| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

بلقيس حميد حسن

balkis8@gmail.com

 

 

 

الجمعة 10/7/ 2009

 

عذراً ، لقسوة الحقيقة
سفرتي الى الوطن

بلقيس حميد حسن

بعد غياب ثلاثين عاما عن الوطن, دعيت من قبل الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق مشكورا للمساهمة في مهرجان المربد السنوي, وهنا اسجل - للتاريخ - ما رأيته في سفرتي هذه مع الاعتذار عن قسوة الواقع ..

منذ ان غادرت حدود الكويت الجميلة جدا ودخلت حدود العراق, تغيرت الأمور الحياتية, فأصبحت وجوه الناس متعبة, ملابسهم رثة, نشط الغبار والذباب, وانتشرت الأوساخ في كل الأماكن حتى يخيل للمرء انه قد انتقل الى عالم غير موجود في مخيلته, او انه انتقل من الجنة الى النار رغم أملي بجنة ٍ للوطن طوال عمري. الغريب ان تلفوني النقال توقف عن الالتقاط والإرسال رغم انه دولي, وكان يعمل في الكويت وقد عمل قبلها في سورية ومصر والمغرب وامريكا وكل دول اوروبا, عجبت لماذا يعمل في العالم كله عدا العراق؟ ومن المسؤول عن هذا؟

كان حنيني للوطن يتجاوز كل مارأيته, اي يتجاوز الموضوعية, لأبكي منذ عبوري الحدود على كل من يتحدث باللهجة العراقية, وكم تمنيت ان اقول للجميع انني احبكم .. وانني تعذبت كثيرا, وتغربت, وفقدت ظانة ً انني سأفعل شيئا من اجلكم, كنت اتمنى ان اقول لهم آسفة لأنني لم استطع ان اساعدكم أيها الفقراء والمهمشون ..كان سائق الحافلة الذي أقلني يقول لي ان بكيت هكذا طوال السفرة فستعمين لأنك سترين هنا ما لا تتصورينه من الفقر والبؤس, والإهمال ..

دخلت مدينة البصرة الحبيبة, وقبل ذلك اُعلن عن دخولنا المدينة من خلال دخان أسود يتصاعد من معمل البتروكيميائيات, ينشر التلوث والمرض, وعندما سألت من كان معي من أهل البصرة الطيبين قالوا ان المحترق غاز كان من الأجدر الاحتفاظ به وعدم هدره بهذا الشكل, سارت السيارة بنا باماكن مهملة متصحرة, وفي مدخل البصرة رأينا شارعا قد عُبـّد أخيرا وقد تم تشجيره بشجيرات صغيرة, تفاءلت وقلت لعلّ العمران قد بدأ, وبدأ التنظيم الإداري للمدينة, ولعلّ العراق الجديد آت ٍ, لكننا ما ان تجاوزنا ذلك الشارع حتى بدأت تظهر للعيان مدينة البصرة المهملة, بكل ازبالها ومستنقعاتها ورائحة الجيف التي تنتشر بين بيوتاتها, البصرة المعذبة, البصرة المخربـّة, البصرة الطيبة بإهلها الحاملين جمالا روحيا يستطيع ان يصلح العالم لو وزع عليه..

البصرة تعوم ببحور من النفايات, بيوتات عتيقة متربة متآكلة تتراكم كيفما اتفق, قد ترى من بينها بيتا جديدا شاهقا, لتسمع ان هذا البيت اهله من الحواسم, أي المنتفعين زمن الحرب. اهذه البصرة؟ اهذا ثغر العراق الباسم؟
البصرة لا بد وأن تحيى بدلا من البكاء عليها, هذه المدينة المليئة بالشعراء والفنانين, لا تستطيع السير بشوارعها من كثرة الأزبال والحفر والمياه الآسنة, الذباب والهوام يغطي كل مكان..
أين تلك المدينة الشامخة على شط العرب؟ أين بصرة السياب؟ وكأنما هناك من يكرهك ياسياب ليهمل المدينة لأنك قلت:
"مامر عام والعراق ليس فيه جوع"..
اي نعم ايها الشاعر النبي
"مامر عام والعراق ليس فيه جوع"
والجوع يتبعه الكثير الكثير مما رأيت في شوارع البصرة..
على المفارق فتيات صغيرات تمتد أياديهن للمارة, يجلسن أحيانا مع شرطي المرور يثرثرن معه, تـُرى كيف ستتربى الواحدة منهن حينما تدخل عالم الأنوثة في الطرقات والأزقة وهي تستجدي الجميع؟
الألم يزداد كلما تنقلت في المدينة, لأرى الشوارع الرثة, وليختفي بعد ذلك أي اثر للعراق الجديد..

البصرة التي رأيت فنانيها التشكيليين والفوتوغرافيين يزينون القاعات التي احتضنت نشاطات مهرجان المربد برسوم وصور غاية في الجمال والإبداع, تلك الوجوه المليئة بالحزن الإنساني والإبتسام العميق الملون بالمحبة, تلك الأجساد المرهقة وهي في عزّ الشباب, وتلك العيون التعبى من قهر السنين التي مامرت على بشر, ولأنهم ساكنو البصرة التي ارتبط اسمها بالخراب, وكم خراب مر ّ عليك يابصرة عبر العصور , لكن خراب الأربعين عاما كان الأقوى, والأقسى والأكثر وحشية ..

البصرة, وجوه استقبلتنا بالبكاء والدمع ونحن نقابلهم أول مرة, هن وهم, الكثير, ولانني لا اريد ذكر الأسماء خوفا من نسيان احد وترك جرح اضافي لجروحاته, فالوجوه لا يمكن نسيانها والمحبة لا تمحي لكل الطيبين الذين غمرونا بمحبتهم اللامحدودة..

لم أر في الشوارع التي مررت فيها - وما اكثرها - خلال وجودي ايام مهرجان المربد في البصرة أي عامل تنظيف او حاوية للأزبال, فأين الاعمار واين حصاد الستة أعوام بعد سقوط النظام القمعي؟ وعلى الاقل اين اثر اكثر من عام بعد صولة الفرسان التي استتب وراءها الأمن في مدن الجنوب؟ عام ونصف والأزبال لم ترفع, فكيف يكون لي ثقة بالحكومة بعد؟ وهل يحتاج تنظيف الشوارع من الأزبال ومخلفات الحرب أكثر من عام ونصف !؟

الطريق الى سوق الشيوخ
انتقلت في اليوم الثالث الى سوق الشيوخ التي قررت ان ابقى فيها يوما واحدا, كان الطريق بين البصرة والسوق وقتا ممتعا رافقنا به الشاعر خضر خميس مع اختي التي لازمتني منذ الساعة الأولى لدخولي الحدود العراقية وودعتني عند مغادرتها ولم تفارقني لحظة واحدة بعد فراق ثلاثين عاما وأكثر, وقد كان الطريق امسية شعرية اشتركنا بها معا, حتى السائق وهو من اهالي سوق الشيوخ كان يحفظ الشعر, فقصرنا بالشعر الطريق, وطلب مني الشاعر خضر ان ألبي دعوة التجمع الثقافي في سوق الشيوخ لأمسية شعرية في اليوم التالي.

لم تكن الأمسية مخططا لها, ولم اكن قد اخبرت أحدا بسفري الى مدينتي الحبيبة, رغم ان أيام سفرتي قليلة جدا لظروف تتعلق بي, لكنني لم استطع ان أرى العراق دون مدينتي, فهي وطني الاول, وحرفي الاول, وفرحي الطفولي , وهي اول دقات قلبي بدمعة تجاوزت بها بكاء الصغار على صدر الأم .
انها التراب الذي منحني القافية, والمنازل التي تـُطل عليها اوزان شعري, وهي الأزقة التي كونت ملامحي, والناس الطيبون الذين بكيتهم وبكوني .

قلت انني سأبقى يوما واحدا, فكم هو جميل ان يكون الوداع لقاءً باهالي مدينتي الحبيبة بعد طول غياب ..
كنت اطل من شباك السيارة بشوق وانا اقرأ شعرا عن مدينتي, انتظر الوصول, وامنـّي نفسي ان تكون المدينة اقل خرابا من البصرة , كلما رأيت بستانا او شارعا نظيفا اقول لمن معي: ان سوق الشيوخ حتما ستكون افضل لانها اكبر حظا من البصرة لبعدها عن الحروب قليلا, اتنفس الهواء واقول لهم, هنا الرائحة اجمل هذا معناه أزبال اقل, صار من معي يمزح ويتندر على حبي للمدينة, فأجبتهم بعاطفة الإنحياز للأم , رادة على مزاحهم معي :
أن سوق الشيوخ بالنسبة لي عاصمة العراق ..

دخلت المدينة وانا لا أعرف اين, فجميع المعالم قد تغيرت, الزمن جعل البيوت متآكلة, الفقر احاط الشوارع بمسحة المقابر, الإهمال ومجاري المياة القذرة التي كتبت مثل القدر على المدينة واطفالها, لماذا مكتوب على سوق الشيوخ ان تكون مجاريها مفتوحة تجتذب الأمراض والديدان للاطفال, غريب عقل البلدية والمسؤولين الذين عبدوا بعض الشوارع بشكل بائس وابقوا على تلك المجاري مفتوحة في جميع شوارع المدينة !

كيف يحصل ذلك واين الوعود التي ضربت للأهالي؟ لماذا هذا الاهمال واحتقار صحة الناس في تلك المدينة التي قدمت الشهداء والأدباء والفنانين وحملة الشهادات العلمية والسياسيين ؟
أين من انتخبهم اهل المدينة من البرلمانيين؟ ألا ينظرون لحال الشوارع والأتربة والبؤس الموجع الذي يلف البيوت؟

لم اعرف أين انا, ورأيت مدرستي " مدرسة حليمة الابتدائية للبنات " والتي تأسست عام 1923, مهترأة مثل بقية مدارس المدينة, وبذات القدر من البؤس الذي ضم جميع مارأيت من بيوت فقيرة ومدارس بالية, هذه المدرسة العريقة التي درست بها أمي وهي أول مدرسة للبنات في سوق الشيوخ, لم تلق اي اهتمام وصيانة, وعلى الأقل منذ ثلاثين عاما, كل شيء في الجنوب مترب, ومنذ دخولي الحدود وانا اشعر انني اتنفس التراب.

لا وردة في الحديقة مقابل مدرستي, الحديقة التي كانت في طفولتي مليئة بالورد والخضرة, اراها وقد صبغوا سياجها بالبنفسجي ووضعوا بها اشجارا حديدية بها اضواء تشتعل عندما تكون الكهرباء موجودة, كيف يستعاض عن الورود والأشجار بالحديد وهل في الحديد روح؟ !!!
هل سيكتب الشعراء ويتغنون بأشجار الحديد التي غرست في ساحات الجنوب المتصحر ؟

الغريب انني لم اعرف بيت أهلي بعد كل السنين, فقد غادرت المدينة قبل اكثر من واحد وثلاثين عاما, حيث بقيت اكثر من عام قبل مغادرتي الوطن متخفية في بغداد عن عيون اجهزة مخابرات سلطة البعث التي لاحقتني لمعارضتي نظامهم الاستبدادي.
لقد اصبحت البيوت اشبه بالكهوف, كل شيء قد تغير, واجهات البيوت, الأزقة القديمة كأنها لا تعرفني ولا اعرفها, لم ار فتيات ٍ بأشرطة ملونة, يلعبن مع الاطفال بضفائر لامعة وهن ينشدن ويغنين كما كنا , اين ذهبوا ؟ اين ذهبنا ؟ اين فرح الطفولة؟

الشوارع لا حياة فيها كما كانت, اين الحياة؟ اين العابنا ؟اين ثرثرة الفرات الذي انحسر وكاد يغيب؟ اين الفراشات ؟ واين ضجة الأطفال التي ناديتها في اشعاري ان تتوقف حتى نعود؟

يا بيت َ اهلي في العراق *
ورفيف اجنحة الحمام على الفرات,
ويا فراشات السواقي,
يا فسائل , يانخيل
يا كل اعمار الكبار, توقفي حتى نعود
يا ضجة الأطفال في الحي ّ الفقير ِ
توقفي حتى نعود ,
ونزيل اوجاع َ الرحيل
فالعمر قد قال َ التحية َ واستدار َ الى الغروب
خلف َ الحدود
فمتى نشمّ شذا الرجاء
ظمأ َ الرجاء
بَعـُد َ الرجاء
فيا سنين توقفي حتى نعود
يا سنين, توقفي حتى نعود.....

لـِم َ لمْ يستجب لي الزمن ويتوقف لأرى الكبار الذين غادروا, اين هم ؟
هل هذا بيت اهلي الذي ارّقني حبه وذكرياتي به اكثر سني عمري! ؟
بكيت وبكيت وبكيت, صورتُ زواياه, فتشت ُ عن شيء ما, لعل ذكرى تربطني بطفولتي, لعل نفحة متبقية في الزوايا من أمي, من أبي, من اخوتي, لعل ولعل .. دون جدوى..

تغيرت اغلب الاشياء, صعدت الى السطح الذي كنت أطل منه على بيوت المدينة, لقيد شيدت منازل جديدة اعلاها وأجملها بيت يسمونه بيت الكويتي, بيت الكويتي احسن من بيوت العراقيين في وطنهم, انه أعلى من بيت اهلي وأعلى من جميع الدور المجاورة, حتى انه سد ّ علي منافذ رؤية بقية الدور التي كنت اراها في طفولتي حينما كنت اصعد على سطح بيتنا. متى يكون للعراقي مثل بيت الكويتي؟

انها عقودٌ من السنين والأحداث والحروب والمتغيرات, صار كل شيء مغبرّا, محجـّما, الهواء كان اكثر نقاوة, والأسطح اكثر بهجة والدنيا اكثر خضرة..

جريحة كنت, أتلوى حرقة, أريد بيت أهلي كما كان, أريد العراق الذي كان, أريد بلقيس الصغيرة لتلعب في شوارع وأزقة المدينة وتنادي صويحباتها, أريد أبي, أريد أمي, أريد أخوتي, أريد كل جيراني, أريد وأريد وأريد..
آه لماذا كبرنا؟ ولماذا حصل كل هذا؟ هل كنا ننتظر هذا الخراب بعد كل الضياع والدروب والبلدان التي اتعبتنا بوداعها؟ اين ذهب نضالنا وتحدياتنا وعذاباتنا وشهداؤنا؟

 

يتبع
 


* الاشعار من قصيدة "اليكم اهلي" وهي احدى قصائد مجموعتي الاولى "اغتراب الطائر"  2009



 

free web counter