| الناس | الثقافية  |  وثائق  |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

باقر الفضلي

bsa.2005@hotmail.com

 

 

الجمعة 28/1/ 2011



العراق: [الهيئات المستقلة] بين الإستقلالية الدستورية والتبعية الإفتراضية..!

باقر الفضلي

الحيرة التي يعيشها أعضاء مجلس النواب العراقي في الأيام الأخيرة، ويشاركهم فيها العديد من السياسيين والمراقبين ومن رجال القضاء والقانون، وربما منهم المتخصصين بالفقه الدستوري، والتي أرقتهم كثيرا، كان مردها القرار الجديد للمحكمة الإتحادية العليا، بتأريخ 18/1/2011 القاضي بربط (الهيئات المستقلة) الوارد ذكرها في الباب الثالث/ الفصل الرابع من الدستور العراقي/2005 بمجلس الوزراء بدلاً من مجلس النواب، مما أثار الكثير من ردود الفعل على مختلف المستويات لدى تلك الجهات، وخلق إنقساماً في الرأي بين مؤيد ومعارض، بل وحتى محذر من تداعيات القرار المذكور على مستقبل "الديمقراطية" في العراق الجديد، وهي بعد لم تبلغ الحلم..!؟

لم يك قرار المحكمة هذا في تفسير النصوص الدستورية، الأول الذي خلق مثل هذه البلبلة الفكرية بين أوساط السياسيين من برلمانيين أو من ذوي الإختصاص، فهناك ما سبقه من قرارها المتعلق بتفسير نص المادة/79 من الدستور بشأن مدلول الكتلة البرلمانية الأكبر، والذي وضع الجميع في حيص وبيص في فهم مدلولات ما تذهب اليه المحكمة من تفسيرها لنصوص الدستور، وليس ببعيد عن ذلك، الرأي الصادر من المحكمة الاتحادية العليا نفسها بتاريخ 9/10/2006 حول الاستفسار الوارد من لجنة النزاهة في مجلس النواب بالكتاب المرقم (م/ن/2/171 ) بتاريخ 23/9/2006 عن معنى الاستقلال الوارد في المادة (102) من الدستور فيما يخص هيئة النزاهة وعن معنى الرقابة الواردة في المادة المذكورة وما الاختلاف بين ما هو في المادة (102) والمادة (103) من الدستور التي تذكر الهيئات المستقلة ماديا واداريا وبمن ترتبط هيئة النزاهة، والمتعارض مع رأيها الأخير في نفس الموضوع..! (*)

وهكذا يصبح الأمر بالنسبة لدور المحكمة الإتحادية العليا في حل الإشكالات والنزاعات بشأن تفسير النصوص الدستورية، بإعتبارها الجهة الوحيدة التي يرجع اليها والمخولة بهذه المهمة، وكأنه أقرب في المحصلة النهائية لقول الشاعر:

الى الماء يسعى من يغص بلقمة      الى أين يسعى من يغص بمـاء

فحينما تكون النصوص الدستورية موضع غموض في الفهم والتفسير، تلجأ معه الأطراف المتخاصمة حولها، الى من يفصل في النزاع بين الخصوم، وهنا المحكمة الإتحادية العليا هي الجهة الوحيدة المقصودة على الصعيد القضائي دستورياً في حل ذلك الغموض، فكيف إذا كان رأي المحكمة في الفصل بالأمر هو نفسه محل خصام آخر، خاصة إذا ما تعارض مع سنده الدستوري، أو جاء مناقضاً لرأي سابق للمحكمة حول الأمر نفسه..؟؟!

من بدهيات الفقه الدستوري، ما تورده القاعدة الفقهية التي تقول؛ أن " لا إجتهاد في مورد النص"، ولأهمية ما جاء في قرار المحكمة الأخير حول (الهيئات المستقلة) يمكن الإشارة هنا الى بعض الملاحظات التالية:
لقد وردت صيغة [الهيئات المستقلة] في الدستور العراقي/2005 ، في باب خاص بها هو الفصل الرابع من الباب الثالث وشملتها نصوص المواد من (102- 108)
يستدل من خصوصية وحصر تلك المواد الدستورية الستة، ضمن فصل منفرد من الباب الثالث هو الفصل الرابع، هو ما تميزت به تلك النصوص الستة من خصوصية (الإستقلال) عن باقي النصوص الأخرى، التي تناولها الباب الثالث من الدستور في فصوله الثلاث الباقية، والتي تتعلق بالسلطات الثلاث ( التشريعية والتنفيذية والقضائية)، بمعنى تميزها ومشاركتها تلك السلطات بصفة ( الإستقلالية).
إنفراد الفصل الرابع من الباب الثالث، الذي إشتمل على جملة المواد الدستورية الستة المذكورة، تحت عنوان [الهيئات المستقلة]، له من الدلالة ما لعناوين الفصول الثلاث الأخرى من الباب الثالث نفسه، من أهمية متساوية من حيث الدلالة الإختصاصية والإستقلالية؛ فبقدر ما جاء في نص الدستور على إستقلالية السلطات (التشريعية والتنفيذية والقضائية) وخص كل منها بفصل خاص يوضح فيه هذه الدلالة الإختصاصية، بما يعني فصل الواحدة عن الأخرى من خلال تلك الإستقلالية، حيث يتجلى هنا مبدأ الفصل بين السلطات، خص بنفس الوقت [الهيئات المستقلة] بفصل خاص بها للتعبير عن نفس تلك الدلالة الإختصاصية وبما يفيد الإستقلالية، أي بمعنى آخر، عدم تبعيتها لأي من السلطات الثلاث الأخرى، وهنا لا يبدو جلياً أن هناك من الغموض في المعنى أو في الشكل، ما يستدعي وضوحاً أكثر مما هو واضح في أصل النص نفسه وفي طبيعة تبويب الفصول الدستورية على نطاق الباب الثالث من الدستور، حيث لا تداخل في مهام السلطات الإتحادية التي شملتها أحكام الباب الثالث بفصوله الثلاثة من الدستور وكذلك الأمر بالنسبة ل[الهيئات المستقلة]
حيث أن كافة الهيئات الوارد تسميتها في المواد (102- 108) تقع ضمن أحكام الفصل الرابع من الباب الثالث [الهيئات المستقلة] من الدستور، فإنها تكون مبدئياً خاضعة لأحكام هذا الفصل، ومشمولة بكونها؛ أولاً هيئات مستقلة لإندراجها تحت التسمية التي حددها النص الدستوري المذكور، إلا ما أستثني منها طبقاً لتلك الأحكام من جهة، وثانياً لتفريقها عن غيرها من الهيئات الأخرى التي لا تقع تحت أحكام الفصل المذكور من جهة أخرى.

وإنطلاقاً من خصوصية أحكام الباب الثالث المتعلقة بإستقلالية السلطات الإتحادية، وإرتباطاً بمبدأ الفصل بين تلك السلطات المنصوص عليه في المادة/ 46 من الباب الثالث نفسه، فإن كل ما ينصرف من تفسير على غير ما تقدم بالنسبة ل[الهيئات المستقلة]، لا بد وأن يفهم منه الوقوع في حالة التعارض مع النص الدستوري المذكور من حيث المبدأ، وهذا ما تضمنه قرار المحكمة الإتحادية العليا آنف الذكر، بمنحه السلطة التنفيذية ممثلة بمجلس الوزراء حق الإشراف والمتابعة على [الهيئات المستقلة] التي خصها الدستور بصفة الإستقلال تحديداً وربطها بالسلطة التنفيذية..!

إن ما يعزز مبدأ الإستقلالية الذي إعتمده روح النص الدستوري بالنسبة لأحكام الباب الثالث/ الفصل الرابع، هو ما ورد من إستثناء خاص ومحدد من صفة الإستقلالية كما جاء في نص المادة/ 103 الفقرة/ ثالثاً ونص المادة/104 ، عندما ربط المشرع كل من دواوين الأوقاف ومؤسسة الشهداء حصراً بمجلس الوزراء، وإلا لما كان هناك أي مسوغ يدفع المشرع لمثل هذا الإستثناء، لو كانت الهيئات الأخرى والموصوفة ب[الهيئات المستقلة] المشمولة بأحكام الفصل المذكور، لا تتميز بصفة الإستقلالية التي قصدها المشرع أصلا ..!

ولما كانت صفة الإستقلالية هي ما يميز [ الهيئات المستقلة ] حكماً، وما يجعلها مشمولة بأحكام مبدأ الفصل بين السلطات، فمن تحصيل الحاصل، أن أي خضوع لهذه الهيئات المستقلة لتبعية سلطات أخرى، كما هو وارد في قرار المحكمة الإتحادية العليا بتأريخ 18/1/2011، إنما يمثل من جهة، إخلال كبير ب مبدأ الفصل بين السلطات، كما أراده الدستور، يرقى في جوهره الى حد شل وإفراغ هذا المبدأ من مضمونه الديمقراطي على صعيد النظام السياسي، ومن جهة أخرى يضع قرارات تلك "الهيئات المستقلة" وهي في مثل هذه الحالة " حالة التبعية"، عرضة للطعن بشائبة التأثير والتبعية وعدم الإستقلالية، ومن جهة ثالثة فيه من الإضعاف لسلطة مجلس النواب الرقابية، وهو أعلى سلطة منتخبة تمثل الشعب في البلاد، ما يعنيه من تجريد لتلك السلطة من مجلس النواب لحساب السلطة التنفيذية..!

أما ما قيل ويقال بشأن مهام [الهيئات المستقلة]، وتقسيمها الى تنفيذية وتشريعية، في محاولة لتبرير تبعيتها للسلطة التنفيذية وفقاً للجانب التنفيذي من تلك المهام، فهو في الحقيقة، وإذا ما أراد المرء الإبتعاد عن أية تفسيرات ذات طابع سياسي، لا يخرج بعيداً عن كونه تأويل إفتراضي لا يلتقي في أسبابه كإجتهاد قاطع في مورد النص الدستوري الواضح في مبناه ومعناه، ، كما ولا ينسجم منطقياً مع روح الدستور التي قصدها المشرع من وراء إحكام (الباب الثالث/الفصل الرابع/ المواد 102- 108 ) من الدستور؛ كما وليست هناك من علاقة سببية بين مهام الهيئات المستقلة، على إختلاف صورها من جهة، وبين أصل المسألة موضوع القرار والتي تتعلق بإستقلالية تلك الهيئات، لتكن سبباً بربط هذه الإستقلالية الدستورية بالسلطة التنفيذية من جهة أخرى..!

ولكن وفي جميع الأحوال فإن الأمر برمته مرهون بقرار نافذ وصادر من هيئة قضائية عليا، هي المحكمة الإتحادية العليا، وإن كانت هناك من تداعيات سلبية لمثل هذا القرار على صعيد الحياة السياسية والديمقراطية، فإن المرجعية الوحيدة على صعيد النظام البرلماني الحالي والتي تمتلك حق النظر وإتخاذ القرار المناسب، بالنسبة لمثل تلك التداعيات، إنما هو مجلس النواب نفسه..!

 


28/1/2011
 

(*) http://sotaliraq.com/articlesiraq.php?id=81950
 



 


 

free web counter