موقع الناس     http://al-nnas.com/

 صرخة سمية الشيباني في حارسة النخيل


بلقيس حميد حسن

الجمعة 11 / 8 / 2006

قبل اكثر من مائتي عام, صرخ الفيلسوف الألماني أيمانويل كانط بالعالم بندائه الشهير " اعملوا عقولكم أيها البشر ".
لم تذهب صيحته بالهواء , بل كانت هي بداية للتفكير بالسلام في أوروبا , أوروبا التي كانت تغرق بعصور الظلام والجوع والحروب , يوم كانت الكنيسة المؤثر والدافع الأول في قرارات السلطات في البلدان الأوروبية, حيث تشن الحروب بأمر من السماء عن طريق رجال الدين.
كانت صرخة كانط , بداية التفكير بفصل الكنيسة عن الدولة , وكانت البذرة التي تأسست عليها عصبة الأمم المتحدة فيما بعد ...
من هنا يكون الاهتمام بكل صرخة ضروريا لأحداث التغيير الإيجابي والبحث عن ما هو افضل للبشرية , وها أنني أجد في كتاب حارسة النخيل صرخة امرأة عاشت بعقلها وروحها وجسدها أحداثا كثيرة , سجلتها وعبرت بها عن هول ما يمر به العالم , امرأة استطاعت أن تصب الحب على الكراهية وتزاوجهما من اجل الحياة وكمن يخلط الماء بالنار دونما احتراق أو غرق ودونما انطفاء , فالتداعيات التي مرت بالبطلة كانت الضوء الذي يوقدك من جديد أو الريح التي تدفعك - وبقلب الأحداث القاتلة- للبحث عن طريق ما للتوحد بالبطلة والانحياز لها حيث تنشد السلام والحياة الطبيعية التي هي ابسط حقوق الإنسان , فكلما زادتك الأحداث قلقا وخوفا على مصيرها, أحببتها وانتظرت تداعياتها وتأثرت بها لتصبح واحدا من عائلتها و مريدا لها في كل ما تفكر , إنها سهل ممتنع ببساطتها وتلقائيتها المحببة , وهذا بحد ذاته إبداع . اقرأ هنا" استدعيت القوة والرغبة بداخلي في بناء أسرة تسكن خيالي منذ كنت طفلة .."

لست بناقدة أدبية لكنني لا املك أمام بعض الكتب إلا أن أقول كلمتي , خاصة حينما يتعلق الأمر بطرح قضايا إنسانية بإطار أدبي ابيض لا هدف له سوى توضيح عذابات الإنسان بحرقة من سار على جمرها , هذه العذابات التي تزيد يوما بعد آخر في بلدان الديكتاتوريات والتطرف الديني والتقاليد البالية. ولابد لي من أن انوه إلى أنني لا اكتب استعراضا للكتاب كما يفعل بعض الصحفيين الذين تطلب منهم صحيفة أو مجلة معينة أن يكتبوا ما يقارب 800 كلمة لمقال عن عمل جديد في زاوية أسبوعية يتقاضون عنها قدر محدد من المال.. اكتب لا دعاية لكتاب أعجبني , ولا طمعا بمقابل, إنما إحساسا مني بأهمية ما أقرأ, فحينما قرأت حارسة النخيل وهو عمل روائي للأديبة والإعلامية سمية الشيباني الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر شعرت أنني أمام كتاب لابد وان يضاف لكتب الناشطين بمجال حقوق الإنسان لما طرح بهذا الكتاب- من أوجاع وجروح تدق ناقوس الخطر وتنبه البشر لأخطائهم, والسياسيين لما تقترفه أيديهم بحق الأبرياء من شعوب مغلوبة على أمرها تطمح لأبسط حقوقها المشروعة بحياة هانئة آمنة طبيعية , حيث لا قهر ولا حروب ونزاعات تشوه كل ما هو جميل وتقتل كل حب ورغبة للحياة عند الكثيرين ليتحولوا إلى وحوش ضارية لا تمت للإنسان بشيء ..
هذه الرواية طرحت قضايا كثيرة هي من أولويات القضايا التي تناضل من اجل حلها الكثير من المنظمات والشخصيات العالمية في مجال حقوق الإنسان, كما طرحت تساؤلات فلسفية يطرحها كل من يريد التغيير والقضاء على معرقلات التطور التي توقف الانطلاق جهة التحرر وإنعتاق البشرية صوب النور رغبة بحياة افضل , لقد سجلت الكاتبة سمية الشيباني هموم الإنسان بأسلوب شيق لا يدعك تترك الكتاب حتى تنهيه متأثرا ببطلة الرواية , طفلة كانت, أم شابة متطلعة للحياة, أو زوجة وأم. وهنا سوف أحصى بعضا من القضايا المطروحة بهذا الكتاب:
• 1- قضية المواجهات والحروب والاعتداءات بين الدول المتجاورة إن كان بسبب الحدود أو لأي سبب آخر وما تجره هذه الاعتداءات على ملايين البشر الذين تزاوجوا ويتزاوجون عبر التاريخ بسبب القرب الجغرافي إن لم يكن بسبب جملة من المشتركات كاللغة والدين والقومية كما بين العراق والكويت, ونقرأ هنا :
"في أي اتجاه اذهب ألان ؟ هكذا بدت الأسئلة تتلاحق في رأسي , فأنا الابنة التي انشطرت من رحم واحد لأرضين, أمي كويتية ووالدي عراقي, وكلاهما زرع طريق الكويت البصرة جيئة وذهابا طوال سنوات بخطى الأشواق لملاقاة الأهل هنا – والأهل هناك, أين أمي ألان ؟ ...
• 2- قضية الحروب التي تشنها الدول الكبرى القوية بالعالم تحت يافطة الأمم المتحدة كحل لأخطاء واعتداءات ارتكبتها حكومات أخرى والشعوب منها براء , إذ غالبا ما يقود الحكومات طاغية ديكتاتور فيكون الشعب بين مطرقة الحرب وسندان الطغاة كالحرب الأمريكية على العراق وأفغانستان وغيرها.. نقرأ "سماء وطني الليلة تمطر دما وصواريخ! ونحن يبلعنا الوقت في تلك الصالة الصغيرة , في ذلك الحي البغدادي .. ذهبت لأشرب بعض الماء, كانت الحنفية تصدر صوت الخواء, كانت السماء تشتعل وتنطفئ ومعها الأرض تضاء وتعتم, كان النهار يظهر فجأة ويختفي فجأة في منتصف الليل, وكأن كل مصابيح الدنيا قد علقت في سماء بغداد, بل كل ما في العالم من متفجرات تسقط على ارض العراق".."الجميع يتلمس طريقه إلى طريق لا يدري لماذا هو متجه أليه, الموت يجلس معنا في الظلام, سوف لن يميز بين طفل أو شيخ أو بين امرأة ورجل , انه الموت , خلف الأبواب وعلى المقاعد, بيني وبين طفلتي, ربما هو داخل رحمي , أو بين أصابعي ! العتمة تبعث الحزن , تبعث القلق, الشموع ممنوعة هي الأخرى , فبصيصها سيكون دليلا لطائرة تبحث عن هدف, وممنوعة السجائر .. كيف ننام في هذا الظلام وكيف نقضي حاجتنا ,وكيف نرعى صغارنا , إنها تجربة قاسية أن تفقد عينيك فجأة ,أو أن تتخلى عنهما, لا في الحقيقة أنت لست بحاجة لعينيك طالما لا ضوء يسقط عليهما لتنيران لك الطريق . مسكين يا وطني , مكتوب عليك أن تحترق في كل زمن! مكتوب على أبنائك الموت في كل حقبة !"
• 3- قضية الأسلحة المدمرة والفتاكة التي تبيد الناس بالجملة كما حصل في ملجأ العامرية حيث تفحمت مئات الجثث لمدنيين أبرياء اغلبهم نساء وأطفال هاربين من الموت, والصراع الفلسفي الذي تركه موتهم لدى الكاتبة إن كان تساؤلات أو حوار غير مسموع , هذا الصراع هو خيط النور الأول والصرخة التي يتبعها التغيير حتما, والتي تشبه صرخة كانط بأسلوب أدبي , نقرأ "هل ترى الذين قتلوا بملجأ العامرية كان مكتوبا عليهم الموت الجماعي ؟وانهم اخذوا حقهم من الحياة ؟ وانهم لم يموتوا ناقصي عمر ؟. كيف قتلوا هكذا بالمجان ؟ هل من المعقول أن يكون قد كتب على كل من في ملجأ العامرية أن يموت بهذا الشكل حرقا بالجملة ؟ هل هذا حقا معنى أن يأخذ كل حقه من العمر ؟ بدأ أيماني يهتز بعض الشيء , أريد أن أحاكى الله , أن أساله لماذا هذه النهايات لمحبيك , السنا أرواحك على هذه الأرض؟ السنا وجوهك الجميلة ؟ السنا خلقك أيها الرب؟ انصفنا , احمنا من هكذا ميتة , إنها ميتة مخزية , سيصلون علينا بالجملة أو حتى لا يصلون , سوف لن يجدوا القبور الكافية لدفننا , سيدفنوننا جماعة , وسوف لن تعثر أمي على قبري كي تزورني "
• 4- قضية حقوق المرأة في القوانين الوضعية العربية, وصعوبة حصول المرأة عليها في المحاكم, وروتين أصول المحاكمات وعدم مراعاتها مشاعر الأطفال والتقاليد التي تتداخل مع القوانين وتفرض نظرة دونية على المرأة . تعدد الزوجات وتأثيرها على الطفولة وعلى تكوين شخصية سوية لدى أبناء المجتمعات التي تأخذ بمبدأ تعدد الزوجات, والتي غالبا ما تخلف أحقادا وعدا وات في إطار العائلة الواحدة والتي هي نواة المجتمع والمدرسة الأولى لكل فرد .. وفي الرواية تعاتب البطلة والدها بصمت وتدحض خوف المجتمع الذي ينتقد تربية النساء حيث يشيع قول" ترباية حريم" نقرأ "هل كنت في العاشرة من عمري , ربما اقل لا اذكر, لكنني أتذكر أننا كنا محتجزين بأمر من المحكمة في بيتك, انتزعت حقك في حضانتك لنا فقط لإذلال أمي , كنت تعاملنا على أساس أننا ملك ويجب أن تناله!, وفرق كبير أيها الوالد بين أن تبقي على ملكك تحت وصايتك , وان يكون برعايتك ومحبتك! وفرق كبير بيننا وبين الحجر , لم نكن حجرا, كنا نحس ونسمع ونعلم ونرى "
• 5- قضية الديكتاتوريات وقهرها لشعوبها وإبعادها عن المساهمة ببناء الحضارة الإنسانية, وجعل الحياة لقمة عيش هي أول وآخر ما يفكر به الإنسان في ظل تلك الديكتاتوريات المرعبة التي تصادر أحلامهم دونما ذنب ونقرأ" أريد أن أعيش , ليس من حق أحد أن يفرض علي الموت , أريد أن انجب مزيدا من الأبناء, وآكل كل أنواع الطعام , أريد أن اخذ فتياتي في رحلات وأسفار , أريد أن احب زوجي من جديد , وأتزوجه من جديد , أنا اعشق الحياة , زوجي مازال شابا , أريد أن أعيش معه مزيدا من العمر , كل الرجال الذين يقبعون ألان بالسرداب مازالت عضلاتهم قوية ومشدودة , وكل النساء ما زلن جميلات وصغيرات , قادرات على الحب والإنجاب..." ...ونقرأ أيضا ما كتبته أيام انتفض الشعب العراقي ضد الديكتاتور " لم يخل الطريق من بعض الثوار, كنا نعرفهم بملابسهم المدنية الرثة والكوفيات التي يغطون بها رؤوسهم ووجوههم , كانوا يقدمون لنا المساعدة في إرشادنا إلى الطريق الصحيح إلى بغداد, كانت رؤية الثوار ارحم بكثير من رؤية جنود صدام, الثوار هدفهم العسكريون, أما جنود صدام فهدفهم المدنيون! ويكفي ارتجاف القلوب والأطراف بمجرد أن تلمح لون الثياب العسكرية من بعيد !....

في رواية حارسة النخيل لسمية الشيباني , دخلتُ بيوت الناس بشكل صريح وواضح وبسيط , بلا زركشة وتزويق وبلا فلسفة غامضة أو حديث سياسي جامد , وجدت نفسي أشاركهم تفاصيل دقيقة بحياتهم , وجدتني أغوص بأحلامهم واعرف بماذا يفكرون.
ولان الكاتبة غير معروفة بانتمائها لحزب أو كتلة أو تعصب لجهة ما , يكون نقلها للإحداث اكثر صدقا وبراءة , خاصة انها من أب عراقي وأم كويتية , والأحداث هي سيرتها الذاتية بلا شك قدمتها بشكل روائي ممتع وجميل ..
أخيرا أتمنى للرواية الانتشار, وللكاتبة المزيد من التألق , كما أتمنى أن تأخذ المنظمات العالمية أو العربية التي تهتم بحقوق الإنسان ترجمتها إلى لغات عالمية فهي تسجيل حي وغير منحاز لما تعرض له شعب العراق في سنوات من عمره كان بها تحت نير الطاغية صدام الذي جره للموت والدمار والعداوات التي لازال البعث يصر عليها ويشارك الإرهابيين إرهابهم ليحقق مقولة صدام" أن سنجعل العراق خرابا بدون البعث ".