| الناس | الثقافية  |  وثائق  |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

باقر الفضلي

bsa.2005@hotmail.com

 

 

 

الجمعة 27/10/ 2006

 

 

المثقف المبدع في الزمان والمكان..!


باقر الفضلي

أهي الحرب أوارها يستعر.. أهي قذائف القنابل تنهال على الرؤوس.. لن تستهدف الأطفال ولا الشيوخ أو النساء، قنابل من نوع ووزن جديد، قنابل أقلها مؤلم وأكبرها مفزع مفجع؛ لا تطال عدواّ معروف ، ولا تستهدف علماّ مرفوع.

النخبة تقاتل النخبة، والكل في البلاء مفجوع.
أسهل الكلام القذف والقذع، وأفضل الحماية التحصن بالسب؛ والسبّاب هو من يعلو صوته، ويكبر ضجيجه، وتتبلد حكمته، وإن كبرت منزلته؛ أما الشتم؛ فصيغة من صيغ الهجاء. وما كان الفرزدق أو جرير غير شتامين، وكالا لبعضهما غليظ الكلام وأقساه، فكان أبدع الشعر وأحلاه. وأمسيا في الإبداع العربي، عمودين شامخين حتى الساعة.. وأقسى الحروب حروب الكلام..!

ما يدهم المثقفين المبدعين اليوم، هو ما أدهمهم بالأمس من سوء؛ من تنكيل وتهميش، وحرمان من حرية التعبير وإن إمتلكوا حرية التفكير. وما بدأته الدكتاتورية من مطاردة وقتل وملاحقة ونفي، تستكمله اليوم، تهم العمالة والإرتزاق والتبعية والتكفير والتخوين والإبتزاز، فما كانوا يوماّ منصفين ( بضم الميم وفتح الصاد) أو منصورين..!

إستقلاليتهم في الرأي، وبالاّ يصب على الرؤوس، ومحاولاتهم الإقتراب من بعض، جحيماّ تكوى به الأجساد.. إن نهدوا لقول الحقيقة، رشقتهم سهام الشك والضغينه، وهمش ما يكتبون، وبخس "القوم" شأن ما يبدعون..! حتى في زمن الحرية الألكترونية، فحظهم مرهون برغبة ومشيئة الرقيب الجديد..!

المثقف مبدع في ذاته، غال عند نفسه؛ نرجسيته عنوان وحيه؛ نرجسية المتنبي وطلعة كبريائه. وتواضعه رمز حكمته وحلمه؛ تواضع معن بن زائدة وحلمه. وصبره_ إن أسعفه الصبر_ صبر أيوب؛ لا جزعاّ فيأكل بعضه، ولا يئساّ فتقتله المرارة والحسرة..!

المثقف المبدع، ودود في طبعه، محب لوطنه، مدرك لإرادته، مرهف في حسه، شفاف في علاقاته. عندليب في فضاءه، عصي على أقفاص الحكام.
فإن سار بطوعه نحو ذلك، ومال بإختياره إليه؛ ماتت قريحته، وهرم شبابه، وشاخت ألحانه.. أو هلك في الزمان؛ نسياّ منسيا.
وإن أدخل قسراّ، وأستعبد جبراّ؛ ضاق به المكان ، وعز عليه الفضاء؛ فالهجرة منفاه والغربة فسيح فضاءه..!

فأي مثقف مبدع هذا الذي يشتري نفسه بزهيد المال ويبيعها بأبخس الأثمان، وأي مثقف مبدع هذا الذي يغتال مارده بيده، وأي مثقف مبدع هذا الذي لا "يبدع" إلا تحت سياط الجلاد..!

ليس مبدعاّ من أرخى قياده لغيره، وليس مبدعاّ من رهن إبداعه لمشيئة من شاء ومن تحكم. فالإبداع ليس شيئاّ يمسك عليه ، فيهبه لمن شاء وأنى شاء.. الإبداع موهبة تصقلها الحياة، وثمرة لا تؤكل وهي حصرم، ونتاجاّ لا يقطف إن لم ينضج...! فلا هناك من يصنع المبدع، ولا هناك من يتفضل عليه؛ هو سيد نفسه، وإبداعه تاج رأسه..!

من يعلم كل هذا لا أظنه بعد ذلك؛ يشحذ سيفاّ، أو ينصب مقصلة ليقطع رأساّ، أو يشن حرباّ ليصنع مقتلةّ؛ القاتل فيها مبدع والمقتول بها مبدع..! فما يجمع المثقفين غير الإبداع، وما يفرقهم إلا الإبداع..!

فإختلاف المبدعين، خصام مبعثه الحرص، ومنتهاه البحث عن الحقيقة، ونتاجه عبقرية وتجديد وإثراء؛ أما خصام السياسيين، فأصله المصلحة ومبتغاه التحكم والسلطة، وحصيلته القهر والحرمان، وضحاياه المثقفون المبدعون..!

والعلاقة بين الحقيقة والسلطة، كعلاقة الماء بالنار؛ فإن إندمج الهدفان، وتوحد الغرضان، وتزاوج النقيضان، جاء الوليد مسخاّ، تابعاّ ذليلاّ؛ كسيحاّ لا يقوى على الوقوف ولا يصمد أمام العواصف؛ محني الهامة ، محدودب الظهر؛ رهن الإشارة فيما يطاع وما لا يطاع؛ داجن (بكسر الجيم) فيما يأنسه من مقام؛ سقط متاع، فلا ثقافة ولا إبداع..!

المثقف المبدع، هو عين المجتمع التي بها يبصر، وبوصلته التي بها يبحر، ونتاجه في الصراع مع السلطان، وهو من يلجأ اليه حينما يبحث عن جواب؛ لمّا تلم به الشدة، وتعتصره المحنة، وتضيق به سبل المعرفة، ويخيب ظنه بمعسول الكلام، وترهق أعصابه مواعيد السياسيين؛ فالمثقف المبدع أقرب اليه من حبل الوريد، وأرهف منه في الحس لما تخبئه الهواجس..!

عصي على الإنقياد؛ فلا هو سلعة تشترى أو تباع، ولا هو ديكور لحاكم أو سلطان. هو "السهل الممتنع" ، لا تؤطره شهادة ولا تزينه الألقاب.. ولا تؤنسه مقاربة الحكام؛ يذوب في الحقيقة كما تذوب فيه؛ حلاج في عشقه، غاليلو في إصراره، جان دارك في الإيمان..! فلا مظلة تأسره بظلها، ولا هالة تقتنص منه إرادته فيما يقول وما يفكر.. وحده سيد نفسه ومالك إبداعه.. هو عين الشعب ولسانه..!

وأمة لا تبجل مبدعيها، ممهور عليها بالجهالة والندامة..!

فالعدل العدل مع المثقف المبدع، " فإن في العدل سعة، ومن ضاق عليه العدل، فالجور عليه أضيق." " وكفى بالمرء جهلاّ ألا يعرف قدره."

إن المثقفين المبدعين، أحرار إن إلتقوا وأحرار إن لم يلتقوا، فلا اللقاء يصهر أفكارهم، ولا الإفتراق يدق أسفين بين نواياهم ومحبتهم لوطنهم وشعبهم، وبين إبتعادهم عن بعضهم في الغربة. ما يوحدهم هو الإبداع وليس سقط المتاع، وما يثبت إرادتهم هو الهدف النبيل، وإن إختلفت المسارات وتباينت السكك.. في لقاءهم متعة وفي تفارقهم شوق ومحبة.. وحالهم حال الحبيب، الذي أسلم أمره لقضاءه وقدره، كما أسلم حبيب إبراهيم ناجي أمره اليه:

يا حبيبي كل شيء بقضاء ما بأيدينا خلقنا تعساء
ربما تجمعنا أقدارنا ذات يوم بعدما عز اللقاء
فإذا أنكر خل خله وتلاقينا لقاء الغرباء
ومضى كل إلي غايته لا تقل شئنا،وقل لي الحظ شاء !