| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

بشار قفطان

 

 

 

الخميس 2/12/ 2010

 

انتـفاضـة مدينـة الحـي الباسـلة لـعام 1956 علامة مضيئة في تاريخ
العراق الحديث وحاضره ...!!

بشار محمد جواد قفطان

عند الحديث عن انتفاضة مدينة الحي المجيدة في أواسط كانون الأول من عام 1956 , لابد من العودة إلى خلفيات تلك ألانتفاضه , وقراءة الواقع الاجتماعي والسياسي في المدينة بشكل خاص ، ومجمل الوضع بكل تجلياته في سائر المدن العراقية بشكل عام ،خلال الأعوام التي سبقتها .
... لان ماحدث في مدينة الحي الباسلة عام 1956 لم يكن حدثا عابرا أو ناجما عن نزوات وامزجه أنية وشخصيه لمجموعة من الشباب المتحمس في مواجهة السلطة القائمة , وهم لابد يعرفون سلفا نتائجها ألمحتملة , ويعلمون جيدا إن الانتفاضة لم تؤد إلى إسقاط النظام وإنما إضعافه وزعزعة كيانه مما يسهل الانقضاض عليه وإسقاطه . وهذا ما حصل فعلا .
إذ ساهمت ألانتفاضه إلى حد بعيد في التعجيل بقيام جبهة الاتحاد الوطني في نهاية شياط من عام 1957 . أي بعد اقل من شهر على تنفيذ أحكام الإعدام بحق أبطالها , ومن ثم قيام وانتصار ثورة الرابع عشر من تموز المجيدة . أي بعد عام ونصف تقريبا على تلك الأحداث .
حصلت ألانتفاضه نتيجة لتراكمات من النضال السياسي والوطني الجماهيري اليومي طيلة عقد من الزمن الذي سبقها .
إن الوعي السياسي والترابط الاجتماعي الذي كان يسود المدينة منذ مطلع أربعينات القرن الماضي بسبب انتشار الفكر الشيوعي في المدينة وخصوصا بعد الانتصارات العظيمة التي حققها الجيش الأحمر الروسي ضد ألنازيه وصداه الواسع الانتشار بين أوساط الشعوب بشكل عام , وشعبنا العراقي التواق إلى التحرر من الهيمنة الاستعمارية بشكل خاص , وانتهاء الحرب العالمية الثانية لصالح الاتحاد السوفيتي وظهور المعسكر الاشتراكي كقوة دوليه مؤثره في العالم , لعب دورا هاما في بلورة العمل والنضال الجماهيري من خلال انتشار الفكر الشيوعي في العراق وتصعيد النضال ضد الحكم الملكي شبه الإقطاعي المسنود من قبل الاستعمار البريطاني , وكان لمدينة الحي الباسلة حصتها من ذلك النضال الملموس ومقارعة ألاضطهاد ومقاومته .

في عام 1947م كانت أول تظاهرة جماهيريه تجوب شوارع المدينة ضد قرار تقسيم فلسطين ووعد بلفور المشئوم وكانت بقيادة الشيوعي العائد توا إلى مدينته الرفيق ( هاشم جلاب ) والذي ورد اسمه في ملفات التحقيقات الجنائية ( هاشم الو اسطي ) الذي ترك العاصمة بسبب فصله من العمل في مصلحة نقل الركاب , ليشكل أول خليه للحزب الشيوعي في مدينة الحي , ولعبت مكتبته التي افتتحها في المدينة ذات الكتب اليسارية في انبثاق تلك الخلية التي لا يتجاوز أعضائها عدد أصابع اليد كما يذكر الرفيق هاشم ويتذكر منهم كل من الرفاق ( كاظم نصيف , نجم محمد , عبد الرزاق الشبح جمعه , جعفر داود كوز الزبيدي ) ,
تلك التظاهرة فتحت الأفاق الرحبة أمام معظم الشباب المتحمس للانخراط في صفوف الحزب الشيوعي , ومنذ تلك الفترة اخذ النشاط الجماهيري يتسع , ويأخذ أشكالا متنوعة في النضال اليومي سواء ألمطلبي أو الوطني أو السياسي .
وهناك عامل أخر شهدنه المدينة وترك أثره الواضح في بث الوعي الوطني والحماس بين أوساط ألطلبه والشباب بشكل خاص واغلب أبناء المدينة بشكل عام وهو افتتاح الثانوية الجعفرية في القضاء ربيع عام 1947 التي شيدها متبرعا الشيخ "بلاسم الياسين ", وقد حضر حفل يوم الافتتاح العديد من الوجوه والشخصيات الرسمية والاجتماعية وكان من بينهم شاعر العرب الأكبر ( محمد مهدي ألجواهري ) الذي اخذ مساحته في رائعته الشعرية ( يابنت رسطاليس ) وهي كنيه لذلك الصرح العلمي والتربوي المنجز ،
جاءت تلك القلادة الشعرية لتزيد من التلاحم وتوثيق العرى بين سائر الشباب العراقي وخصوصا شباب مدينة الحي و صارت كالمنشور السياسي بتداول قراءتها الطلبة والشباب ... والعديد منهم حفظها كاملة عن ظهر قلب . لما احتوته من مضامين فكريه وسياسيه حيث عززت العلاقة بين الكادر التدريسي من جهة والطلبة والشباب من جهة أخرى , وذاع صيتها بين أوساط الشباب العراقي . ومن الملفت للنظر إن بعض أبيات تلك القصيدة قد تحقق على ارض الواقع بعد عقد من الزمان وفي مدينة الحي بالذات وهذا يعتبر من تنبؤات الشاعر ألجواهري الكبير :

يابنت رسطاليس لحت بـ ( واسط )
فنزلت ( حيا ) بالصبابة حاشدا
إني وجدت مواهبا مطمورةَ
كالزرع أينعَ لم يصادف حاصدا
يابنت رسطاليس قصي نستمع
عن عاشقيك أقاربا واباعدا
عن واهبين حياتهم ما استعبدوا
للشاكرين ولم يذموا الجاحد
والصاعدين إلى المشانق مثلما
ارتقت النسور إلى السماء صواعدا

حيث صارت تلك المؤسسة بحق ( بنت رسطاليس ) مدعاة فخر واعتزاز وصرحا علميا لازال شاخصا ويعتز به أبناء المدينة , وأنجبت أبناء ميامين , في العلم والمعرفة والتضحية , وهَبّوا حياتهم وزهرات شبابهم في نشر الوعي الثقافي والسياسي والاجتماعي .
وصار ذلك الصرح العلمي والتربوي منطلقا لتظاهرات ألطلبه , واعتصاماتهم , وإضراباتهم , شبه الاسبوعيه احتجاجا على سياسات النظام الملكي القائم وقت ذاك , أو تضامنا مع مناسبات وطنيه , أو إقليميه أو دوليه , وان تلك الفعاليات الطلابية سرعان ما تجد لها من يقف إلى جانبها ويدعمها ويساندها من قبل معظم أبناء المدينة . وقد لعب الكادر التعليمي والطلبة وجماهير المدينة دورا ملموسا في إثارة الحماس واستثمار كل ما يساهم في بث الوعي بين صفوف الجماهير وإثارة السخط المتواصل على النظام بسبب ممارساته القمعية ضد أبناء الشعب العراقي ,
في وثبة كانون الثاني عام 1948م وحركة الاحتجاج على جريمة إعدام قادة الحزب الشيوعي العراقي في شباط عام 1949 الشهداء ( يوسف سلمان يوسف ، زكي بسيم ، حسين محمد الشبيبي ) وانتفاضة تشرين من عام 1952 , ومجزرة سجني بغداد والكوت عامي 1953 _ 1954, وضد قيام حلف بغداد , واستغلال أي مناسبة وطنيه لتعير عن سخط واحتجاج وتضامن أبناء المدينة معها . كان أبناء المدينة سباقون في التضامن مع ابناء الشعب معبرين عن الاحتجاج باروع صوره في التظاهرات والاعتصامات والاضرابات , فالمعلم أو المدرس لا يتردد أو يحاذر من إعلان و طرح القضايا الوطنية لطلابه في أي فرصه من الدرس , وكنا نستوعب ونحن صغار ما يحدثنا به المعلم أو المدرس وخصوصا في دروس الوطنية والرياضة والدين , ودرس الاقتصاد في الرابع الإعدادي الفرع الأدبي حيث اخذ الطلبة يتفهمون طبيعة النظام الاشتراكي في خدمة مصالح الشعوب , وخطر سياسة الدول الاستعمارية على الشعوب في استغلال خيراتها والهيمنة على ثرواتها الطبيعية وإنشاء القواعد العسكرية وقيام المعاهدات التي تضمن مصالحها من خلال الحكومات العميلة والمدعومة من قبل تلك البلدان وضمان سيرها بركابه , ولابد لي من ذكر وتسجيل هذه الواقعة , في عام 1955 , كنا طلاب في مدرسة واسط الابتدائية التي تقع في سوق المدينة الرئيسي , وفي صباح احد الأيام كان طلاب المدرسة في ساحة الاصطفاف وكنا نسمع أصوات المتظاهرين تشق عنان السماء والهتافات تصدح بها الحناجر تندد بسياسة الحكومة , وتطالب بسقوط حلف بغداد والأحلاف العدوانية ( عاش السلام العالمي هو وحماماته يسقط الاستعمار هو وعصاباته ) , فما كان من المعلم المسئول عن المراقبة و من ساحة الاصطفاف أن يطلب من طلبة الصف الخامس والسادس الالتحاق بالمظاهرة بكل هدوء ، وقد التحق الطلبة بالتظاهرة ملبين امر المعلم , ولابد من الاشاره إلى اسم المعلم " كامل " يكنى ( أبو حمرة لكون بشرته و شعر رأسه لونهما حني ).
وكان لإخوتنا الذين يكبروننا في السن دورا في اهتمامهم بمتابعتنا ورعايتنا وتوجيهنا الوجهة الصحيحة ولهم الفضل الكبير في تنمية الشعور الوطني في نفوسنا , وننصت لهم ونحفظ ما يقرؤونه علينا من الشعر الذي يثير الحماس والشعور الوطني للشعراء العراقيين "الزهاوي " لقيتها لينني..ما كنت ألقاها و"الرصافي " علم ودستور . مجلس امة كل عن المعنى الصحيح محرف ."بحر العلوم " و ملحمة اين حقي " ليتني اسطيع بعث الوعي في بعض الجماجم .. وقصيدة حاشاك ترضى وانت محمد شعب يصاد وواحد يتصيد
و الشاعر" ألجواهري".. ..وقصائد الإقطاع .. وأتعلم .. ويوم الشهيد ...وأمم تجد ونلعب .. والعديد من قصائد الشعر الثوري المؤثر وما تحمله تلك القصائد من مضامين ومفاهيم إنسانيه تتحدث عن الواقع الذي كنا نعيشه, حيث كنا نحفظ ذلك عن ظهر قلب ,
وقد منحونا ثقتهم عندما يكلفونا بواجبات كنا نراها بسيطة ولكن في حقيقتها كانت بالغة الاهميه والخطورة في انجازها , عندما نجلب النشرات السرية التي يقوم بطبعها بعض الرفاق يقلم القوبيه والكربون والورق الرايز الخفيف ونرسلها إلى من يقوم بتوزيعها على الجماهير في المدينة , ويحذروننا من مغبة إفشاء السر لأي من يكون , من ذلك الحين تعلمنا الكتمان والحفاظ على الإسرار, وفي تلك الفترة لمعت أسماء وذاع صيتها في المدينة من خلال تصدر الفعاليات الجماهيرية من أمثال الشهيد "علي الشيخ حمود : وهو من عائله دينيه حيث كان والده المرحوم الشيخ حمود ( روزخون ) من القراء على الإمام الحسين عليه السلام والمناسبات الدينية المعروفين في المدينة وريفها ,وهي مهنته التي كانت مصدر رزقه و معيشته , ووالدته كانت قابلة مارست المهنة بالفطرة وصارت ملمة بها ولها فضل لاينكره احد على النساء في المدينة وبالرغم من عوق احد إقدامها , لكن ذلك ليس عائقا من تلبية محتاجين خدمتها ، واستطاعت من شراء دراجة هوائية للتنقل عليها بين
( درا بين ) وأزقة المدينة لذلك الغرض ، في تسهيل مهمتها ابنها "علي " من يوصلها او احد أبناء الجيران ,
... من طيبتها وفضل خدمتها منحت الحياة إلى محتاجيها مجانا وبدون أي مقابل وفي كل الأوقات والظروف ... أبنها "علي" تزوج وله ثلاثة أولاد وبنتان , ( عطا في بطن أمه ) يوم إعدامه و " عامر " أعدمه النظام المقبور في الثمانينات من القرن الماضي و " كفاح " أمد الله في عمره وعمر الباقين من أفراد العائلة

    
الشهيد عطا مهدي الدباس         الشهيد علي الشيخ حمود

الشعب ما مات يوما وانه لن يموتا
إن فاته اليوم نصرا ففي غد لن يفوتا

وكان للمكتبة التي افتتحها المرحوم علي شيخ حمود الصغيرة بحجمها والكبيرة بمعناها المادي والمعنوي والتي سماها مكتبة السلام أهمية خاصة في رفد الشباب بالكتب اليسارية و الماركسية والقصص الاجتماعية , ومنها كنا نتعمد شراء احتياجنا لبعض مواد القرطاسية من تلك المكتبة , ونتفاخر بختم مشترياتنا بختم مكتبة السلام " ونتباهى أمام بعض التلاميذ في ذلك . وكانت في المدينة في وقت سابق مكتبة أخرى للمناضل هاشم جلاب ,
فصل الطالب الشهيد " عبد الرضا الحاج هويش " من كلية فيصل بسبب نشاطه الوطني عام 1948 وعودته الى مدينته كان له أثره البالغ الأهمية في نشر الوعي الوطني والسياسي بين اوساط الناس وحضوره الدائم في مجمل النشاطات الاجتماعية لما يملكه من قوة الإقناع في حديثه مع محاوريه وحاذقا أمام مستمعيه بلباقته وتواضعه وكان يطلق عليه الرجل الساحر , وهو من عائلة ميسورة الحال, والده ملتزم دينيا , وصاحب دكان معروف لبيع الأقمشة في المدينة , بعض الناس يستودعونه أماناتهم من النقود أو المواد العينية من الذهب والمخشلات ويحفظها في قاصته الحديدية , وأيضا دوره أشبه بعمل مصرفي في تصريف العملة من كافة الفئات المستخدمة وقت ذاك , وكذلك الدور الفاعل للشهيد عطا مهدي الدباس وهو من عائله كادحة وقد فصل من الثانوية الجعفرية في الحي بسب نشاطه الوطني بين صفوف ألطلبه وأبناء المدينة , وعمل صاحب مقهى كانت مقرا يتردد عليه الشباب والرواد ومن خلالها يتم تنظيم وتحديد مواعيد الاجتماعات ، وكان رياضيا يلعب كرة القدم واستطاع من استقطاب العديد من الشباب في الفريق الرياضي لكرة القدم وتنشيط الحركة الرياضية في القضاء والتي وضع بداياتها المناضل "هاشم جلاب "، وهو غير متزوج , وهناك العديد من الأسماء التي برزت سواء على مستوى المدينة , من الشباب , و ألطلبه منهم , "محسن الحاج هويش ، كرم عبد علي علش، حسين ملا محمد، ناجي عليوي السرداح , عبد الرزاق عبد الرضا , حسين عليوي عجيل الدحية ، عبد الحر شاوي , شعلان فرمان ، عزيز محمد جواد، تومان فرمان , ابرهيم عريبي , هادي حسون العمران ، حسن محي ، عباس الحاج حسين ، سلمان داود حاتم ، محسن الشيخ حمود , وجليل حميد وشقيقه رشيد حميد ، سلام الشيخ احمد قفطان وبلاسم قاسم وماجد عبد الأمير, هادي عمران العيسى , منعم صيهود , سلمان موسى , طوشي حياوي , جبار معيدي , سيد عبد الرضا ، ناجي داغر ، حميد ابو حسن ، وشقيقه محمد , يوسف عيسى , حسن عليوي الدحية , حسين مفتاح , رحيمة الداود , جمعة غويلي , ميزر باكَه , عبد عيدي , لعيبي ساجت , اسود عبد الحسين الشيخ طاهر , كاظم الخويلدي ومعذرة للذين غابوا عن الذاكرة ,
وللأمانة التاريخية يبقى جزء هام من تاريخ ومجد مدينتهم من صنعهم . اذ امتدت مساحة نشاطهم وتواجدهم في كل إرجاء المدينة وبعض مناطق الريف في المساهمة الفعالة في إرساء عادات وتقاليد اجتماعيه ذات قيم إنسانيه ما زلنا نتذكرها , منها التدخل في حل المنازعات والمشاكل التي تحصل بين البعض من أبناء المدينة , ولا مبالغة او مباهاة إذا ذكرت ان البعض من الاهالي استغنى عن الذهاب الى مركز الشرطة واللجوء إليه في إقامة الدعاوى لان هناك من يتدخل ويرضي طرفي النزاع , ولهم مساهماتهم ودورهم المعروف في تسهيل ومساعدة الشباب الذي يرغب بالزواج وبمهور شكليه وتنازلات طبيعييه من أهل الفتاة . لان الغاية عندهم من الزواج هو الاستقرار الاجتماعي والسعادة الزوجية وتكوين الأسرة. وكذلك حضورهم المتميز وتسهيل قضايا التأبين والفواتح لغير الميسورين, ولهم دور فاعل في تصدر المواكب الحسينية وجعلوا منها منبرا للتعبير عن المطالب الشعبية في الكرامة والحرية والخبز والتنديد بسياسة النظام الملكي القمعية , وقد تحمل الكثير من أبناء المدينة لقاء هذه الفعاليات السجن والاعتقال , والتشريد , والإعدام , والفصل والملاحقة اذ مورست كل انواع الاضطهاد لكبح جماح الشعور الوطني , وذلك ما جعل الأهالي في إنذار دائم وقدرتهم في تعبئة الجماهير وزجها في النضال .
التظاهرات والاعتصامات والإضرابات التي تكاد كما ذكرت في مكان سابق شبه أسبوعيه , ولا ننسى تواجد ومساهمة المرأة في المدينة واخذ دورها في الحضور في تلك الفعاليات مع اخيها وابنها وزوجها والمشاركة في تلك التظاهرات وتقديم اللافتات والشعارات وأحيانا العصي التي يستخدمها المتظاهرون ضد أي اعتداء محتمل من الشرطة , و تشكيل الوفود النسوية لمراجعة الجهات المسؤولة , و تقديم العرائض ومطالبة تلك الجهات إطلاق سراح المعتقلين أو الموقوفين من ذويهن الذين يلحق بهم الحيف من جراء نشاطهم الوطني في تلك الفعاليات .
ولابد من ذكر بعض الأسماء "أم الشهيد علي الشح حمود " و أم المرحوم " عبد رسن " وشقيقتها وأم الراحل "عباس الحاج حسين " وزوجة الشهيد " علي الشيخ حمود " و أم و " شقيقة الرفيق هاشم جلاب " ومعذرة لمن غابت أسمائهن عن الذاكرة .
ممارسات السلطة القمعية اتخذت أشكالا عديدة حيث قامت السلطات المحلية بحملة تسفبرات لبعض الاخوه من الكرد ألفيليه في القضاء لنشاطهم الوطني المعادي للسلطة ضنا منها إنها تحد من النشاط الجماهيري المتصاعد , وإطفاء جذوة الجماهير المستعرة . ولكن تلك الإجراءات جوبهت بردة فعل غاضبه من خلال التظاهرات التي تنطلق في المدينة من ساحة الصفاء التي تتوسط السوق الرئيسي وحصل ذلك في عام 1954 م ،
... قام وفد رفيع المستوى من وجهاء المدينة تزعمه المرحوم " عربيي الحسن مطلب " الذهاب إلى العاصمة بغداد واللقاء بوزير الداخلية وتسليمه مذكرة احتجاج بهذا الخصوص وقد وعد الوزير بإيقاف التسفير والممارسات القمعية ولكن بعد عودة الوفد تعرض إلى المضايقات والاستجواب من قبل الأجهزة الحكومية . وجرت عملية التسفير لبعض الإخوة الأكراد .
كل ذلك جعل السلطات المسئولة تتدبر أمر إيقاف هذا المد الجماهيري الذي صار يمتد إلى مدن أخرى , وأصبح يشكل خطرا حقيقيا على مستقبل نظام الحكم القائم ومصالح أقطابه.
وصار يطلق على مدينة الحي ( موسكو العراق ) وصبغت كامل رقعتها الجغرافية بالشيوعية , وكذلك فكرت السلطة ان لأتسمح بما حصل لها في عام 1954 م على خلفية تزوير الانتخابات النيابية واحتجاج أبناء المدينة من خلال التظاهرات والإضراب العام تضامنا مع مرشح الجبهة الوطنية عن لواء الكوت المحامي الوطني المعروف (المرحوم توفيق منير) واستمر الإضراب وإغلاق المحلات التجارية لأكثر من اثني عشر يوما وقد مارست السلطات شتى الوسائل , الترغيب والترهيب لإنهائه ولكن تلك المحاولات باءت بالفشل بوحدة وحزم أبناءها .
, لم تذعن لكل الضغوط التي مورست ضدهم،وأصيبت الحركة التجارية في القضاء بشلل تام أكثر من عشرة أيام أي خلال فترة الإضراب الشامل . ولكن تدخل " الأمير ربيعة " المباشر و تعهده باحتواء الموقف استطاع من حلحلة الأمور ونزع فتيل الأزمة , وحلها بما أراده الوفد المفاوض من أبناء المدينة، وإنهاء الإضراب واخذ التعهدات من السلطة المحلية في تلبية المطالب التي تم الاتفاق عليها ، منها إطلاق سراح الموقوفين والمعتقلين من أبناء المدينة .
... مطلع عام 1956 زار مدينة الحي بعد لواء الكوت وزير الداخلية وقت ذاك ( " سعيد قزاز " الذي أطلق عبارته الشهيرة بلهجته الكردية قضا حي مو لازم ) ويبدو من ذلك الوقت بدء التخطيط لمعاقبة المدينة وأبنائها في اقرب فرصة سانحة ، والمباشرة بوضع الخطط لتلك المهمة , لان ما يحصل في المدينة صار خارج إرادتهم ولايمكن السكوت عليه من قبلهم وقبل أعوانهم باعتبار ما يجري في المدينة تجاوز الحدود التي هم وضعوها في حساباتهم وتصوراتهم .
... صارت عبارة وزير الداخلية ورقة رابحة بأيدي أبناء المدينة لشحذ الهمم ووحدة الصف والتعاون المشترك في التصدي لأي عمل طارئ مبيت قد يحصل ضد المدينة وأبنائها , قيام السلطات لمحلية باعتقال مجموعة من الشباب والطلبة ، وفصل عد من الطلبة من الثانوية الجعفرية بذريعة الإخلال بأمن المدرسة والمدينة ، حينها هبتْ جموع من أبناء المدينة سواء طلبة الثانوية الجعفرية او الأهالي في تظاهرات حاشدة قل نظيرها وقاموا بتعطيل الدراسة في بعض المدارس , وتلك التظاهرات تستمر طيلة النهار بمشاركة واسعة حتى من النساء ، وتم إطلاق سراح ألموقوفين واما ألطلبه الذين فصلوا أحيلوا الى دائرة التجنيد لغرض إحالتهم الى لجنة طبية لتقدير الأعمار وفعلا تم تكبير أعمار عدد منهم وسيقوا للخدمة العسكرية منهم الطالب هادي حسون عمران وشعلان فرمان وعبد العزيز محمد جواد , ومعذرة لا سماء الطلبة الآخرين .
وأما بالنسبة لشقيقي استطاع المرحوم الوالد بإجراء معاملة إعالة لكونه رجل كبير السن والمطلوب للخدمة العسكرية هو المعيل الوحيد للعائلة .. فصل من المدرسة ... وإعفاء من الخدمة العسكرية.
الأوضاع بقيْت تسير باتجاه مغاير مما كانت تريده السلطة المحلية .. لاستمرار الضغط الشعبي ، ومواصلة المداهمات الليلية والاعتقالات التي لن تتوقف ، السلاح الفعال الذي استخدمه ابناء المدينة هو شل الحياة في المدينة من خلال التظاهرات والاعتصامات والإضرابات الطلابية التي صارت شبه عادية كل يوم ليس لها وقتا محددا ليلا .. او ..نهارا صباحا ...عصرا .. رحم الله جميل ( كلو حمادي ) اذا صاح بصوته عزلوا يا ناس الكل تستجيب لمطلبه ومنهم من يلتحق بالفعالية ومنهم من يستريح في داره وهؤلاء قلة.
اعتقال وجبة ويطلق سراحهم ليحل محلهم وجبة أخرى بفعل المطالبات والفعاليات المستمرة ، استمر الحال على هذه الصورة لعدة أشهر وكانت ذروتها في شهر تشرين الاول من عام 1956 عندما أقدمت السلطة على اعتقال مجموعة من الطلبة والشباب في مداهمات ليلية ، مما اثار حفيظة وغضب أبناء المدينة ، استيقضت في صباح اليوم التالي عن بكرة أبيها في تظاهرات صاخبة استمرت لعدة أيام أذعنت السلطة الى إطلاق سراحهم وفي تشرين الثاني من ذلك العام عاد التوتر يخيم على المدينة بسب استمرار العدوان الثلاثي على الجمهورية المصرية ذلك العدوان الذي شاركت فيه بريطانيا وفرنسا وإسرائيل بالاعتداء على مصر على خلفية قيام الجمهورية المصرية بتأميم قناة السويس , وموقف الحكومة العراقية الملكية المتفرج على ذلك العدوان ، اندلعت تظاهرات واضطرابات لم تشهد لها المدينة مثيلا لها من قبل .
و.. التوتر يخيم على المدينة .. الناس يتابعون إنباء المعارك من خلال وسائل الإعلام المسموعة من إذاعة صوت العرب والقاهرة والجمهورية السورية وإذاعة موسكو علما ان تلك المحطات الإذاعية كان محرما سماعها ، وكانت بطولات ابناء بور سعيد في التصدي للعدوان مثار اثارة الحماس بين المواطنين , اذ قام مجموعة من الشياب بفتح باب التسجيل للتطوع والقتال الى جانب الشعب المصري , وكانت تلك الفعالية علنية وكان حسين ملا محمد ومعه آخرين في تنفيذ المبادرة و تسجيل أسماء المتطوعين في ساحة الصفا .
واخذ الناس ايضا يتابعون انباء الانتفاضة في مدينة النجف الاشرف والتضامن مع مظاهرات الاحتجاج ضد ذلك العدوان والتي أخذت تمتد الى مدن أخرى كالموصل وبغداد والكاظمية والبصرة والناصرية وغيرها من هبات شعبية ضد نظام الحكم شبه الإقطاعي المتفرج على ما يجري من عدوان على الجمهورية المصرية الفتية ،طيلة ساعات النهار واختفاء أجهزة السلطة عن مسرح المدينة , وحراسات ليلية من قبل الأهالي حتى الصياح الباكر ، وأصبحت المدينة تحت سيطرة أبناءها ولا وجود للشرطة او أي تواجد عسكري في أي مكان من المدينة ما عدا مركز الشرطة ، مما دفع السلطة الى استقدام فوج من قوة شرطة السيارة وذلك في الأسبوع الاول من شهر كانون الأول من العام ، وفعلا وصل الفوج المذكور مدججا بأسلحته الخفيفة والثقيلة ، التي تصور الناس إنها كانت لإرهابهم ولا يمكن ان تستخدم في يوم ما ضدهم ، واستقر الفوج في الشمال الشرقي من المدينة وعلى بعد عدة كيلو متر من حدودها .
صار اغلب الأهالي على بينة مما مبيت لهم . تشكلت على اثر ذلك لجنة قيادية لتدارس مستجدات الوضع في المدينة وما ينجم عنه ذلك التصعيد الذي بات محسوما نحو المواجهة . وصارت تعقد اجتماعاتها في دار الرفيقين (عباس الحاج حسين وسلمان داود حاتم ) لمناقشة أي طارئ يستجد ، يوم 15 كانون كان يوما مشهودا في المدينة حولت الجماهير الغاضبة في تظاهراتها في ذلك اليوم برودة الجو وزخات المطر الى يوم ساخن وحشود قل نظيرها من المتظاهرين وقد استطاعت الجموع من احتلال دائرة البريد وقطع الاتصالات مع سائر المدن العراقية , وتولى حراسة الدائرة مجموعة من الشباب وكذلك تم تعطيل الدراسة في جميع المدارس , وصار الجميع في حالة إنذار وتأهب قصوى, عندما بدأت تتسرب المعلومات عن تحرك فوج قوة شرطة السيارة نحو المدينة . وصاحب ذلك بعض التسريبات بما تريده السلطة لقاء انسحاب القوة التي تم استقدامها الى المدينة ، عن تسليم أربعين مواطنا من الأهالي دون ذكر أسماءهم بذريعة أنهم يعرفون أسماؤهم من خلال نشاطهم اليومي المعادي والمعارض للسلطة ، بعد ذلك صارت تلك مطالب تقدمت بها السلطة المحلية ، نالت الاستخفاف والاستهجان والرفض القاطع من قبل اغلب أبناء المدينة.
عقدت اللجنة اجتماع مطول واستمر طيلة النهار والمساء في دار الرفيق سلمان داود حاتم في شارع البريد القديم والذي استمر حتى ساعة متأخرة من ليلة 15 / 16 , وكان لها الاجتماع الاخير والمتواصل ليل 16/ 17 من كانون الاول , حيث تدارس كل مستجدات الوضع في المدينة .

كما ذكرنا في مكان سابق أخذت اللجنة القيادية تكثف من اجتماعاتها لتدارس مستجدات الوضع ، اذ رفضت مطالب السلطة بناء على رغبة اغلب أبناء المدينة , اذا تقدمت السلطة بهذه المطالب بشكل رسمي . ( ولكن في حالة ان بتقدم الأربعون مواطنا بتسليم أنفسهم إلى السلطات المحلية يمكن حلحلة الأوضاع وعودة الأمور الى حالتها الطبيعية ) وقد رفض هذا الشرط رفضا قاطعا ، وارتأت اللجنة التهيئة والاستعداد للمواجهة المفروضة ، تهيئة الأسلحة الموجودة عند الأهالي والقناني الزجاجية الفارغة وعملها عبوات ناسفة ، ونقل الطابوق إلى سطوح المباني والأسواق ، ووضع العراقيل والمعوقات في الطرقات والشوارع الرئيسية والأسواق كل تلك الاستعدادات تمت وبسرعة فائقة من عصر يوم 16 / 12 واستمرت لغاية فجر يوم 17 /12 ، وتمت كل الاستحضارات للمواجهة وهي من الأسلحة البسيطة التي لا تتجاوز عدة بنادق نوع " أم عبية " و " البرنو " و " المسدسات واتخذ الشباب مواقعهم على سطح الأسواق والمنازل منذ ليلة 16 / 17 من كانون الأول الجميع على أهبة الاستعداد والترقب بعد ان صار شائعا في المدينة ان الساعة الحادية عشرة من يوم 17 / 12 ستوجه الضربة للمدينة في حالة عدم تسليم الأربعين مطلوبا .
ساحة الصفاء التي تنطلق منها التظاهرات هي مكان التجمع لقادة الانتفاضة ومنها تصدر الأوامر والتعليمات صباح ذلك اليوم .
صبيحة يوم 17 / 12 قام وفد من وجهاء المدينة باللقاء مع الجهات المسؤولة في القضاء لتدارس الوضع وكان " درع مشحن الحردان " وكيل قائم مقام قضاء الحي وجرت مفاوضات لحل الأزمة ونزع فتيلها وعودة الأمن والاستقرار الى ربوع المدينة عندما قبلت اللجنة عودة الامور الى نصابها وتسليم من تريدهم السلطة , ولكن السلطة أصرت على تنفيذ مطالبها بتسليم أربعين مواطنا من دون تسميتهم وان أخر موعد لتلبية هذا الشرط الساعة الحادية عشرة من هذا اليوم ستكون القوة المستقدمة تقوم بواجبها وهذ ا يعتبر إنذارا نهائيا .
بهذه الرسالة التحذيرية جاء الوفد لإبلاغ قادة الانتفاضة الموجودين في ساحة الصفا وإبلاغهم نتلك الشروط ، سرعان ما واجهت رفضا قاطعا من قبل المحتشدين من المنتفضين وردوا على الوفد بالأهازيج والهوسات التي تثير الحماس وخصوصا من الذين كانوا على سطح السوق ، في حين رد الشهيد البطل علي الشيخ حمود على الوفد لا مانع لدينا من نزع فتيل الأزمة وحقن الدماء في حال تسمية الأربعين مواطنا الذين تطلبهم السلطة.
الوفد عاد إدراجه وهو يعرف مسبقا نتيجة وساطته موصدة الأبواب بوجهه ولكنه ذكر قادة الانتفاضة بموعد الانذار النهائي .
في تمام الساعة الحادية عشر من صباح ذلك اليوم توجهت نحو المدينة القوة المهاجمة وعلى ثلاث محاور واحد من شمال المدينة بمحاذاة شارع نهر الغراف والأخر من جهة المركز والثالث من وسط المدينة ودخل مخترقا السوق الرئيسي.


كاظم عبد الصائغ

وقد بدأت معركة حقيقية ومقاومة بطولية باسلة أوقعت خسائر فادحة بالقوة المهاجمة ، وكبدتها عشرات القتلى والجرحى فاق حد التصور بالرغم من القوة المنظمة من حيث العدة والعتاد التي كانت بحوزتهم اضطرهم الى إطلاق ثلاث قناير هاون واحدة وقعت في نهر الغراف وأخرى قريبا من مرقد الصحابي التابعي الجليل سعيد بن جبير وأخرى بعيدا عن مركز المدينة وفي جنوبها وهي بلا شك معركة غير متكافئة واستمرت تلك المعركة حتى غروب ذلك اليوم عندما استطاعت القوة المهاجمة من احتلال بعض الدور السكنية العالية في المدينة وجعلت المنتفضين تحت رحمة نيران أسلحتهم مما أدى الى انسحاب الشباب من السطوح باتجاه المنازل القريبة على شكل مجاميع ، وللأمانة التاريخية كان كاظم الخويلدي يقاتل القوة التي دخلت السوق وجها لوجه اذ لم يحتمي مع رفاقه على سطح السوق .
استشهد في تلك المعركة الضارية والغير متكافئة الشهيد البطل " كاظم عبد الصائغ على سطح السوق في ساحة الصفا ،
وكذلك استشهدت المواطنة ركية اشويليه وهي تؤدي واجبها في تقديم الطعام والماء والأهازيج من على سطح دارها القريبة من سوق ساحة الصفا ، واستشهد المواطن "حميد فرحان الهنون " قرب باب داره ، وكان هناك عد من الجرحى ، منهم سيد عبد الرضا السيد حسين ( ابو لهيب ) وحميد عبد الله الجفال ومهدي عبد الله الوادي وجليل ناصر ( القولجي ) واثنان من النساء في شارع البريد القديم .
بقي اطلاق النار مستمر وبشكل متقطع حتى اليوم الثاني من الانتفاضة. والهدوء خيم على الاهالي في المدينة اذ لزم الجميع مساكنهم . يضاف الى ذلك سوء الأحوال الجوية وبرودة الجو .
في مساء تلك الليلة سمعنا وقع أقدام على سطح الدار استبشرنا على أمل عودة أخي الأكبر الذي غادر المنزل منذ ثلاثة أيام ولا نعرف عن مصيره شيئا ، اذ كان من الناشطين في المدينة صحبة رفيق دربه هادي حسون العمران الذي سبق أن فصل من الثانوية الجعفرية مطلع العام , صعدت سلم الدار لاستقبال القادم سمعت صوتا خافتا يقول : لتخاف بشار إني " علي " وكان معه اثنان غطوا رؤوسهم ( بالغتر البيضاء ) ، أنزلتهم الى باحة الدار وكانوا ، كل من الشهيد "علي الشيخ حمود " والمرحوم " ناجي داغر " وهو ايضا من قيادي الانتفاضة و " ناجي سلمان الجوراني ". وقد استقبلهم أخوالي الذين حضروا عندنا للتخفيف وتهدئة روع والدي وخشيته على اخي من المكروه ، أدخلناهم في احد غرفنا الصغيرة بعد ان غسلوا أرجلهم من الطين العالق بإقدامهم لصعوبة الطريق التي سلكوها (طمة الحمام) للوصول الى الدار الذي نحن فيه اعددنا لهم ما توفر عندنا من الطعام لسد الرمق وأعادت المرحومة الوالدة تجهيز منقلة النار وتخدير الشاي ، وجرى حديث شيق مع الشهيد علي الشيخ حمود عن الانتفاضة وحيثياتها وتفاصيلها ، ما اثار استغرابنا شجاعته وعدم اكتراثه بما حصل وكان على اطلاع على كل النتائج التي تمخضت عنها تلك المعركة غير المتكافئة .
نقل لنا خبر استشهاد البطل كاظم الصائغ وركية شويلية وأسماء بعض الجرحى ونبا اعتقال رفيقه عطا الدباس في احد الدور السكنية المهجورة كان ذلك اللقاء أشبه بالمؤتمر الصحفي ، وعندما سأله والدي عن إخبار أخي أجابه قائلا : انه بخير هو ومجموعة من رفاقه ألان في مكان امن ألان .. " وبعد فترة اخذ قسط من الراحة قال الشهيد علي : لا نستطيع البقاء عندكم خشبة مداهمة الدار من قبل الشرطة بحثا عن ابنكم عزيز .." سنتحول الى دار جيرانكم نديم عليوي ( السائق الطيب) ولانفصلنا عن داره سوى الستارة الواطئة الارتفاع .
صعدت معهم الى سطح الدار تحولوا إلى الدار المقصودة الواحد تلو الأخر, وكانت حديقة خلفية في الدار . المرحوم نديم عليوي ترك داره صبيحة ذلك اليوم هو وجميع أفراد عائلته ، وكان في الحديقة مخزنا فيه بعض الحاجيات المستهلكة جعلهم يستغلون ذلك المكان لآيوائهم من البرد ورداءة الجو وقد رميت لهم من الأغطية التي تقيهم من البرد والتبغ ودفاتر البافرة وقوري فافون صغير وكمية من السكر والشاي .
بقوا في ذلك المكان ثلاثة أيام وكنت على صلة معهم من خلال الرسائل التي أرسلها لهم عن أخر المستجدات ، وخصوصا عملية التفتيش الواسعة والمكثفة خصوصا عن الشهيد علي الشيخ حمود والشهيد عبد الرضا الحاج هويش بالرغم من إشاعة نبا خروجه من المدينة . طيلة الأيام الثلاثة وفرنا لهم من الاحتياج ما يسد الرمق من الخبز والطعام والسكائر .


الشهيد عبد الرضا الحاج هويش

تزايد الضغط على المدينة من حيث كثافة التفتيش وحصر الأزقة وتحديد الحركة والمرور في الشوارع بحثا عن القائد علي الشيخ حمود بشكل خاص وبعض المطلوبين .
صارت فرقة تفتيش المنازل قريبة من الدار التي نسكنها ، عندها رميت لهم رسالة تحدثت عن حقيقة الوضع في المدينة ، وفي عصر ذلك اليوم وصلنا أخي متخفيا . وأما هم غادروا المكان فجر اليوم الثالث وكان الجو غائما وهناك نث من المطر ، الشهيد علي الشيخ حمود سلك الشارع المحاذي لنهر الغراف متجها شمالا واتخذ من دار خالية من ساكنيها ملاذا وجد فيها شقيقه ( نعمه الشيخ حمود والمرحوم حسن عليوي ) .
عصر ذلك اليوم تمت مداهمة الدار التي اختفى فيها الشهيد والقي القبض عليهم وقد تعرض الثلاثة الى أبشع أنواع التعذيب اذ أخذت الدماء تسيل من وجوههم حسب شهود العيان .
بعد إلقاء القبض على الشهيد علي خف الضغط عن المدينة . وفي اليوم التالي حضر اثنان من أفراد الشرطة صحبة والدي الذي استدعي من دكانه طالبين القبض على شقيقي ولا زلت أتذكر انه كان يتهيأ لهذا الإجراء حيث كان يحلق ذقنه وخرج على إفراد الشرطة قائلا أكمل حلاقة ذقني وأكون معكم . وبعد دقائق معدودة ذهب معهم في حين كانت توجد فرصة لهربه من خارج الدار.
ظلت الأوضاع غير طبيعية في المدينة بسبب شراسة الهجمة التي قادها فوج شرطة السيارة ، والإرهاب الذي مورس ضد الناس العزل خلال عمليات التفتيش وكانت معهم الة للتحري عن الأسلحة وكانت تعطي إشارتها حتى للأدوات المستخدمة في المنزل .
ونتيجة ذلك حدثت حالات إجهاض لبعض النساء .
مطلع كانون الثاني من عام 1957 جرت محاكمة صورية صار يتندر بها من عرف عنها من الذين أفرج عنهم قضت تلك المحكمة التي جرت في احدى مدارس مدينة لواء الكوت بالحكم بالإعدام شنقا حتى الموت على كل من الشهيد علي الشيخ حمود وعطا مهدي الدباس ونفس الحكم غيابيا على الشهيد عبد الرضا حاج هويش الذي تمكن من مغادرة المدينة مساء يوم الانتفاضة عبر نهر الغراف واستطاع الوصول الى سوريا .
وصدرت أحكام بمدد مختلفة ، خمسة عشر عاما على كل من طوشي حياوي ، شذر شاكر ( شكير ) ، ناجي داغر ، رحيمة الداود حسن عليوي عجيل ، محسن الحاج هويش ، كلو حمادي حويفظ ( جميل ) ، تعمة الشبخ حمود ، عريبي مهدي الدباس ، حسن عيدان وبالحبس الشديد لمدة عشر سنوات على كل من كرم عبد علي علش ، حسين ملا محمد ، ناجي عليوي السرداح ، مطير حبيب . سعد علاوي ، محسن مطر شمخي ، وبالحبس الشديد لمدة ثلاث سنوات على كل من سلام الشيخ احمد قفطان ،ارميض حسين ، محسن شلش ،حسين جساس ، وصدرت أحكام لمدة سنة على بعض المتهمين ، وأما بالنسبة لشقيقي صدر عليه الحكم بالحبس لمدة سنة مع إيقاف التنفيذ والاكتفاء بالمراقبة لمد ة سنة واحدة ، وصدر حكم بحق محسن السيخ حمود وهو أيضا شقيق الشهيد علي لمدة خمسة عشر عاما غيابيا وهو أيضا تمكن من مغادرة المدينة مساء يوم الانتفاضة عبر نهر الغراف كما تمكن أيضا من المغادرة عبد المنعم صيهود القيسي وموسى سلمان .ومعذرة للأسماء التي لم نحصل على قرار الحكم الصادر بحقهم .
أشيع في المدينة خبر تم تسريبه من المعتقلين مفاده ان تنفيذ حكم الإعدام بحق البطلين سيكون فجر يوم 10 / 1 / 1957 .


جبوري شنون

الموظف الصحي جبوري شنون يقول تم تكليفي من قبل المستشفى بتلقيح السجناء في سجن الكوت ضد مرض الجدري وكان لي الشرف بلقاء الشهيدين علي وعطا وكانا يتمتعان بمعنويات عالية وطلبا مني نقل تحياتهم إلى أبناء المدينة والقيام بحملة تضامن معهم للحيلولة من تنفيذ تلك الأحكام من خلال تشكيل الوفود والعرائض . وقد تم تشكيل وفد من عائلتي الشهيدين وبمساعدة علي وعطا من الذهاب إلى ناحية الأحرار لمقابلة الأمير ربيعه رحمه الله وتم تهيئة ومساعدة الوفد من قبل المعلم المرحوم صالح عمران عيسى وشقيقه سلمان حيث ارتبطا بعلاقة وثيقة بالأمير ربيعة والذي بدوره يملك من تأثير مباشر على الوصي على العرش في العراق الأمير عبد الإله وقد استطاع الوفد من مقابلة الأمير ربيعة ولكن السلطات في بغداد اشترطت تقديم البراءة من الحزب الشيوعي العراقي مقابل تخفيف أحكام الإعدام . عندما ابلغ البطلين بالشرط رفضاه بقوة وبإصرار.

         
المعلم صالح عمران عيسى          المعلم سلمان عمران عيسى

وكان للعلامة المغفور له المرحوم " الشيخ عبد الأمير الشيخ موسى فسام " وكيل المرجع الديني السيد محسن الحكيم في الحي دوره في التعاطف مع قضيتهم ( يقول أبو عبدالله المواطن : كاظم ثجيل امد الله في عمره وهو من أهالي الموفقية ) .." بطلب من الشيخ عبد الأمير فسام شاركت بوفد يتكون من عدة أشخاص بزعامة الشيخ عبد الأمير فسام وذهبنا الى بعض رجال الدين في النجف الاشرف  طالبين التدخل لانقاذ حياة البطلين علي وعطا ، تلك الجهود لم تثمر شيئا ، ولكن يبقى هذا الموقف يتذكره أبناء مدينة الحي من رجل الدين المغفور له الشيخ عبد الأمير فسام ومن رافقه في تلك المهمة . وايضا كنا نتابع ما تذيعه اذاعات صوت العرب وتعليقات احمد سعيد عن التضامن مع ضحايا انتفاضة مدينة الحي بعدم تنفيذ احكام الاعدام الصادرة بحق ابطالها وكذلك اذاعة القاهرة واذاعة موسكو. كنا نتابع حملة تضامن واسعة من التقدمين ولكن من دون جدوى.
يوم 9 /1 / 1957 بدأت السلطة المحلية من تكثيف اجراءاتها الأمنية والعسكرية حيث توزعت وحدات للحراسة على البنايات والسطوح العالية وتسير الدوريات المكثفة في الأسواق والشوارع العامة ، وصار مؤكدا تنفيذ أحكام الإعدام بحق البطلين فجر يوم 10 / 1 .
في ساعة متأخرة من ليلة 9 – 10 /1 سمعنا طرقا على الباب أيقضنا من نومنا ، وسارع الوالد نحو الباب لمعرفة الطارق ، وكان كل من مراقب البلدية كاظم صالح جراد ومعه اثنان من فوج شرطة القوة السيارة ، وطلبوا من والدي الذهاب معهم الى مركز الشرطة بناء على أمر من مدير الشرطة والقائم مقام لغرض التشهد بوجه البطلين وقراءة القرىن الكريم لهما قبل إعدامهما لكون الوالد رحمه الله من القراء على الإمام الحسن عليه السلام (روزخون) ، اعتذر الوالد من الذهاب معهم بذريعة سوء حالته الصحية ولكنهم أصروا على ذهابه معهم ولم يتركوا له مجالا للاعتذار و رفض طلبهم وسط رعبه وفزعه من هذه المهمة ، ذهب معهم مكرها ، وبعد حوالي الساعة والنصف او الساعتين عاد الوالد ومعه إفراد الشرطة فقط ، وكانوا جميعا في حالة يرثى لها من الحزن والبكاء ،للمشهد الذي واجههم في تلك المهمة .
واخذ الوالد يحدثنا عن هذه اللحظات التاريخية الحاسمة التي جمعته بالشهيدين ورباطة الجأش التي امتلكاها والنوم المطمئن الذي خلد اليه الشهيد البطل عطا الدباس ، الوالد أسهب في الحديث عن شجاعة البطل علي الشيخ حمود حيث الابتسامة لم تفارق وجهه ولباقته في حديثه وكان يلاطفني تارة وتارة أخرى يسألني عن أحوال المدينة وأبناءها ، وإنا أمامه أجهش بالبكاء وهو صار يهدئ من روعي ، وعندما عرف سبب حضوري في هذه الساعة المتأخرة من الليل ( التشهد في وجوههم وقراءة القرآن الكريم )
أجابني قائلا : ( ليش همه عدهم دين حتى يردوك تشاهد بوجوهنا لو كانوا كذلك لما أثاروا الرعب والفزع عندكم من هذا الاستدعاء في هذا الوقت المتأخر من الليل إنهم لم يبتعدوا عن وسائلهم في ممارساتهم الخبيثة ( ترويع أهلنا وعوائلنا في أي وقت يشاءون لإثبات قوتهم وجبروتهم )
تلك الليلة الشتائية التي تميزت ببرودة الجو وتساقط نثات من المطر لم يغمض لنا جفن وحتى الفجر نبتهل جميعا بالدعاء وفي ترقب وانتظار ما يوقف تنفيذ الجريمة . إلا أن فجر ذلك اليوم خيبت فيه أمالنا , وما كنا نتفاءل به من إرادة ملكية توقف تنفيذ الحكم لم يتحقق .
وفي ساحة الصفا تلك الساحة التي كانت ميدان للتجمعات الجماهيرية وانطلاق التظاهرات الحاشدة وقريبا من مكتبة السلام التي منها توزع الممنوعات والنشرات السرية المعارضة للحكومة في ذلك الميدان المهيب نصبت الأعواد وجيء بأبطال الانتفاضة الباسلة وبحضور عوائلهم استيقظ ابناء المدينة على صوت ابنهم البار علي الشيخ حمود ورفيق دربه عطا الدباس وهما يودعان أهلهم وإخوتهم ورفاقهم وكل من أحبهم من أبناء المدينة، هتف البطل بحياة الحزب الشيوعي العراقي اذ كرر مقولة الرفيق الخالد فهد  :
(الشيوعية اقوى من الموت وأعلى من أعواد المشانق) وأوصى زوجته أن تكون وفية للمبادئ التي استشهد من اجلها وهي كانت حامل حيث طلب منها ان كان مولودها ذكرا ان تسميه باسم رفيق دربه " عطا " تخليدا له اذ كان (غير متزوج) وأوصى والدته ان تكون راعية لمن بقى معها من إفراد العائلة وتحسن رعايتهم وتربيتهم.
وقبل أن يرتقي أعوادها ويضع الحبل بيده في رقبته مستهينا من رغبة الجلاد في ذلك . حيث انشد تلك الأبيات :

الشعب ما مات يوما
وانه لن يموتا
فان فاته اليوم نصرا
ففي غد لن يفوتا

وداعا ياجماهير مدينة الحي الباسلة لن يرهبنا الموت
..

بهذه الأبيات الشعرية والكلمات الثورية ودع ابناء مدينته , وبقيت جثامين الشهيدين معلقة على اعواد المشانق  حتى الساعة الحادية عشر من صبيحة ذلك اليوم . ونقلا بعدها على سطح سيارة باص خشبي الى مكان قريب من مرقد التابعي والصحابي الجليل " سعيد بن جبير " ودفنا في المقبرة القريبة منه .
اخذ معظم الشباب الذي بقي طليقا وبعض أبناء المدينة يذهبون خلسة مساء كل يوم لزيارة قبريهما ، وبعد مدة من الزمن تسللت مجموعة منهم ليلا وقاموا بنقل الجثامين الى مقبرة وادي السلام في النجف الاشرف , واستمر المحبين في زيارة قبريهما .
وقد جاء المولود ذكرا وسمي باسم عطا تخليد للشهيد عطا مهدي الدباس وهكذا تحققت نبوءة شاعر العرب الأكبر ألجواهري .


صورة تجمع : المرحوم عزيز محمد جواد قفطان
وهادي حسون عمران أمد الله في عمره

مجدا للواهبين دما أبطال انتفاضة مدينة الحي الباسلة في عام 1956
وعاشت ذكراها المجيدة





 

free web counter