| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

داود أمين

 

 

 

                                                                                       الجمعة 23/9/ 2011

 

في مهرجان اللومانتيه لهذا العام 
يسار فرنسي يتلاحم، وطريق الشعب ساحة للثقافة العراقية المتنوعة
(1)

داود أمين

ربما كنت محظوظاً أكثر مما ينبغي، بل ربما إلتحمت الصدفة بالضرورة، لتقحمني خلال إسبوعين متتاليين، في مهرجانين ثقافيين عراقيين كبيرين، الأول في برلين والثاني في باريس، ولآن باريس، من بين كثير من العواصم والمدن التي زرتها، لها في ذاكرتي طعم عسل لا يُقاوم، وعبق فُل ورازقي مرشوش في ثنايا الروح، باريس  تعيد لي، في كل مرة، شبابي الهارب وفتوتي الراحلة، أسير في شوارعها متصفحاً وجوه الجميلات، أوزع نظراتي بعدالة وإنصاف، على عيون وخدود هذا المنتج العجيب، من عصارة سلسلة لا تُحصى، من القوميات والأديان والقارات، أجلس في مقاهيها مرتشفاً قهوة لا تُمل، متناولاً في حيها اللاتيني وجباتي المفضلة. في ساحة رساميها أتخيل زاوية بيكاسو، وألحظ ركن صلاح جياد، وتسرقني أقدامي نحو متحف سلفادور دالي. في اللوفر أتسمر أمام إبتسامة الموناليزا، وأتسامى وأرتقي أمام مسلة حمورابي، وفي كنيسة نوتردام يسكنني الصمت، بفعل هيبة المكان، وعظمة اللوحات والتماثيل وهندسة البناء، وتحت برج إيفل يتطاول الإنسان في داخلي، فصنوي من أقام هذا الصرح المُبهر، أمام قوس النصر وفي الشانزليزيه، أنصت لأحذية الجند وهي تخبط الأرض، مستعرضة إنتصارات حروب لا تحصى، وسط حشد المشجعين على الجانبين، وأرى نابليون يضع يديه تحت أبطيه، مبتسماً بثقة وغرور، غير منتبه للمصير الذي سيؤول إليه! في باريس أقف أمام بقايا سجن الباستيل منصتاً لصراخ حشود المهاجمين وهم يحررون سجناءه، ملتفتاً للساحة الجميلة التي تحيطه الأن، ولدار الأوبرا الجديدة القريبة من المكان. باريس هذا العام، وكما في كل عام، تعيد لروحي هدوئها المرتبك، وتمنحني دفء بهجة أستثنائية، وسيظل العطش اليها دائماً وأزلياً حتى نلتقي! أما اللومانتيه، هذا المهرجان الذي تعرفت عبره وبسببه بباريس وفرنسا، ففيه أحبس نفسي، كل مرة، ثلاثة أيام متتالية، بقناعة ورغبة وإمتثال، فالقرية الأممية المصنوعة من خيم وأعمدة وحبال، تختصر أنبل ما في كرتنا الأرضية من القوى الإنسانية التي تعشق الحرية والحب والسلام، وفيه أستطيع أن أشم عرق وكفاح كل الشعوب، وأتلمس تطلعاتها للحرية والمستقبل، أستمع لموسيقاها، وأشم أبخرة مطابخها، وأدهش أمام سحر وغرابة وتنوع أزياءها. 

يوم الإفتتاح  

من مطار أورلي جنوب باريس، حيث حطت طائرتنا مساء الأربعاء، إلى فندقنا في شمالها، إستغرقت الرحلة حوالي نصف ساعة، سائق التاكسي الجزائري، الذي ركبنا معه، كان لطيفاً، وبين العربية والأنكليزية المكسرتين، إستطعنا أن نتفاهم! الفندق كان جيداً وغرفتنا ممتازة، ولم يكن أمامنا سوى إكتشاف المحيط، والمطعم الذي سنتعشى فيه، وهذا ما فعلناه بعد قليل.

صباح اليوم التالي الخميس، كانت الجولة الحرة بداية لإستعادة صور مناطق لم أرها منذ عامين، محطة بيكالي الضاجة بالحركة والسواح من كل الأجناس كانت مبتغانا، والكنيسة الأثرية العملاقة، التي تشمخ فوق مرتفع شاهق، هي ما قصدناه، الكاميرا التي أحملها سجلت ملامحنا والمكان، وفي ساحة الرسامين، التي جلس عندها بيكاسو ومئات الفنانين المنفيين من أمثاله قبل عقود، كان العشرات يجلسون هادئين أمام رسامين جدد، يخطون ملامحهم فوق ورق ابيض، الساعات كانت تمضي، والثالثة عصراً كانت موعدنا مع العزيز طه رشيد، الذي نقلنا بسيارته من الفندق لموقع المهرجان.


صلاح جياد


سعدية

في خيمة (طريق الشعب) المشيدة في نفس مكانها المعهود في شارع تشي جيفارا، داخل القرية الأممية، كان المسرح الواسع الذي يحتل وسط الخيمة غاصاً بالمكرفونات وأجهزة التسجيل، وكل ما يخطر على البال من أدوات العمل. شباب جدد لم أرهم من قبل إعتلوا الخشبة، يجربون أصواتهم ويمتحنون سلامة الأجهزة، الفنان صلاح جياد يصل بلوحته الكبيرة لمنتصفها تقريباً، متفحصاً ومعدلا في ملامح الطفلة الحزينة المحاطة بلهب أحمر، الأعداد تتزايد، ومع كل دقيقة يفد زائر جديد، فيُستقبل بالقبلات والأحضان، ولأني من مدمني هذا المهرجان ورواده الثابتين، فقد كان إستقبالي للقادمين مزيجاً من الفرح والدهشة والإحتضان. أم فرح وأبو فرح القادمان من هولندا منشغلان بإعداد قيمة نجفية لخمسين زائر محتمل، فالليلة يفتتح المهرجان، والليلة يلتقي الحاضرون بقيادة الحزب التي مثلها الرفيق رائد فهمي. أم بشرى المولودة مع الحزب عام 1934، تلتقي سعدية القادمة من لندن، وبشرى الحكيم القادمة من هولندا، وتستعيد الرفيقات الثلاث، في جلسة حميمة، أيام الإعتقال المشترك لهن عام 1979 !

قبل الثامنة بقليل أعلن عريف الحفل العزيز رحمن عن إفتتاح المهرجان ودعا الحاضرين للوقوف دقيقة حداد على أرواح شهداء الحزب والوطن والثقافة العراقية، ثم دعا الرفيق خالد الصالحي ليلقي كلمة منظمة الحزب الشيوعي العراقي في فرنسا، والتي اكد فيها على تحول خيمة طريق الشعب لهذا العام لتظاهرة ثقافية عراقية، سيساهم فيها مثقفون عراقيون من أوربا والداخل، وإعتبر هذه التجربة رقم صفر، ومنذ العام القادم يؤرخ لهذه الفعالية، وشكر الرفيق خالد المثقفين الذين وقفوا إلى جانب إنجاح هذه الفعالية، وبينهم حازم كمال الدين وكريم سلمان وماجد مطرود، كما تحدث عن ثقافة العراق القديمة وعن ملحمة كلكامش والقيثارة السومرية والفن الفخاري والمدرسة المستنصرية، مؤكداً على إن الشعب العراقي يتكأ على ثقافة عظيمة عمرها ألوف السنين، وعلينا نحن ورثة هذه الثقافة أن نعكسها للأخرين.


رائد فهمي

ثم قدم عريف الحفل الرفيق أبو رواء (رائد فهمي) الذي بدأ حديثه مرحباً بإسم هيئة تحرير طريق الشعب بالحاضرين، مؤكداً أن الخيمة، التي تعاقبت عليها أجيال من الرفيقات والرفاق، لم تعد للشيوعيين العراقيين فقط، بل هي خيمة كل العراقيين. ثم تحدث عن الوضع السياسي، مشيراً لإشتداد ألأزمة السياسية التي أعقبت الإنتخابات الأخيرة، التي جاءت نتيجة قانون إنتخابي مشوه، والذي أفرز حكومة محاصصة إثنية طائفية، لم تستطع حل أزمتها التي تستفحل كل يوم، والتي قادت لشل أجهزة الدولة، وعجزها عن التصدي لمشكلة الأمن التي تتفاقم، ولإنعدام الخدمات، ثم تحدث عن القوى الديمقراطية، وإنها إن أحسنت تنظيم نفسها، فستستطيع إنهاض قوى الشعب، وتحقيق مكاسب ملموسة، وقد أجاب الرفيق على أسئلة وملاحظات السائلين. بعد العشاء النجفي المميز، عدنا في سيارة زملاءنا القادمين من بلجيكا، فنحن نسكن في نفس الفندق، وإتفقنا أن نكون معهم في الغد، من الفندق للمهرجان وبالعكس، وطوال أيام المهرجان. 


صورة الشهيد هادي

اليوم الأول للمهرجان

بعد الفطور الذي تم في مطعم الفندق، إنطلقنا صبيحة الجمعة، السادس عشر من أيلول، في السيارة نفسها، وأمام مدخل المهرجان إشترى كل منا تذكرة الدخول ب20 يورو لثلاثة أيام، كانت الشرطة الفرنسية موجودة بكثافة، لحفظ الأمن، وحل أي إشكال يحدث. لم تكن خيمة طريق الشعب بعيدة عن المدخل الذي سلكناه، كانت اللافتة الكبيرة التي إرتفعت خارج مقدمة الخيمة تسجل حروف إسم الصحيفة ( طريق الشعب ) بجلاء ووضوح، وجوه أخرى جديدة نلتقيها داخل الخيمة وحولها، لذلك تتكرر القبلات والأحضان، مسرح الخيمة زينته صورة كبيرة لشهيد الثقافة العراقية هادي المهدي، وقد أحيطت الصورة بالجوري الأحمر، وإشتعلت تحتها الشموع، شاشة تلفزيون بلازما كبيرة الحجم في زاوية المسرح، وأخرى مشابهة أمام الخيمة، حائط الخيمة على جهة اليمين ثُبت فوقه معرض لصور فوتغرافية عن المندائيين وتقاليدهم، وصور جديدة أخرى للفنان الفوتغرافي المبدع عباس القادم من ألمانيا، في حين زينت لوحة الفنان صلاح جياد، جدار الخيمة من جهة اليسار، أما خلفية المسرح فقد ثبت فوقها بوستر كبير لصحافة الحزب الشيوعي العراقي منذ صحيفته الأولى (كفاح الشعب). 

الكراسي توزعت داخل الخيمة، وتم الإعلان عن بدء النشاطات الثقافية بمحاضرة للدكتور تيسير الآلوسي عن الثقافة العراقية، التي أكد إنها حية لا تموت، وإنها أبدية مثل وطن النخيل، وقد أثارت المادة الكثير من النقاش الحيوي لدى الحاضرين، بعدها تم فتح أبواب الخيمة ليشيد ( الكبكجية ) الهواة موقدهم من طابوق وجص! فالمنقلة الحديدية القديمة، تقاعدت بعد سنوات خدمة طويلة، وقد تصدى لمهمة البناء والتشييد الرفيق الدكتور سعد القادم من هولندا، والمتطوع منذ سنوات في قسم الكباب! موقد الشاي جلس في زاويته الأثيرة، والفحم بدأت تعلوه حمرة خجل خفيف، وهو يلامس هواء مروحة كهربائية! الهيل يطل من عليائه نحو قزان الماء الذي بدأ يغلي، منتظراً لحظة تكحيله لعيون ( الإستكانات ) التي إصطفت كجنود الشطرنج في إنتظار تحريك نحو الشفاه. راهبة الخميسي القادمة من السويد، وكما في كل عام، تلبس طقم العمل، صدرية وكفوف نايلون بيضاء، فتبدو مثل ممرضة محترفة، وهي تشيش الكباب بحرفية عالية، ترافقها في ( التشييش) سعدية القادمة من لندن، رغم وضعها الصحي الصعب، ماجد فيادي القادم من ألمانيا، يواصل نفس عمله الذي أجاده منذ كان أعزباً، ومنذ تزوج، ومنذ أصبح أباً! والفرق في الحالات الثلاث، هو أن ماجد كان يأتي وحيداً، ثم هو وزوجته، ثم هو وهي حامل، ثم هو وزوجته وإبنتهم ليليان الجميلة، والفرق أيضاً في خبرة تزداد وسرعة تتضاعف، لذلك ما أن تنتفخ أوداج الحمص المنقوع قبل يوم، ويحاول الإفلات من الإناء الذي يحتويه، حتى يذله ماجد بسحقه في مطحنة كهربائية، مع خليط، لا أدرك تفاصيله، ليخرج جاهزاً للسقوط بإستسلام وطواعية وسط زيت مغلي، يحيل لونه من أصفر مخضر لبني قاتم ! صباح ومنال يتناوبان على منقلة الشاي، مجموعة من شباب الجيل الثاني، من الجنسين، معظمهم من ( أل ميران ) بدأوا ببيع لفات الفلافل،علاء يتسلم النقود من المشترين، مديراً لشؤون إقتصاد الخيمة، وبجانبه ثلاجة مليئة بالمشروبات الغازية، أما عدنان المشغول منذ يوم الإثنين الماضي بكل شيء فهو يدور في كل ركن، واضعاً يده في كل حاجة!  خلف الخيمة يشترك حشد متنوع من شغيلة الزلاطة يمتد من الفنان فيصل لعيبي لأم سمير وأختها سلوى القادمتان من لندن، إلى أم فرح وأم سلام وأبو نصير وأبو تغريد وأبو سلام التميمي وأبو إيهاب دانمارك وعبد الرحمن (أبو زينة)، والشبيبة القادمين من بولونيا وغيرهم، كما يحتشد عدد من الرفيقات والرفاق والأصدقاء، ممن لم يحضروا ندوة الأمس، حول الرفيق رائد فهمي ليتحدث لهم عن آخر مستجدات الوضع السياسي في الوطن وموقف الحزب أزاء الأحداث . 

الموسيقى لم تنقطع طوال ساعات الظهيرة، موسيقى حية ومسجلة، وعلى وقعها كان النازلون والنازلات لا يبخلون بالهز والتحريك، طابور المشترين يتزايد، وخبطة ماجد وأبو فرح للفلافل تغري الشبعان، فكيف بالجائعين والنهار جاوز إنتصافه، ولم تقصر قطرات الدهن الهاربة من أشياش الكباب في الشد والإغراء، فسقوطها المدوي فوق الجمر اللاهب، يرسل أبخرة مستفزة لأمعاء الجائعين، وهكذا كانت مالية الحزب تنمو وعين الحاسود بيها عود! 

في حدود الخامسة مساءاً بدأت مجدداً فعاليات مهرجان التضامن مع الثقافة العراقية، وقدم عريف الحفل الفنان حازم كمال الدين ليتحدث عن هذه التجربة الجديدة والتي ستنمو وتكتمل بجهود المثقفين العراقيين ودعمهم وإسنادهم، مشيراً إلى أن كل ظلام العالم لن يستطيع إطفاء وهج الثقافة العراقية، بعده تم بث مقابلة صوتية مع القاص العراقي الكبير محمد خضير، الذي حيا هذه الفعالية الثقافية التضامنية، مشيراً لمعاناة الثقافة العراقية داخل الوطن وتأثرها بأزمات البلد وحروبه وحصاره وإرهابه، مؤكداً أن الثقافة العراقية تعيش دون غطاء لا سياسي ولا مادي، وإن التجمعات الثقافية الصغيرة في المدن والمحافظات تحتاج للدعم والمساندة، وإن هناك جيل جديد من المثقفين والمبدعين الشباب وفي كافة أوجه الثقافة والخلق . ثم قدم المبدع الشاب محمد الكيم القادم ضمن وفد الشبيبة من بولونيا أشعاراً بالفصحى والمحكية، وقدم بعدها زميله القادم معه من بولونيا،الفنان بشار غناوي ليقدم مجموعة من الأغاني الوطنية، أثارت إستحسان الحاضرين، بعدها كان العرض الفلكلوري للأزياء العراقية، الذي صممته وأخرجته الرفيقة بشرى الطائي، مسؤولة جمعية المرأة العراقية في أستكهولم، وشارك في العرض مختلف الأجيال، وبينهم رجال بالزي العربي والكردي، وقد صاحبت العرض أغان عراقية فلكلورية، رقص معها الكثيرون. 


العرض الفلكلوري (2)


عرض ازياء

بعد العرض الفلكلوري للأزياء بدأت الموسيقى مجدداً لتملأ محيط الخيمة وتتسرب خارجها، ومع أغنية ( مروا عليَ الحلوين ) نزل صلاح جياد فرافقته راهبة، ثم لم يلبث أبو نصير وأم أروى ونضال الزنبوري وأبو سلام التميمي وشباب وشابات الجيل الثاني من المشاركة، فأغاني مثل ( جنه جنه جنه.. والله ياوطنه ) وغيرها لم تمهل أيضاً مي شوقي وسلام ونضال وبناتها وأبو فرح وغيرهم من المساهمة التي لا تعوض.  


فرقة البصري

ثم جاءت الفقرة الهامة لفرقة البصري، حيث توسط الفنان حميد البصري ممسكاً بعوده الجميل، زوجته الفنانة شوقية وإبنه الفنان أور على الرق ليقدموا مجموعة من أجمل أغاني الطرب الأصيل والملتزم، مبتدئين بأغنية (مسى المسى والعافيه) و( إحديثه ديرتنه يلوكلها الهوى ) و( هلاهل بالنجف والناصرية ) و( أحيا وأموت عالبصرة ) و(إزغير آخ زغير) و( ياعشكنه ) و (هربجي كرد وعرب ) وكان إستقبال الجمهور للفرقة وأغانيها رائعاً ومؤثراً إذ بين التصفيق والتشجيع نزل البعض للرقص والمساهمة، وقد إختار صلاح جياد طفلة لترافقه الرقص على أغنية أحيا وأموت علبصرة! بعدها قدم الفنان علي الجدة ( أبو حسين ) مقاماته الجميلة وأغنية ( الليلة حلوة حلوة وجميلة) جاعلاً اكثر الحاضرين يشاركونه الغناء والتصفيق، ثم ختمها بأغنية (يحضيري بطل النوح شالت هديه) .  

 

يليها الحلقة الثانية  

     


 

free web counter