|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الأثنين  26  / 2 / 2018                          بدور زكي محمد                                   كتابات أخرى للكاتبة على موقع الناس

 
 

 

رواية على مائدة الأصدقاء

بدور زكي محمد  *
(موقع الناس)

كان لروايتي "غوايات الوهم" موعد على مائدة عائلة عزيزة، ومجموعة طيبة من الصديقات والأصدقاء، ذات مساء أوروبي مشبع ببرد الشتاء من خلف النوافذ. دفء المحبة ورائحة الطعام الزكّية تسابقا كي يؤجلا عنوان اجتماعنا وهو الحديث عن الرواية. ولكن بعد أن زالت نكهة الملح، وحلّ محلها طعم السكر، انتبهت إحدى الصديقات وقالت لنبدأ.

كان لدى الحظور شبه اتفاق على أن لغة النص الروائي جميلة ومتماسكة، لكن الآراء اللاحقة ابتعدت عن الجانب الأدبي، واتخذت طابع التقييم الأخلاقي لشخصيات الرواية التي تعرض يوميات أمرأة عراقية مهاجرة، وتتلخص بقصة حب، بدأت وهماً تخامر مع الزمن فأنتج عطراً لا تُقاوم رائحته، ومن سيل الخواطر العطّرة جرى نهر وأشرقت حقيقة.

أول من تحدثت وأخجلتني بثنائها، صديقة اعتبرت أن الرواية تعطي مثالاً إيجابيا في التعامل مع اختيارات المرأة الراشدة دون وصاية الأقارب من الرجال على سلوكها، وأن روايتي بعد تستحق الترشح لجائزة. كما لفتت الإنتباه إلى شخصية الأستاذ الأوروبي الذي كان يرأس داراً للترجمة الذي عملت فيه كاتبة اليوميات كونه يتمتع بالنبل والرصانة.

رأي آخر كان شديد الإختصار، قالت صاحبته وظل ابتسامة على شفتيها: أن الرواية تفيضُ حباً! ذلك ربما لأنها لم تتوقع مني كلاماً عن الحب في صياغة بدت لها جميلة، فكأنها بدهشتها المحببة تطرح سؤالاً: هل يمكن أن يمر الحب في دروب الحياة الصعبة ويبقى مشرع الأبواب على الأمل، بل هل هناك حب بهذا القدر الذي نشرته الكاتبة على أوراقها؟

الحب عاطفة ملهمة وقد كتبت عنه، أولاً لثقتي بأنه التعبير الأسمى عن وجودنا، وسبب استمرارنا، فهو عندي كما الإيمان، ولم تكن روايتي بكاءً على الأطلال، بل دعوة للحياة بأطيب معانيها. وثانياً لأني قصدت الهروب من عالم تشتد فيه النزاعات، ولا يلوح أدنى أمل لنهاية قريبة لها، فلجأت لزاوية لا أضطر فيها لمتابعة الأحداث والتعليق عليها كما كان دأبي في سنوات ماضية وأنا أكتب المقالات السياسية، وأفتش عن حقوق المرأة في ثنايا تشريعاتنا، وضمائر مجتمعاتنا. وبكلمة بسيطة رحلت بضجري من متابعة الواقع المفرط في مأساويته، إلى مدن متخيلة نسجت في منازلها قصة حب ليست مستحيلة لكنها فريدة في ترانيم أشواقها. ومن هنا انطلق رأي فقال الصديق: روايتك تُصنف على أنها رومانسية، وكان من الأفضل اختصارها إلى نصفها. ثم أضاف بنبرة يغلب عليها العجب، أو ربما عدم الجدّية في النظرة إلى المرأة التي هي محور الرواية، وكان رأيه مشفوعاً بدعابة جلبت فسحة من الضحك لدى الحضور، خفف من محكمة القيم التي نُصبت ل "غوايات الوهم"، قال: كيف قفزت تلك العاشقة فوق كل الحواجز، وكان ما كان! هل يحصل مثل هذا في الواقع؟

رأي أدبي محض أبدته صديقة تقرأ بعمق، تناولت فيه فكرة جديرة بالتأمل، قالت في تعليقها على تعدد الأصوات في الرواية: جعلتِ أحمد يتكلم عن نفسه في أحد الفصول، مع أن أماني هي الراوية، فما وجدت خصوصيته كرجل عربي، فكأنها هي التي تتحدث وتلقنه أفكارها!

وفي الحقيقة أن أحمد الذي تربع في قلب محبوبته، كان رجلاً شديد الحساسية والتميز، وقد رسمت له حبيبته صورة نادرة بين الرجال، ولذلك بدا لصديقتي وكأنه يتحدث بلسان امرأة متحضرة، وليس كرجل شرقي متخم بداء التملك.

وتضيف المتحدثة رؤية أخرى تدخل في باب التقييم الأخلاقي، فتشير إلى أنها لم تلمس في الرواية حالة عراقية مع أن النساء المغتربات المحكي عنهنّ كلهنّ عراقيات. كما أنها لم تتعاطف مع شخصية أماني، لأن شيئا من الشر عبث بخاطرها، وإن لم يأخذ مداه.

النزعة المحافظة شابت أغلب التعليقات، ولذلك قلت أن الحديث لبس ثوباً أخلاقياً لم يكن ضرورياً في التطرق إلى منجز أدبي. أحدى الصديقات قالت: نساء الرواية حديثات في إقامتهنّ الأوروبية، فكيف جرت حياتهنّ بهذه السهولة في الإنسجام مع طبيعة الحياة في الغرب، ولماذا لم تتمظهر رواسب تربيتهنّ؟

أضيف إلى ما تقدم رؤية طريفة، أبدت صاحبتها إعجابها بالرواية بحيث أنها يمكن أن تقرأها قبل أن تنام!! ثم كررت رأي الصديق عن فائدة اختصار السرد.

هذا جلُّ ما قيل عن روايتي التي هي الأولى من بين كتاباتي، فقد نُشرت لي قصص قصيرة لم تظهر بإسمي، واثنتين متوسطتين شاركت فيهما بمسابقات أدبية، إحداهما فازت ونُشرت في الثمانينيات في دمشق، والأخرى بقيت في ملفاتي. أنا لا أعتبر "غوايات الوهم" عملاً فائقاً في جودته، لكني واثقة من كوني قدمت مشاهد من الحياة، فيها من الحب ما يمنحنا الأمل بأن عالم البغضاء وعدم الإستقرار الذي نعيشه لن يطفئ في دواخلنا جذوة العاطفة.

و في جوابي على الصوت المتحفظ الذي شاب لغة الحظور، أؤكد أن حياة الكثير من العائلات العربية في أوروبا، تفصح عن حالات من تفلت بناتها من معايير تربيتهنّ، حتى بين أوساط المتدينين، فتيات دون العشرين يساكنّ رجالاً دون زواج، وبعضهنّ يستعنّ بصديقاتهنّ ليتخلصن من حملهنّ، وشخصياً اطلعت على حالة مؤلمة لطالبة في الثانوية، أهملت دراستها وكانت ضحية تلاعب شريكها الثلاثيني، وقد أسقطت حملها مرتين دون أن تلاحظ أمها شحوبها واعتلال بدنها، فكل ما كان يهمها أن ترى ابنتها ملتزمة بغطاء رأسها. وأخرى هربت من بيت أهلها وصارت تتعاطى المخدرات، ومراهقات تركن بيوتهن ليتسكعن مع شباب أوروبيين، وغير هذا كثير.

أما الوضع في العراق فلنتحدث بلا حرج، فقد أفرزت الحروب وتسيّد الجاهلين المتلفعين بالدين، أنماطاً غريبة من السلوك تُعلي مطلب الجنس على العاطفة، ثم أن الفقر المنتشر في البلاد كالوباء، يزري بالنفوس فترخص وتعبث بها النزوات، وفوق كل ذلك ما تداعى عن غزوة الدواعش، التي كشفت عن المستور في تراثنا الإسلامي من همجية وإباحية في التعامل مع النساء، فصار الجنس متداولاً أكثر من الصلاة في لغة أدعياء الدين. فما الذي يثير العجب من قصص الحب؟ اليست نساؤنا مقهورات في مجتمعاتنا، فما المشكلة إذا أحببن ولم تعترِ عاطفتهن أي خيانة لشريك أو زوج؟

ملاحظة أخيرة أصيغها بسؤال: هل من متطلبات النقد الأدبي حظور المعايير الأخلاقية؟ وإذا بدا الأمر كذلك فكم من الروايات علينا أن نسقطها من رفوف الجودة، ذلك أن للناس مذاهب شتى في نظرتهم للأخلاق، فما هو حميد منها، ربما لا يبدو كذلك بنظر آخرين، فالأمر نسبي على كل حال.

وفي رأيي أن النقد أو التقييم ينبغي أن ينصب على لغة الرواية، والرسالة التي تحملها، ومدى نجاحها في إثارة الفضول لدى القرّاء والقارئات لمتابعتها، ولا غنى هنا عن التذكير بأن الكتابة الروائية هي محض تخيّل، ولا حجرَ على الخيال كما الهوى بقول ابن عربي:

لا احتجار على الهوى *** ولهذا يُهوى ...
ولولا الهوى في الحب *** ما عُبِد الهوى



 * كاتبة عراقية

 



 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter