|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الأثنين  24  / 4 / 2017                          بدور زكي محمد                                   كتابات أخرى للكاتبة على موقع الناس

 
 

 

يوميات تصرخ بالندم
أحداث حقيقية
(3)

بدور زكي محمد  *
(موقع الناس)

وعاد الزوج! هكذا قالت محدثتي بعد أن أكملت ذكرياتها عن السجن، ولنسميها أمل، فهي وإن كان الزمن قد أخذ منها زهرة الشباب، فما زال في عينيها بريق يضجّ بالحياة، فكأنها تتمثل قول الجواهري: أنا عندي وإن خبا أملُ *** جذوة في الفؤاد تشتعل.

عاد وليته ما عاد، إنها عودة بحجم الكارثة! جفلت من عبارتها ومن ملامحها التي أفصحت عن الكثير، ترى لماذا؟ قالت وقالت، ثم تركت لي الحرية في أن أخبركم عن حالها.

عرفتها طفلة وفارقتها شابة، ثم تباعدت بيننا الأوطان، وصار لي وطن في الغربة، حتى تهيأت لي فرصة لقائها في بلد عربي حيث كان يعمل إبنها. وقد زاد حضور أختها التي تصغرها بسنتينن، من مساحة الود الذي عاش وتوطد بيننا عبر السنين. أربعون عاما تفصلني عن هذا اللقاء، فيا له من زمن قاسٍ يفرق الأحباب!

كنت أعتقد ومازلت، أن أسمى عاطفة لدى الإنسان هي عاطفة الأمومة، لأنها نتاج الطبيعة الصرفة، فالطفل بعض من جسد الأم، لكن الأمر يختلف بالنسبة للأب، نظراً لقلّة التماس اليومي بحكم التربية الإجتماعية. هذا في الظروف الطبيعية، غير أن الأب حين يُجبر على مفارقة ولده الصغير لسنوات طويلة، لابد أن يختزن لهفة عارمة لاحتضانه والحنو عليه حين يلقاه وقد أصبح شاباً يافعاً، وهذا ما لم يحصل في قصة أمل، فزوجها الذي عاد بعد الغزو الأميركي، ما كانت ملامحه مغبرةً برماد الحرب كما هي وجوه الناس آنذاك، بل كان مزهواً كامل التأنق، متطلعاً لنصيبه في دائرة الحكم، وما ظهر عليه أي اشتياق لابنه الذي كان ملهوفاً للقائه، وقد أشبعت أمه مخيلته بصورة الأب البطل الذي ترك الرتبة والجاه وانخرط في صفوف المعارضة!

والأدهى من ذلك إنه وقد جلب معه زوجة شابة تصغره بعقدين، تقدم إلى زوجته الصابرة بسؤال يفتقر إلى الرحمة، ويرشح منه لؤم دفين، سألها بنبرة استجواب وتعالي: هل اغتصبوك في المعتقل!!!
وكأنه جاء ليعاقبها على أمر لم يحصل، وإن كان حصل فإنه لا يشين الضحية، بل يزري بجلاّدها.
عاد الزوج المتجّهم ليلعب دور المستبد، وقد انتفخت أوداجه وعلا صوته وكأنه هو الذي أسقط نظام الطاغية وليس الجيش الأميركي! عاد مدججا بالسلاح والحرّاس، ومظاهر التدين الزائف.

ومع مضي الأيام لم يمنح العائد إبنه أي شعور بالأمان، بل هو لم يتورع عن تقريعه وضربه، ولم يشفع صبر الزوجة عنده في أن يحسن معاملتها، بل كان يمدّ يده ليضربها لأنها كانت تذكره بمغامرته التي جرّت الويلات على عائلتين، فهي ضحيته الاولى.

وحين ساءت حالتها واحتاجت لعملية جراحيه لقلبها المتعب، لم يحرك ساكنا، وفوق ذلك عارض سفرها إلى بلد أوروبي لتلقي العلاج على حساب شقيقها. ومما يدعو إلى السخرية إن هذا الرجل يرطن بمبادئ الدين، ومن حوله من المتملقين والمنتفعين يخاطبونه ب "الحاج"، وتعلمون يا أعزّائي القراء والقارئات الفاضلات، وأنتنّ أكثر من يفهم أوجاع هذه السيدة، أن زماننا هذا زاد فيه الحجيج من الذين يعاودون الذهاب إلى الديار المقدسة لغسل ذنوبهم.

وأكثر سخرية ما قالته سيدة قريبة لذلك الحاج حين كنت أشرح لها معاناة أمل: أعلم أنها تألمت كثيراً ولكن كيف سافرت للعلاج دون إذن زوجها؟ إن طاعة الزوج واجبة!

ليس هذا كل شيئ فهو بدل أن يعتذر عما سببه من مصائب، راح بكل صلف يتهم أخت أمل بأنها هي من أبلغت السلطات عنه، ذلك لمجرد انه يكرهها. مع إنه علم بأن رجال الأمن كانوا يراقبونه، وإن الجيران شاهدوه حين زار والدته. إن الحماقة لتتجسد في هذا الرجل، وكذا القسوة ونكران الجميل، فلو إن والد زوجته قد أبلغ عنه لجنّب العائلة ذلك المصير المحزن، ولما لقي هو نهايته على يد الأوغاد. وتفصيل ذلك أن أمل وأختها الصغرى تم إطلاق سراحهما بموجب عفو عام، لكن إدارة المعتقل استبقت والدهما بحجة أنه مريض يحتاج للعلاج، والحقيقة أنهم كانوا ينوون قتله بسمّ بطيئ المفعول، وهكذا فعلوا ثم أطلقوه بعد فترة. أما إخوة الزوج الثلاثة فقد استعجلوا إعدامهم قبل أيام قليلة من صدور العفو وسلموهم بأكياس إلى خالهم مع تحذير بأن لا يُقام لهم عزاء لأنهم خونة!

المشهد بالغ الحزن والأنين لدى العائلتين؛ البنات والأبناء يحيطون بأبيهم، وهو يحنو عليهم ببقايا ضوء خافت من عينيه، بينما السم يجري في عروقه ولا ينفع معه طب ولا شكوى لمالك الأمر، لكن الزوجة المريضة الصابرة تستغرق في دعائها علّ القدير يسمعها ويمدّ إليها يد الرحمة، آخر الكلمات التي همس بها لبنته الوسطى كانت: أوصيكِ بأختيكِ.
وفي الجانب الآخر أمّ فقدت ثلاثة من أبنائها في ريعان شبابهم، وهي الأخرى تصارع المرض.

يموت الأب وتنهار أمل فلم يعد لديها سند تلوذ به، وأمها قد زادت عليها العلل، والبيت مقفر من الزاد، والأقارب باعدهم الخوف، فليس إلا ذلك الخال الحنون، لم يكن يخشى رجال الأمن الذين أحاطوا بالدار، تحسباً لأي حماقة جديدة قد يرتكبها الزوج، وليته فعل فوقع في أيديهم ليعرف معنى العذاب.

ظلت أمل وعائلتها موضع مراقبة لمدة عام، وكان عدد من رجال الأمن يدخلون البيت بين الحين والحين حتى تعود عليهم إبنها الصغير وصار يلعب معهم ويحسبهم من بقية عائلته، وللإنصاف أنقل ما روته محدثتي عنهم، فلم تصدر منهم أي أساءة، عدا أحدهم، فقد كان يضايق زوجة اخيها، لكن رفيقه ردعه فلم يعاود محاولته. وكانت أختها تعدّ لهم الطعام، وقد ارتابوا في البداية، لكنهم مع مرور الأيام والأشهر صاروا يأكلون.

ولا يفوتني أن أذكر تنويه أمل إلى أن من تكفلوا بمراقبة العائلة وملازمتها في البيت كانوا من المرتبطين مباشرة بالرئاسة، وليس بمديرية الأمن، ذلك ان زوجها لم يكن بعثياً فقط بل كان ذي حظوة عند صدّام حسين، وكان هذا يستضيفه أحياناً على مائدته!

وفي جو الترقب والحذر لم يكن لدى العائلة من حيلة غير الصبر والاستعانة بالكفاف، ثم جاء يوم الخلاص بانتهاء عام على الرقابة، فقد ملّ الحُراس وتيقنوا أن من ينتظرونه لن يأتي. وهكذا بدأت الأخوات عهداً جديداً من الحرية المنقوصة، فقد فصلوهنّ من وظائفهنّ وصار محتماً عليهنّ أن يتدبرن معيشتهنّ بأي شكل، وهنا تأملت الأخت الوسطى، تلك المرأة الشجاعة، المُحبة لأهلها والمضحية بدون حدود، قالت: "ما العمل؟ أختي ما تزال تعاني من آثار التعذيب، ولا طاقة لها على العمل، والثانية الصغرى خائفة مصدومة لا تقوى على مواجهة الناس، أما أخي الأصغر الذي لازم أبي في المعتقل فلم يكن بعد مهيأً لتحمل المسؤولية، والكبير مفصول كحالتنا ولا يتحلى بروح المبادرة، كلهم خائفون وينتظرون مني أن أبدأ الرحلة القاسية، إذا لابد أن أتحمل العبء وحدي".

وهكذا لم يكن أمامها إلا أن تقطع المسافات الطويلة لتشتري الحليب من مزرعة بعيدة وتصنع منه اللبن الرائب والقيمر والجبن، ثم تبيع ما تنتجه يدها المتعبة. أصبحت أماً ثانية للعائلة، فوالدتها المريضة مازالت تسترجع لوعة غياب الأب وتجفل من مواجهة الحياة دون ظله. أعوام تمر والأخت تكدح وتضيّع فرصاً كثيرةً للزواج، كان يمكن أن تعفيها من شقائها اليومي.

أعود للقائي مع أمل وأختها ذات الشخصية الفريدة، فهي تبدو قوّية زاهدة بمظاهر الحياة، لكن ملامحها توشي برّقة وأسف على ما فاتها، وعندما لُمتها على تضحياتها المتواصلة، أجابتني وهي تسترجع كلمات أبيها الأخيرة: وصيّة الوالد غالية. وأضافت كان صارماً معنا لكنه بعد ان اطمأن إلى أننا بلغنا من النضوج ما يجعلنا نفرق بين الخطأ والصواب، صار صديقاً لنا وخفف من قيوده.

هنا تدخلت أمل وقالت بحسرة: كنا في أوائل الشباب نطمح إلى فسحة ولو بسيطة من الحرية، أن نشارك في رحلات مدرسية أو جامعية، أن نزور صديقاتنا، أو نحتفل بأعياد ميلادهنّ، وما كان الوالد يرضى، بل يردد: سيكون لكنّ كل ذلك حينما تتزوجن! ويا لخيبتي فما أن تزوجت حتى فوجئت بعهد جديد من الوصاية ...

عند هذه النقطة، قالت الأخت: إذاً أنا محظوظة لأني لم أتزوج، وربما كان أبي على حق، فلم يبدِ أي اقتناع بجميع من خطبوني، كان يجمع بين صفات متناقضة؛ فهو طيب حنون، لكنه لا يحسن الظن بالناس في أغلب الأحيان، ويجيد قراءة المستقبل، ولذلك فهو لم يمنح موافقته على زواج أمل من ذلك الأحمق إلا بعد فترة طويلة، وبعد تدخلات وضمانات من الأقارب.

في الختام أقدم اعتذاري لأمل إذا لم أكن قد وُفقت بعرض قصتها، أو ربما قسوت على زوجها الذي أشكّ أن تكون قد غفرت له، ولكن لا أدري فقد يكون في قلبها بعض من زمن البدايات حين كان يؤملها بحياة حلوة في بيت الزوجية، ولا عجب فالنساء اللواتي تربين على الإيمان بأن الزوج من حقه أن يتزوج بأخرى، قد لا يشعرن بالسخط لو أن الأزواج عاملوهنّ بالإحترام والمودة، أو ذلك الذي يسمونه "العدل بين الزوجات"! ولكن هل من رجاء في أن تعدل القلوب، وإذا كان الزوج قد فارقه القلب والضمير فكيف ننتظر منه العدل؟



 * كاتبة عراقية

 


 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter