| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

بلقيس الربيعي

 

 

 

 

الأحد 18/3/ 2007

 

 
 قصة قصيرة

جواز سفر


بلقيس الربيعي

كانت إيمان تغط في نوم عميق حين أيقظتها اصوات انفجارات قوية كانت اصوات الرصاص تشتد حينا ثم ّتخفت ..جلست على السرير ولم تتحرك ، أغمضت عينيها إمتلأ قلبها رعبا .وفجأة أسرعت نحو الباب ونظرت من العين السحرية . كانت ممرات العمارة فارغة والسكون يلف المكان في ذلك الوقت خيل لها إنها ربما كانت تحلم وعادت الى فراشها وليس هناك ما تفعله . إنبطحت ووجهها الى الوسادة ، وراحت تبكي عاضة على شفتيها لتكتم صوت بكائها .اضواء تسطع فتحيل الليل الى نهار ، اصوات إنفجارات هنا وهناك ، فتسد اذنيها ضدها . كان الأفق كله يلتهب بنيران الحرائق في البيوت الخشبية القريبة من العمارة وتنطلق القذائف وتتناثر وتنفجر اعمدة النار والدخان .
رنّ جرس التلفون ، تصغي إيمان الى رنينه لكنها لم تتمكن من الحراك لترد عليه . " من ذا الذي يطلبني في مثل هذا الوقت ؟ ربما إني احلم .إستلقت على ظهرها وحاولت أن تهدأ من خوفها وتنام . لم تنم بل هومت ما بين اليقظة والنوم تنتظر إنبلاج الفجر .

كانت الشمس تسطع من النافذة على ارض الغرفة حين سمعت إيمان طرقا على الباب . إستجمعت شتات نفسها وهرعت لتفتحه . إنها جارتها فاطمة جاءت لتخبرها بالأستعداد للرحيل ومغادرة المكان .

ـ إستعدي يا إيمان سنرحل من هنا ، سوف تخلو العمارة من ساكنيها ، فلابد من الرحيل .

إنهارت إيمان وإرتمت في حضن فاطمة باكية بصوت عال . شعرت فاطمة بأنها تريد أن تبكي معها ، غير أنها صررت بأسنانها وراحت تربت على كتف إيمان تهدأها .

ـ لا... لا لن اغادر . . هنا ذكرياتي الجميلة مع فارس ، كيف اغادر ؟ هنا المكان الوحيد الذي بقي ملاذا للفارين ، الذين أصبحت الحرية لهم اكثر من الوطن والوجود . لن أغادر وسأبقى هنا..

وقاطعتها فاطمة :

ـ كانت ، اما الآن فقد تغير كل شيء . كنت دائما تقولين لي هنا المدينة التي لا يطلق فيها الرصاص على البشر كما يطلق على الأرانب ...انظري ماذا يحصل الآن .لقد اخترق الرصاص نوافذ الغرفة وأحرق الستائر ، قد تأتيك رصاصة طائشة وتقتلك . يجب أن تغادري من اجل طفليك .

وقاطعتهما ضجة مفاجئة خارج العمارة . انهم الفارون من المناطق الملتهبة هربا من الحرب .
تناولت إيمان حقيبة صغيرة ، وضعت فيها البوم الصور التي تجمعها مع فارس وكاسيتين كان قد سجلهما لها قبل مغادرته في رحلته الأبدية ، وتركت الشقة .

مغادرون من شتى الجنسيات رجالا ونساء واطفال يتجمعون عند الساحل هربا من الحرب .
حملقت إيمان في تلك السفينة الراسية في الرصيف وكانت مضاءة بانوار حادة . إنه اليخت البريطاني يجوب المنطقة في رحلة سياحية . الكل يتدافع للركوب ، لكن إيمان وقفت تحدّق في وجه فاطمة تارة وفي السفينة تارة اخرى .احسّت إن قلبها قد إنقبض وتساءلت في نفسها : أهو الخوف من المجهول ؟ ورأت نفسها تعبر عن خوفها بصوت مسموع :
ـ فاطمة ! انتظري واخبري الأخريات ايضا ، سننتظر قليلا .
ولم تعرها فاطمة اي اهتمام بل صاحت بالأخريات تحثهن على الأسراع بالتوجه الى السفينة وقالت ،" البحر من امامنا والحرب من خلفنا فأين المفر؟ سيهبط المساء ونحن هنا لابد من الوصول الى مكان آمن ."
وهتفت إيمان بلهجة قاطعة :
ـ لا ، يجب أن ننتظر إني قلقة . انظروا إني أرى سفينة اخرى قادمة .
" انها ليست سفينة للركاب بل لنقل البضائع " قالت احداهن .
ـ لا يهم ان تكون لنقل البضائع ، المهم ان تنقلنا الى مكان آمن .
واقتربت السفينة من الرصيف واندفع الجميع نحوها .
ومع الأخريات استقلت إيمان السفينة . احسّت انها بحاجة الى البكاء . وبالفعل راحت تبكي بصوت خافت ، وبعينين دامعتين راحت تنظر الى الماء الذي كان يخرج من تحت السفينة وكانت طيور النورس تطير فوقه وتسقط عليه لتلتقط قطعة خبز طائفة ألقت بها طفلة من فوق ظهر السفينة .بدأ الغروب يظلم . أرادت إيمان أن تلقي نظرة على المدينة التي أحبتها فلم تجدها لأن السفينة قد ابتعدت عن الساحل .
سارت السفينة تمخر عباب البحر الأحمر والمتوسط سبعة ايام بلياليها لتتوقف عند ميناء اللاذقية .
وحين إقتربت السفينة من الرصيف ، سمعت إيمان صوتا ينادي " هذه المحطة الأخيرة للرحلة وعلى الجميع إحضار جوازات السفر لإستحصال الموافقة للنزول من السفينة ."
مرّ الجميع بصالة صغيرة تتصدرها منضدة صغيرة تحّلق حولها اربعة موظفين ، ثلاثة منهم بملابس مدنية والآخر بزي الشرطة .
تقدّمت إيمان نحو المنضدة وقدّمت جواز سفرها و تناوله منها احد الموظفين . نظر اليه وقال :
ـ جواز سفرك منتهية مدته منذ عشرة ايام ، فلا يمكنك النزول من السفينة " ومدّ يده لها بالجواز .
ـ انت تعرف بأننا لسنا برحلة سياحية بل هاربون من حرب .
ـ هذا لايلعب دور ، المهم أن تكون الوثيقة سارية المفعول .
لم تكن إيمان الوحيدة التي لم يسمح لها بالنزول ، بل هناك العديد من لايحمل جوازا صالحا او انه سقط منه في البحر. التفتت إيمان الى الأخريات ممن لم يسمح لهنّ بالنزول وقالت :
هربنا من الحرب وها هم يمنعونا من النزول لأننا لا نحمل جوازات سفر سارية المفعول "