| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

بلقيس الملحم
qadiiah@hotmail.com

 

 

 

                                                                                   الثلاثاء 6/12/ 2011



حفلة الغراب في المحمودية (1)

بلقيس الملحم *

إلى روح الشهيدة عبير قاسم حمزة, وأرواح عائلتها لمناسبة خروج جيش القتلة من العراق

 

القُبُّرة تترنح

السماء تخفض رأسها

تعصب عينيها بشرائط الدخان

لا أحد يمسك بذراعيها

غير شجرة الصفصاف

الصفصاف التي تغزل أسبال نائحة

وتخيطها بحمَّى الأنين

وهي تعد على أغصانها:

أطفال القرية الذين هرموا من الحروب

وشاخوا قبل أن يشربهم الحليب!..

.

.

لا أحد يجرؤ أن ينتظر دور الفنجان

فالأفعى تمص جذورها

وتنهش ضحكة الينبوع الصغير

فتشلُّ فم الصخور عن البكاء

.

.

يا لأوجار الذئاب

ونعش الكلام !

كيف تلوَّت تلك الأجساد؟

والشوك أفرغ من رأسها الصراخ ؟

واللسان ما اللسان؟

لقد مضغ نفسه

لاهثا ً خلف الثقوب

يبحث عن شمس لم تشرق ذلك اليوم

إلآ بغمام صدئ

بأدراج موتى

وصناديق من عتمة القبور..

اللسان؟

لم تحمله الأخشاب

فالأكتاف أكلتها الذئاب

والقرية صفَّر فيها الريح

ثم غادر ليغسل عاره بالأوثان

و ببقايا أسنان مستعملة!

والطفل الوحيد الذي بقي ليشهد

تجشّأ على الأرض

ليفسد على القتلة جنائنهم !

جنائنهم التي داسوا عليها

وهم يجمعون قيح الرغبة بخوذاتهم

فالوقت لا يتسع

لإحصاء شروخ النهر

ولا تلك الضحكة القصيرة بين المأتمين!

لذا كان عليه أيضا أن يتغوط على آثار أقدامهم

ويرتعش كنصف تفاحة فاسدة

لائذا بظلال الحائط

وثياب الأبكار المذبوحة

وحده يعلم

كم كان ينبغي أن يحتضر

ويموت...

وحده يعلم

كم في كمائن الندى من روث الدَّخيل..

وحده يعلم

كيف ينفرط الموت من البنادق

وكيف يربط جأش الدمع

ليلفظ تحت شواهد القبور

أنفاسه القتلى..

ما تبقى من ذلكم الطفل :

كفه الفارغه فقط.

إذ لا أحد غيره ينقل القمح من الحقول

أو يردم الوديان التي انتشرت فيها الثعابين

وحده من سيملأ سلال أوجاعه بالأمكنة الموحشة

بآخر وجه لجارتهم العفيفة

وبآخر ظل لبطون الخرائب التي لاكت صداه :

ابقروا بطن الغراب

ولتوسعو فتحة الظلام

فالعميان (2) يشتهون الليلة أن يرقصوا

أن يفتحوا عيونهم أكثر لينطق طعم الجحيم

فالبساتين الخضر تُعيي بؤبؤ الفؤوس!

العميان

العميان

رأيتهم من فم أختي الفاغر

وقد فارقت نصف ربيعها العشرين

تلفظ شوكا محروق اللون

تتوسل بطرف ثوب أمي

أمي التي ردموا بئر صراخها المبحوح

ثم راحوا يعلقون عيدان دميتها

يرقِّصون على الحيطان ظلها النحيل

وهم يرتدون قمصانا مرقطة بحنجرتها

أمي التي توسلت ببساطيلهم

حتى لعقتْ عنها التراب

فحثوه على وجهها الجميل

وأقفلوا باب المستحيل

أحرقوا منزلي

سرقوا خدر أختي

باعوه

وربما نظفوا به الزناد

ما استطاعته كفي :

أن كفنتها بعباءة أمي

وهيَّجت نعشها حتى ركضنا كالمجانين

أدور بجثتين بعد الرماد

أزرع بقدمي طريقا طويلا

أرمم روحي

أغض الطرف عن نكاتهم البذيئة

حيث يشهرون بوجهي سيطراتهم الكاكية

أرتق نعلي

ساقي مكسور

وعصاي خيط من أحزان

فأبي مات

وأخي مات

وكذا أمي وأختي

وكل شئ فات.. وفات..

ووجهي موشوم بألف سؤال

والنخلة ترقبني بعين واحدة

تخفي دمعتها قبل أن يقتلوها

قتلو النخلة!

كان عليهم أن يتركوا أحذيتهم

وهواتفم النقالة ذكرى لأسيادهم الجائعة!

لكنهم آخر الحفلة

أطلقوا رصاصهم في كل اتجاه

فاختلطت الأصوات

واشتبكت الخطى

أمي أفاقت من نومها

أختي شقت من جيب العباءة نهر دموع

ألم تعدنا يا حبيبي أن تعجن أجسادنا بجذروها؟

- قالت أمي وهي مغمضة العينين –

لكنهم استحقوا الخمرة بالمجان

– أجبتها وأنا أشرب دهشتها –

صمتنا جميعا

اللحظة غادرتنا

وقادتنا حيث رأينا حشراتهم تطير في السماء

بعيدا تطير

وتطير..

حتى جثونا لنحفر ذلكم الغراب!

 


(1) المحمودية : مدينة تقع جنوب بغداد
(2) العميان :  قصدت بهم المحتل الأمريكي
 

 

 

* شاعرة وكاتبة من السعودية

 


 





 

free web counter