| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

بلقيس حميد حسن

balkis8@gmail.com

 

 

 

الأحد 12/12/ 2010


 
 الهمجية وقتل الجمال

بلقيس حميد حسن

بحثت عن عنوان لمقالي فلم أجد أنسب من وصف الهمجية لكل ما يحصل في العراق اليوم من تدمير للتقاليد الحضرية, واشاعة للفوضى وعدم التماسك وعدم تطبيق الدستور والأنظمة والقوانين التي تحكم حياة الناس بشكل عادل ومسؤول, بحيث يمكننا وبكل جرأة أن نطلق صفة الهمجية على ماقرره سكرتير مجلس محافظة بغداد من اغلاق للنوادي الثقافية بدون تعليل مقبول, واغلاق اماكن اللهو والترفيه, وتحريم تعلم الموسيقى والمسرح في معهد الفنون الجميلة, واغلاق دور السينما بالتزامن مع ما تتعرض أوتعرضت له الأديان الاخرى في العراق كالمسيحية والصابئية والايزيدية من قتل على يد الارهابيين والمتعصبين والمعتوهين ومن تهديم لدور العبادة, كل هذا يندرج ضمن فعل الهمجية والعودة الى الوراء.

وحتى أكون موضوعية في الوصف فتشت عن معنى كلمة الهمجية في القواميس فوجدت اغلبها تتفق على معنى تقريبي واحد وانقل هنا ما جاء بقاموس لسان العرب الذي اخترت منه المعاني الأهم والتي تعنينا في المقال وهي كما يلي:
" يقال لرُذالَة الناس: هَمَجٌ؛ وقال ابن الأَعرابي: والهَمَجُ البَعُوضُ والذباب, ثم يقال لرذال الناس: هَمَجٌ هامِجٌ؛ والهَمَجُ: الرَّعاعُ من الناس؛ وقيل: هم الأَخلاط، وقيل: هم الهَمَلُ الذين لا نِظَامَ لهم. وكل شيء ترك بعضه يَموجُ في بعض، فهو هامجٌ. ويقال للرَّعاع من الناس الحَمْقَى: إِنما هم هَمَجٌ هامِج؛ وقالوا: سُوءُ التدبير في المعاش؛. ويقال لأُشابَة الناس الذين لا عقول لهم ولا مُرُوءَةَ: هَمَجٌ هامج. وقومٌ هَمَجٌ: لا خير فيه؛ ورجل هَمَجٌ وهَمَجة: أَحمق، وجمعُ الهَمَج أَهْماجٌ.والهَمَجةُ من الناس الأَحمق الذي لا يتماسك"
هذا بعض ما ذكره لسان العرب عن كلمة الهمجية, وهذا ما نراه اليوم حاصل في العراق والذي فاق همجية الحملة الايمانية الصدامية, بل انه لم يتجرأ على تحريم الموسيقى والفنون.

ان من يحاول إنهاء صناعة الجمال المتمثلة في الفنون والثقافة, والتي تعتبر أول مظهر من مظاهر الحضارة الانسانية يكون- حسب القاموس- أحمقا وهمجيا وغير متماسك, وهو ايضا من الرعاع , لأنه لا يعرف النظام حينما يكسر الدستور والأنظمة المتفق عليها من قبل الشعب ويخلط بهمجيته الناس بالناس ويتركهم يقاتلون بعضهم بعضا.
ان أول روافد الإرهاب في العالم هم الشباب الذين لا يجدون في الحياة جمالا ومتعة للبقاء حيث حرموا منها أما بغسيل أدمغتهم عن طريق متعصبي شيوخ الدين, او فقرا وتشردا وبطالة عن العمل, حيث لايجد الشباب أوقاتا من الترفيه واللهو البريء وممارسة المواهب التي تشدهم للإبداع وتحببهم الحياة.

لقد دأبت الدول الحضرية عبر التاريخ البشري على تشجيع المواهب والفنون ومنح النفس البشرية فرصة الانطلاق والتعبير عن الذات, لأن الانسان هو باني الحضارات وبدون حرية النفوس وانطلاقها لا يمكن أن يبدع أو يصنع أي شيء. ففتحت لذلك المراكز التي ترعى الفنون, وفي ذلك يقول يوسف ابو اسحق الكندي, الفيلسوف العراقي, العربي, القحطاني , والذي لم يأتنا من أوروبا او أمريكا أو أية دولة كفر, كما يحلو لبعض الشيوخ تسمية الدول الغربية التي فاقتنا حضارة وعلما, والكندي عالم موسوعي في الفلك والكيمياء والفيزياء وعلم النفس والطب والمنطق والموسيقى وجملة اخرى من العلوم والمعرفة التي دعت العالم بتسميته بـ"المعلم الأول" في تاريخ العرب والمسلمين, وقد عاش في الزمن الاسلامي ما بين 805- 873 ميلادي, أي انه لم يعش في الزمن الشيوعي أو الكافر, ومن جملة ما ألفّ َ كتابا شهيرا في الموسيقى والمعنون بـ" رسالة في الموسيقى" حيث يؤكد هذا العلامة على أهمية الموسيقى للنفس البشرية ولسلامة المجتمعات وصحتها ونهضتها وارتقاء القيم والمباديء فيها حينما يقول:
" تعلم الموسيقى كتعلم الطب"

ان الفنون بأشكالها هي الفكر الأول الذي فطر عليه البشر وأولها فن الموسيقى, وهي الإحساس الشفيف الذي يرتقي بالنفس البشرية ويعلو بها نحو آفاق فلسفية بعيدة عن اللهاث وراء المال وماديات الحياة التي تهبط بالنفس الى الحضيض وتجبرها غالبا على الخداع والزيف والكذب والخيانات والاحتيال والوقوع في براثن الفساد كما يحصل اليوم في العراق, فالفنون الحقيقية صانعة الأخلاق الرفيعة, وكم يحتاجها مجتمعنا لتنقذه من خراب النفوس بسنوات الحروب والحصارات والاحتلال والتعصب والتكفير والارهاب والقمع والاقتتال والتحزبات والتسلط والعبودية التي عاشها المجتمع العراقي عبر العقود الأخيرة والتي يعيشها اليوم.

إن كان مجلس محافظة بغداد مسلما فأين هو من زمن هارون الرشيد الاسلامي, والذي عاش فيه الكندي, وهو العصر المسمّى بالذهبي, حيث انتعشت الفلسفة والفنون والعلوم واصبحت بغداد قبلة العالم, يقصدها طلاب المعرفة من كل بقاع الأرض؟
أية همجية جديدة يريدونها اليوم لنا بقراراتهم التعسفية؟

يذكرني هذا بوالدي الشاعر المرحوم "عبد الحميد السنيد", والذي كان رجل دين, وهو ينتقد زمن الحرس القومي وهمجيتهم بقصيدة كادت ان تزج به في سجون طغاة ذلك الزمن ولم يجرأوا, والقصيدة من ديوانه "ألحان الروح" الصادر عام 1964 في العراق- ونرى ان حتى عنوان الديوان جاء ايمانا بالألحان التي يحرم الجهلاء تدريسها اليوم- وعنوان القصيدة " تحية فكرية" وقد أهداها الشاعر عبد الحميد السنيد الى المعلم الأول , الكندي وفيها يقول:

ايه ِ بغداد صافحتك القلوبُ ×× كم سما فيك ِ عالم ٌموهوب ُ
ونما فيكِ للحضارةِ غرسٌ ×× أبد َ الدهر منه ُ يأرج ُ طيـبُ
حيث ُ عصر الرشيد ِ يشرق ُ بالحكمةِ والدهر بالهنا مصحوبُ
والأماني العـِذاب تختالُ نشوى ×× مرحات ولم يربها مريبُ
طأطأ َ الغرب ُ حولها أرؤس َ الذل ِ وولـّى وفي القلوب ِ وجيبُ
..
خبريـــنــــا بغداد أين حبيبُ ؟ أين رسطو زمانه يعقوبُ؟
أين ورقاء حلـّقت بابن سينا؟ أين عصر ٍ بالعلم ِ زاهٍ خصيبُ؟
أين دار الخلد التي تنطقُ الحكمة منها ويستفيدُ الأديـــــبُ؟
قد تذكرتها ففاضت دموعي من عيوني كأنهن غروب..

اكتفي بهذا القدر من القصيدة واترك للقاريء أن يرى ما وصلنا له من همجية فاقت المعقول, فلم تحرم الموسيقى في تاريخ العراق حتى في أحطها همجية, وليقارن القاريء ويتأمل الفرق بين معنى الهمجية والحضارة.
 


10-12-2010
 




 

 




 

free web counter