تنوعت مصادر ثقافة جيلنا السبعيني كثيراً، بفعل التطور النسبي للإعلام وخصوصاً النشر والترجمة، فجيلنا عاصر الوجودية ونهل من منابعها وتأثر بفلسفتها ونماذجها، كما تعرف على السريالية والدادائية والتجريدية وبقية المدارس والمذاهب الأدبية والفنية المختلفة، كما قرأ جيلنا لرامبو وبودلير وادجار الان بو وأيفتوشنكو وسارتر وكامو وكولن ولسن، والأدب اللامعقول، ولم تقتصر قراءاته على الأدب العربي القديم والمنفلوطي وألأدب السوفيتي والواقعية الأشتراكية وقصائد مايكوفسكي، لقد كانت عشرات الكتب المترجمة تصلنا كل عام وعن مختلف اللغات والبلدان الأوربية، كما كان هناك العديد من المجلات الثقافية المتخصصة والقادمة من مصر ولبنان، كمجلة السينما والمسرح والأداب والأديب والمجلة والفكر المعاصر والقصة والمعرفة والهلال وكاليري 68 وغيرها، كما صدرت في هذه الفترة مجلات عراقية هامة كمجلة الكلمة في النجف والأقلام والشعر 69 وأعيد إصدارالثقافة الجديدة ومجلة الثقافة التيؤلأس تحريرها الدكتور صلاح خالص، والكثير غيرها، وفي هذا المجال يمكن التأكيد الى أننا كنا أكثر إنفتاحاً من الجيل الذي سبقنا بحكم عوامل معظمها ذات طابع موضوعي تتعلق بتطور وسائل الأعلام وكثرة الترجمة والظروف السياسية والأقتصادية والأجتماعية الجديدة التي عشناها ولم يعشها الجيل الذي سبقنا .
2 - تميز جيلنا عن الجيل الذي سبقه بالتمرد ورفض كل ما هو يقيني وثابت، فقد شهدنا الثورة الطلابية في فرنسا عام 68 ، وثورات الشباب في عموم أوربا، والمغامرة الثورية الجيفارية في أحراش بوليفيا والإستشهاد البطولي لجيفارا، وحركة الكفاح المسلح في الأهوار، وإنشقاق الحزب الشيوعي العراقي وظهور تنظيم القيادة المركزية، ونكسة حزيران، وإنهيار وهزيمة المشروع القومي وتجربة عبد الناصر، وظهور المقاومة الفلسطينية المسلحة والحركة الفدائية، وإرتفاع شعبية الأفكار الماركسية واليسارية، وقد تركت كل هذه الأحداث أثرها الواضح في توجهاتنا وسلوكنا، وفي نتاجنا الثقافي ألأدبي والفني.
3 - كان لآنقلاب 1968 ومجيء البعث مجدداً للسلطة وألأجراءات المخادعة والذكية، التي عمدت لها السلطة الجديدة في الأيام الأولى لمجيئها من أجل تثبيت هيمنتها، كدعوتها للحوار مع القوى الوطنية وإصدار بيان 11 آذار وإيقاف القتال في كردستان، وإنفتاحها على المعسكر الأشتراكي، ثم إقامة الجبهة الوطنية مع الحزب الشيوعي العراقي، وقبله التحالف الجبهوي في إتحاد الأدباء ونقابة الصحفيين وعدد من الجمعيات والمنظمات الفنية والأدبية، وإعادة صدور مجلة الثقافة الجديدة، ثم صحيفة الفكر الجديد وطريق الشعب، كان لكل ذلك أثره في تهيئة ظروف أفضل للأنفتاح والتعبير، فنشطت حركة ثقافية غير مسبوقة في عموم العراق، ومن بينها في مدينة الناصرية .

أين تجسدت تجليات جيلنا السبعيني ثقافياً في الناصرية ؟
الحقيقة إن حصر النشاطات الثقافية المتنوعة لجيلنا السبعيني في المحافظة ضمن أطر وعناوين محددة أمر في غاية الصعوبة، فالنشاطات الثقافية كانت من التنوع والغزارة بحيث لا يمكن تحديدها ضمن إطار، ولكني سأحاول أن أؤشر على بعض العناوين ومن بينها .
1 - جمعية رعاية الفنون والأداب في الناصرية : تأسست هذه الجمعية في 28 |12 |1970 وكان المبادر الرئيسي لتأسيسها الفقيد رزاق خطار، الذي بذل جهداً إستثنائياً من أجل إستحصال إجازة الجمعية اولاً من الجهات الرسمية في المحافظة، ثم تحشيد كل مبدعي المحافظة للإنتماء لها والنشاط من خلالها، والجدير بالذكر أن الفقيد رزاق خطار، الخارج قبل قليل من سجون النظام، لم يكن على حد علمي أديباً أو فناناً، كان مثقفاً شيوعياً فقط، وإدارياً من الطراز الأول، وهو أقرب الى السياسة منه الى الثقافة، ولكنه تمتع بالديناميكية والصبر والقدرة على الحوار والأقناع، وكانت له علاقات جيدة مع مسؤولي المدينة من البعثيين، وخصوصاً مع جاسم الركابي،فإستثمر هذه العلاقات من أجل إجازة الجمعية ومن ثم تسهيل عملها ونشاطاتها، وكانت الجمعية محسوبة في الشارع على الحزب الشيوعي العراقي أو على جماعة اللجنة المركزية ، تمييزاً لهم عن جماعة القيادة المركزية، التي كان لها تنظيمها ووجودها في ذلك الوقت في الناصرية، وقد ضمت الجمعية تقريباً كل الأدباء والفنانين في المحافظة، فكان ضمن أعضائها الشعراء والقصاصون والمسرحيون والتشكيليون والموسيقيون وغيرهم، وقد نشطت الجمعية نشاطاً غير مسبوق، وكانت أول أمسية ثقافية لها بمناسبة الذكرى السادسة لرحيل الشاعر بدر شاكر السياب، نهاية كانون الآول 1970 وأذكر إني قدمتُ في هذه الأمسية دراسة طويلة عنوانها ( الموت في شعر بدر شاكر السياب ) وكانت الأمسية في نادي الموظفين الذي كان بعهدة صالح زوّير.

إستأجرت الجمعية مقراً لها، وأيضاً بجهود رزاق خطار، الذي إستثمر صداقته لسمير يوسف الصيدلي في أن يستأجر بيتهم الكبير، وبسعر رمزي، وفي هذا المبنى الجميل والواسع الذي يقابل سينما البطحاء الشتوي، كانت الدورات الموسيقية تتواصل على يد الملحن كمال السيد، وتتواصل أيضاً امسيات الشعر الشعبي والقصة والحوارات والمحاضرات، كما كان يجري التخطيط للمسرحيات، وكان أول عمل مسرحي للجمعية نص مصري، عرقّه وأخرجه الفنان يقظان الدرويش وهو( الرجل الذي ضحك على الملائكة ) وهو من بطولة يقظان الدرويش أيضاً مع عدد كبير من ممثلي الناصرية، وقد عرضت المسرحية في الناصرية والشطرة وسوق الشيوخ ولقيت إستقبالاً كبيراً من قبل الجمهور في هذه المدن الثلاث، وكنت أحد ممثلي هذه المسرحية الى جانب عدنان عبد الصاحب ونجاة الركابي، وعلي العساف ومجيد ميثم وغيرهم، وبعدها ساهمت الجمعية في مهرجان يوم المسرح العالمي في البصرة بمسرحية المغني، وهي من تأليف الفقيد قاسم دراج، ولا اتذكر من أخرجها، وقد مثلت فيها دور البطولة وفزت بالجائزة الثانية لأحسن ممثل في المنطقة الجنوبية، وتوالت العروض المسرحية للجمعية ومن عدد من المخرجين، كما توالت الأمسيات الشعرية والأدبية على قاعة المكتبة العامة وقاعة البهو وفي الشطرة أيضاً، وبمشاركة معظم الشعراء والأدباء في المدينة، وأذكر إني قرأت قصيدتي ( أبحت دمي ) وكدت أعتقل لجرأة مضامينها، وقد قرأتها في الناصرية والشطرة ضمن أمسية شعرية ضمت الراحل رشيد مجيد وكزار حنتوش وعريان السيد خلف، وقرأ الشاعر كاظم جهاد( الذي كان صبياً حينها) أول قصائده في أمسية الناصرية ، كما قدمتُ في أمسية أخرى، أوائل عام 1972 ، في بهو البلدية، دراسة نقدية لشعر ( توفيق زياد )، وفي الموسيقى تم تخريج دورة تضم أكثر من عشرين عازفاً على الكمان، دربهم الفنان الفقيد كمال السيد، وفي الشعر الشعبي كانت هناك أمسيات خاصة شارك فيها صالح هادي شنان وناصر الزيدي وآل العضاض جميعاً كما أعتقد، وإسماعيل محمد إسماعيل وكاظم الركابي وفاضل السعيدي وعبد الله الرجب ورحيم الغالبي ومجيد جاسم الخيون وغيرهم، وكانت مالية الجمعية من بدلات إشتراك أعضائها ومن مردود بيع بطاقات الأعمال المسرحية، ومن تبرعات الأصدقاء، وقد إنتقل مقر الجمعية فيما بعد الى عمارة تقع بالقرب من مقرها الأول، ولا أتذكر هل بقيت في هذا المكان حتى إغلاقها، أم إنتقلنا لمكان آخر، وكانت إنتخابات الهيئة الأدارية للجمعية تجري سنوياً، وكنا نحن الشيوعيين نشكل العمود الفقري لتلك الهيئات، إذ لم يكن بين البعثيين في المدينة مبدع معروف لينافسنا، وعندما أحس البعثيون بدور الجمعية ومكانتها وبنفوذ الشيوعيين داخلها، بادروا للحوار معنا من أجل الأتفاق على إدخال عدد من المحسوبين عليهم ضمن قوام الهيئة الأدارية، واذكر أن إنتخابات عام 1972 للهيئة الأدارية، وهي الأنتخابات الأخيرة، تمت بعد حوار بين رفيقنا عدنان حنون ممثلاً عن الحزب الشيوعي، وجاسم الركابي ممثلاً عن البعث، فكان لهم الرئيس وهو ( عمران عيسى ) نائب رئيس إتحاد نقابات العمال في الناصرية حينذاك، والأخوة محمد حسين عبد الرزاق ومنذر حمد جار الله، في حين كان الشيوعيون يشكلون الأغلبية وهم عدنان حنون ومالك يوسف وعبد الله الرجب ومحسن الخفاجي وداود أمين، وفي هذه الأنتخابات أذكر إنني عوقبت حزبياً بالتنبيه لأن الحزب طلب مني أن أرشح كسكرتير للجمعية لأهمية هذا الموقع، ولكني رشحت كنائب للرئيس عندما لم أجد من يبادر للترشيح وفزت بهذا الموقع. وللحقيقة والتأريخ أذكر الأن أن الجمعية كانت تقاد من قبل لجنة حزبية إسمها المختصر ( لصف ) أي لجنة الصحافة والفنون، إذ من مهامها، بالإضافة للإشراف على الجمعية وتوجيهها، موضوع النشر في الفكر الجديد، وتتكون هذه اللجنة من الرفاق عدنان حنون وعبد الله الرجب ومحسن الخفاجي وداود أمين ويقودها تركي كطامي، ثم قادها بعده الرفيق عدنان حنون، وهي التي هيئت لفعالية الذكرى الخمسين لتأسيس الأتحاد السوفيتي في 30 | 12| 1972 ، والتي أغلقت الجمعية بسببها، وبعد إغلاق الجمعية تحولت هذه الهيئة الحزبية الى ( لصن ) أي لجنة الصحافة والنشر، ثم الى المكتب الصحفي بعد إفتتاح مقر الحزب في المدينة وصدور طريق الشعب، وكنت مسؤول هذا المكتب.

تقييم تجربة الجمعية
إذا كان لي أن أقيم تجربة جمعية رعاية الفنون والأداب تقييماً موضوعياً منصفاً بعد هذه السنوات الطويلة، فيجدر بي أن أؤكد أنها تجربة ثقافية رائدة جمعّت ووحدت عشرات المبدعين من أبناء المحافظة، ورغم إن طابع أعضائها والمنتسبين لها كان طابعاً يسارياً أو محسوباً على الشيوعيين ، إلا أن ذلك لم يكن مقصوداً، فهو أمر موضوعي بحكم يسارية المدينة ومثقفيها وقلة أو إنعدام من كانوا محسوبين على البعث أو على الأفكار القومية، كما أصبح للجمعية جمهور واسع من متابعي أعمالها والمشدودين والمرحبين بنشاطاتها، بالأضافة للسمعة التي كسبتها على مستوى المنطقة الجنوبية وبقية المحافظات .

كما يجدر بي الأن ألأعتراف، إن تنظيمنا لفعالية سياسية، كالأحتفال بمرور 50 عاماً على تأسيس إتحاد الجمهوريات السوفيتية، وتحشيدنا الحزبي لهذه الفعالية، بحيث غصت قاعة البهو الواسعة بالجمهور، وبحضور المحافظ وضيوفه، كان أمراً متطرفاً وخاطئاً وغير مقبول، وقد تضاعف هذا الخطأ عندما بادر رفيقنا عبد الله الرجب لخلع قميصه الأبيض والظهور بفانيلته الحمراء فقط، ليقرأ قصيدة عن ثورة أكتوبر، فيها مقطع فُسر على أنه إساءة للدين، وكان بأمكاننا، لو أدركنا عاقبة ما سيحصل، معاقبة عبد الله معنوياً في إجتماع الهيئة الأدارية اللاحق، كتوجيه النقد اليه أو تجميده من العمل داخل الهيئة الأدارية، لكننا وقفنا الى جانبه، معتمدين على كوننا كنا نشكل الأكثرية، ولو فعلنا غير ذلك، ربما لتجنبنا إغلاق الجمعية، وربما لتجنبنا محاكمة وسجن رفيقنا عبد الله الرجب أيضاً، ولكن ما أقوله وأفكر به الأن، لم يكن يخطر في بالنا حينذاك فخسرنا، نجن الشيوعيين واليساريين أولاً، كما خسرت الحركة الثقافية في المدينة ثانياً، ومنذ إغلاق الجمعية لم يعد في مقدورنا، نحن المثقفين الشيوعيين، ممارسة نشاطنا الثقافي، وأذكر إننا إضطررنا بعد سنوات من إغلاق الجمعية، من التدريب في بيت عبد الله الرجب، وفي ظروف شبه سرية، لنقدم أمسية ثقافية متنوعة، في جمعية التشكيليين في بغداد، بأسم مثقفي الناصرية، بعد أن هيأ رفاقنا في الجمعية لنا لتحقيق ذلك .

2 - مديرية التربية : لعبت مديرية تربية الناصرية والنشاط المدرسي التابع لها، دوراً بارزاً ومشهوداً في تنشيط العمل الثقافي في السبعينات، خصوصاً في مجال المسرح والأوبريت والمعارض التشكيلية ومسابقات الشعر والخطابة، وقد ضمت مديرية التربية مختلف الكفاءات الفنية والثقافية، بحكم إنتساب عدد كبير من المبدعين للتعليم، من تشكيليين وموسيقيين ومسرحيين، وكانت سلطة البعث بحاجة لهؤلاء، في صراعها في الميدان الثقافي مع الشيوعيين، وكانت السنوات الأولى بعد وصول البعث للسلطة صعبة عليهم، إذ كانت جميع المضامين المطروحة في النشاطات الفنية والأدبية، لا تخدم توجهاتهم وأيديولوجيتهم، ولكن مع مرور الوقت بدأ البعثيون في سحب وكسب الكثير من رموز هذا الوسط الهام .


الفنانون ناصر العساف وداود أمين والشهيد حميد نذير وكوكب حمزة وقصي البصري

ومن الجدير بالذكر إن أعمالاً مسرحية مثل الحواجز لمهدي السماوي والغريب لعزيز عبد الصاحب اللتان قدمتا عام 1967 كانتا من إنتاج المدرسة المركزية ، كما كانت مسرحية (أسياد الدم) وهي من أخراج عزيز عبد الصاحب و(الطقوس الأخيرة) لبهجت الجبوري والمسرحيتان من تأليف عبد الكاظم إبراهيم، كانتا من إنتاج ثانوية الجمهورية، أما مسرحية( المسيح يصلب من جديد) لحازم ناجي ومسرحيات (ستربتيز، ولويش وشلون وإلمن) وغيرها من المسرحيات الكثيرة، وهي من إخراج صالح البدري فقد إنتجتها مديرية التربية أيضاً، وكذلك أنتجت مديرية التربية أوبريتات (جنيات الوادي، وجذور الماء، وأبو الهيل) وغيرها .


صورة تجمع القاص محسن الخفاجي والفقيد كاظم العبودي وحازم ناجي وداود أمين

3 - منظمات أخرى: وعدا جمعية رعاية الفنون والأداب ومديرية التربية، فقد أنتج إتحاد نقابات العمال في الناصرية عام 1969 مسرحية ( في إنتظار اليسار ) وكانت من إخراج حكمت داود ومثلت فيها الى جانب عبد المطلب السنيد وكاظم العبودي وفخري عرب وعواطف داود وغيرهم، كما أنتج الأتحاد الوطني مسرحية ( السر) وهي من تأليف محي الدين زنكنة وإخراج حميد البنا، وكانت بعض النقابات والأتحادات تنتج أعمالاً مسرحية أو تقيم أماسي ثقافية متنوعة وفي معظم مدن المحافظة.


مشهد من مسرحية الطقوس الأخيرة وفيها بهجت الجبوري وداود أمين

دور المقهى في حياة المدينة
تحدثت عن مقهى عزران البدري ودورها في عقد الندوات الثقافية والفكرية كل أربعاء من كل أسبوع طوال الأربعينات والخمسينات، والحقيقة إنني لم أعاصر هذه الفترة ولم أحضر أمسية من هذه الأماسي ، التي كان معظمها قبل ولادتي وبعضها وأنا صغير، ولكني عاصرت وجيلي السبعيني مقهى ( أبو أحمد) التي أعتقد إن الجميع يعرفون موقعها مقابل مكتبتي جبر غفوري وطاهر غفوري، ففي هذه المقهى التي ليس فيها دومينو أو طاولي بل ولا حتى شطرنج، كان يجتمع يومياً معظم مثقفي المدينة، وفي هذه المقهى تعرفت على الفقيد عزيز عبد الصاحب فإختارني لأمثل دور البطولة في مسرحية الغريب، وفي هذه المقهى كانت المشاريع الأدبية والفنية تناقش وتنضج، وفيها كنا نلتقي بأدباء وفناني بغداد والمحافظات الأخرى الذين يزورون المدينة أثناء النشاطات الثقافية أو للنزهة والأطلاع، وكان لشخصية صاحب المقهى الفقيد( أبو أحمد )نكهتها الخاصة فهو صديق الجميع ويتسم بالمرح وروح الدعابة، ولم يكن يهمه الربح بقدر ما كان يهمه توفير مناخ طيب لزبائنه من المثقفين. وكان يعرف مزاج زبائنه ويتفهم نفسياتهم والكثير من تعقيداتهم، ولم تكن تعقد في المقهى ندوات أو نشاطات ثقافية كانت ملتقى المثقفين فقط.


مشهد من مسرحية المسيح يصلب من جديد وفيه داود أمين وإيمان خضر

صحافة الحزب الشيوعي العراقي:
الحقيقة إن لجريدة طريق الشعب والفكر الجديد ومجلة الثقافة الجديدة دوراً لا يمكن إغفاله في فترة السبعينات، إذ كانت في هذه المنشورات، وخصوصاً في الصحيفة اليومية طريق الشعب، مادة ثقافية وسياسية وفكرية غنية لا يمكن للمثقف أن يتجاوزها، وكان جمهور المثقفين في المدينة يتلهف لقراءة الصحيفة يومياً ويتطلع لما يرد فيها من كتابات سياسية وأدبية وفكرية فالشاعر الكبير سعدي يوسف كان يشرف على الصفحة الأدبية اليومية فيها، وكان لعمود ( أبو كاطع ) شمران الياسري سحره وشعبيته لدى الجميع وبينهم المثقفين، وكذلك كتابات يوسف الصائغ وحميد الخاقاني وقاسم عبد الأمير عجام ومصطفى عبود والعشرات غيرهم .


من اليمين الفنانين بهجت الجبوري وعدنان عبد الصاحب وكاظم إبراهيم وداود أمين


من اليمين الفنانين حازم ناجي ومحمد مبدر وكاظم إبراهيم وداود أمين

بعض أسماء مبدعي الجيل السبعيني في الناصرية الحقيقة أن تذكر جميع أسماء مبدعي جيل نهاية الستينات والسبعينات، أمر في غاية الصعوبة والتعقيد، لتشعبهم في نشاطات أدبية وفنية كثيرة أولاً، ولأنتشارهم في مدن المحافظة المختلفة ثانياً، ففي القصة القصيرة والرواية برزت أسماء محسن الخفاجي وجبار العبودي وجاسم عاصي وبلقيس نعمة العزيز ونبيل حسين وحسين السلمان ومحمد وادي، وفي الكتابة للمسرح برزت أسماء مهدي السماوي وعبد الكاظم ابراهيم وقاسم دراج وقيس لفته مراد وعزيز عبد الصاحب، وفي الشعر حسن الخياط وخالد صبر وشريف معارج وكاظم جهاد وكزار حنتوش وعادل فليح وداود أمين، وفي الشعر الشعبي كاظم الركابي وزامل سعيد الفتاح ومجيد جاسم الخيون وفاضل السعيدي وعبد الله الرجب وعادل وجليل وعبد الأمير العضاض وناصر الزيدي وجبار الغزي، وفي الموسيقى كمال السيد وطالب القرغولي وحميد نذير وحسين نعمة وحسن الشكرجي وفوزي صبيح وفاضل عبد الجبار وفوزي عبد العزيز وسامي كاظم وموفق كاظم ومطشر عبد الرزاق وأحمد كنوّ وفتاح حمدان وفي المسرح راجي عبد الله وبهجت الجبوري وكاظم العبودي وعدنان عبد الصاحب وصالح البدري وحكمت داود وحازم ناجي وعبد المطلب السنيد وفخري عرب وحسين جاسم ومالك يوسف وعلي السعيدي ومحسن الخفاجي وطالب الشطري وستار دلي وعباس علاوي وعادل ملا عمران وفليح حسن وفوزية حسن وحيدر الجاسم وكامل حسين وجعفر صبري ثم إلتحق بهم سعد شهاب وزكي عطا وأحمد موسى ومحمد مبدر والعشرات غيرهم.

 

 

free web counter