| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

بلقيس الربيعي

 

 

 

                                                                                      السبت  27 / 9 / 2014

 

حوار مع البحر

بلقيس الربيعي

جلست إلى ساحل البحر تتأمل زرقته وأمواجه العاتية، شابّة بعمر الزهور، منهكة، يائسة وبائسة، وفي عينيها نظرات الغضب والألم. جلست تتحدث إلى أصداف البحر وتئن ثم تجهش بالبكاء. كانت الأصداف تستمع إلى آهاتها التي تخرجها مكتومة وحارة من صدر مخنوق بالحسرات، فجأة توقفت عن البكاء وأسرعت إلى البحر تصرخ:

" تبا لك يا قدري.. أريد أن أنهي حياتي والرحيل من هذه الدنيا ووحوشها.. أريد أن أستقر في قاعكَ ولا يجدني أحد.. "

سمعها البحر، هاج وماج، وارتفعت أمواجه عالية لتحضنها بقوة وحنان، ثم تعيدها إلى الساحل.

ــ لا زلتِ شابة في عمر الزهور، عيشي حياتكِ
ــ تقول لي حياة ! أية حياة هذه ونحن نعيش في مجتمع الغاب، حين تصبح الحيوانات أرحم من البشر. وفي موجة غضبها بصقت على هذا الزمن الرديء، مجتمع الوحوش.

ــ حدثيني عن مشكلتكِ أيتها الرقيقة لعلي استطيع مساعدتك

ــ لا أظن هذا ينفع، فقد خسرتُ كلّ شيء. لكن سأروي لك ما حصل لي، لعل هذا ينفع

ـــ اقتراح مناسب وجميل

ــ في أحد الأيام كنتُ عائدة من عملي بعد يوم مرهق، صادفني طفل يبكي. دنوتُ منه وسألته عن سبب بكائه. فقال بأنه لا يقوى على العودة إلى بيته، كان خائفا جدا عطفتُ عليه ورافقته إلى بيتهم. ما إن طرقت الباب حتى فتحه رجل ظننته والده.

وبلمح البصر وضع الرجل كمامة على أنفي وسحبني إلى الداخل وأغمي عليّ. وفي اليوم الثاني وجدت نفسي على قارعة الطريق شبه عارية بعد أن اغتصبني. تركتُ العمل، نبذني أهلي وأصدقائي. فلا حياة لي في هذا المجتمع المتوحش، لذا أريد أن انهي حياتي. أرجوك خذني إلى أعماقك لأرقد هناك بسلام.

هاج البحر مجددا، معبرا عن سخطه وحزنه، ثم ألان لها الحديث قائلا :

ـــ لا .. لن أدعك ترحلين هكذا، أنتِ بريئة وطاهرة، أنتِ ضحية، ضحية مكر وظلم، ظلم مجتمع جاهل يستضعف المرأة، يهينها ويهين نفسه، ومكر شخص منحل وحقير، . فقضيتكِ قضية رأي عام وليست شخصية. إن أنتِ أنهيت حياتك سيكون ذلك نصرا لذوي النفوس المريضة والضعيفة. دافعي عن قضيتكِ.. عن وجودكِ.. عن الأخريات اللواتي تعرضن لمثل حالتكِ، دافعي بضراوة .. وسأكون إلى جانبكِ صديقا ومناصرا وناصحا.

أشعرتها هذه الكلمات بالطمأنينة والراحة، لكنها سألت :

ــ كيف أدافع ومرتكبوا جرائم الاغتصاب لا يواجهون العدالة على الاطلاق ، والناجيات منه لا يحصلن على المساعدة للتعافي بدنيّا ونفسيا واستئناف حياتهن الطبيعية بعد التعرض لهذه الممارسات. كيف .. كيف ؟!..

ــ عودي إلى عملكِ أولا فهو سيكون سلوى لكِ وطريقا لاستعادة ثقتكِ بنفسكِ وثانيا عودي تدريجيا إلى حياتكِ الاجتماعية، فستجدين هناك مَن يهتم ويتفهم حالتك ويتعاطف معكِ ويأخذ بيدكِ من جديد نحو حياة أفضل.

أشعرتها هذه الكلمات بمزيد من الثقة والانشراح، نظرت إلى الأفق البعيد، كأنها تبحث عن شيء جديد هناك، بدت السماء جميلة وهي تناظر البحر بلونها الأزرق.

خاطبها البحر مطالبا وقائلا :

ــ اكتبي! اكتبي عن مشاعركِ، شاركي الآخرين، ودعيهم يشاركونكِ الحياة، عرّي النفوس الضعيفة، اشرحي للناس عن مظلمتكِ، ستكونين للآخريات كطوق النجاة، وستبعثين في نفوسهن أمل الحياة من جديد. وتعالي إليّ كلما أحسست بضيق..

ستجدينني نعم الصديق.. أحضري لي كتاباتكِ وأقرئيها بصوت عالٍ، أحضري كتابات الأخريات وأقرئيها عليّ أيضا، ستجدين نفسكِ ومعكِ حشد كبير من النساء الضحايا، وستكونين أنتِ لهن الأخت والأم، ألا يجعل كل هذا لكِ مهمة جديدة وكبيرة ؟

كلمات البحر هذه كانت كالبلسم، وجدت فيها الأمل والحلم، كأنها كانت في عالم آخر وعادت منه، تذكرت أن الخير والشر كانا على هذه الأرض منذ الأزل، شعرت أن الحياة أجمل من أن تضيع سدى، بعد أن أدركت طريق الهدى، نظرت نحو البحر بحب، ورمت نفسها في مياهه سابحة وفرحة هذه المرة وهي تردد:

" أنت نعم الصديق، أنت المرشد نحو الطريق!.. "
 




 

free web counter