| الناس | الثقافية  |  وثائق  |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

باقر الفضلي

bsa.2005@hotmail.com

 

 

 

السبت 14/10/ 2006

 

 

الفدرالية : ما هو المبتغى..؟

 

باقر الفضلي

المصالح السياسية وليست العلوم السياسية والفقهية، طالما وقفت، وفي كثير من الأحيان، وراء الكثير من التبريرات والمبررات والتأويلات، للعديد من القرارات والقوانين بل وحتى النصوص الدستورية. وفي بلد كالعراق، الغارق في بحر من فوضى التشريع والقانون، ليس غريباّ على المرء، أن يجد نفسه وسط عاصفة من التخبط الفكري والقانوني، حيث يصبح تلقائياّ؛ تفسير الأشياء ورد أسبابها، طبقاّ لما تمليه مصلحة الشخص أو الجهة المعنية، أكثر مما توجبه حالة الشيء الموضوعية نفسها.
وهكذا جرى ويجري الأمر مع إشكالية (الفدرالية) المتصارع على أمر إقرارها في العراق اليوم..! المتصارعون حول قبول أو عدم قبول الفدرالية هم أنفسهم المتصارعون على مبدأ تثبيتها في الدستور من عدمه، وهم أنفسهم المتصالحون توافقياّ على إعادة النظر بالأمر بعد إقرار الدستور-المادة/142..!

الفدرالية من وجهة نظر المصالح، هي وبالتأكيد تحقق مصالح أطرافها إذا ما بنيت على أسس صحيحة، وأقرت بطرق ديمقراطية، تهدف الى رعاية مصالح الجميع؛ وأن يكون تأسيسها مبنياّ وفق أسس وقواعد وشروط موضوعية محددة. ولها أسبابها المشروعة والمنطقية. لا مجرد تحقيق طموحات وأهداف، ذات طبيعة خاصة، أكثر مماتحققه من مصالح عامة تصب في مصلحة الجميع..!

مشروعية (الفدرالية) المنصوص عليها في الدستور تحت عنوان تأسيس الأقاليم، رغم ما يكتنفها من غموض وعدم وضوح في بيان أسباب تشريعها، إلا أنها إذا ما أخذت على علاتها، فإنه على أقل تقدير، ينبغي التعامل معها طبقاّ لنفس (الأسس) التي يفترض أن جرى إعتمادها عند إقرار فدرالية إقليم كردستان. وبهذه الطريقة يمكن التعويل على أسباب وأسس إقرار إقليم كردستان، عند النظر في أي طلب يقدم بهدف تشكيل أقاليم جديدة. أو بمعنى آخر، ينبغي النص على شروط وأسباب التأسيس وموجباته في متن قانون تأسيس الأقاليم، وإعتبارها شروطاّ تستوجب التوفر عند اللزوم، وذلك بما يتوافق مع (مسوغات) تأسيس إقليم كردستان نفسه، لأنه المرجع الوحيد حاليا. وبعكسه، وكي لا يقع المرء في إشكالية قيام إقاليم لا تستوفي شروط وأسباب قيامها، رغم جواز ذلك من الناحية الشكلية دستورياّ، وتلافياّ للنقص الذي إعترى الدستور منذ البداية، عندما جرى تثبيت النص الخاص بتأسيس الأقاليم دون الإشارة الى شروط وموجبات التأسيس..! فينبغي من جانب آخر، أن يصار الى تعديل الدستور بما يعالج النقص المذكور طبقا لنص المادة/142. حيث وكما جرى في جلسة البرلمان 11/10/2006 لم يجر التطرق الى هذا النقص الجسيم وأكتفي بمناقشة وإقرار الآليات التنفيذية لتشكيل الأقاليم، وتأجيل مسألة تفعيل القانون الى ثمانية عشر شهراّ قادمة..!؟

خصوصية الأمر هنا؛ هو مطلب تأسيس "فدرالية" "الجنوب والوسط" التي يدعو لها الإئتلاف الموحد، والتي يستند في مشروعية مطلبه هذا على نص المادة/118 من الدستور، التي تجيز تأسيس الأقاليم. ولكن ما يؤخذ على المطلب المذكور؛ هو ليس عدم دستورية الطلب نفسه من الناحية الشكلية، فهو من هذه الناحية مكفول بالنص أعلاه دستوريا، بل إن الأمر يتعلق بمدى توفر أسباب ومسوغات الطلب نفسه من الناحية الموضوعية. فإن كان الطلب مطابقا شكلياّ، فليس بالضرورة أن يكون مطابقاّ من حيث المحتوى والجوهر. ولا أظن أن أحداّ يمكنه تفسير نصوص الدستور شكلياّ، ويرفضها روحيا..! فهل يمكننا القول بأن مطلب إقامة "فدرالية الجنوب والوسط" من حيث أسبابه ومسوغاته، يتطابق مع أسباب ومسوغات إقامة إقليم كوردستان من الناحية الدستورية..؟ (1)

المسوغات التي تطرح لدعم مطلب فدرالية "الوسط والجنوب" اليوم، ترتكز في مجملها على أسباب شكلية لا تمت بصلة للأسباب والمسوغات، التي يفترض قد أعتمدت عند كتابة الدستور، حينما أقر مشروعية تأسيس إقليم كوردستان. إن من أهم المسوغات المطروحة والتي تقدم بإعتبارها الأسباب التي تدفع أصحابها الى طلب تفعيل نص المادة/118 من الدستور، تتمحور في عدة نقاط. هي وبإختصار وكما هو معلن:

- الحق الدستوري؛ بإعتبار حق الطلب بتشكيل الأقاليم منصوص عليه في الدستور، وهو أمر شكلي وسبق أن جرى البحث فيه.(2)
- الخلاص من الإرهاب؛ وهو الآخر أمر شكلي وخارج نطاق الموضوع، وسبق أن جرى البحث فيه.(3)
- الحدود الأدارية بين المحافظات، وإعتمادها حدوداّ بين الأقاليم المفترضة. وهذا ما سنتوقف عنده قليلا.
- المظلومية والتهميش اللتان تعرضت لهما الطائفة الشيعية. وهو أمر إن صحت مقدماته وتأكدت نتائجه، فلا يرقى لأن يكون بمستوى الأسباب التي أعتمدت عند الأخذ بمشروعية إقليم كردستان. وهو الآخر ما سنتحدث حوله لاحقا.
*****

فيما يتعلق بالنقطة الثالثة، فجل ما فيها، هو أن مفترضيها، يحاولون إضفاء شرعية جيوسياسية على أمر الحدود بين المحافظات العراقية، ومنحها صفة الحدود الدولية أو الحدود بين أقاليم ذات مكونات بشرية متباينة (أثنيا أو لغويا أو دينيا)، ليبرروا بهذا المنطق مشروعية المسوغ لإقامة أو تأسيس أقاليم جديدة إنطلاقاّ من هذا المفهوم الشكلي، وهو لعمري، لا يعبر إلا عن خلط أكاديمي لأوراق اللعبة الفدرالية. هذا في الوقت الذي يعلم فيه العراقيون، ما تعنيه الحدود بين المحافظات؛ وهي التي لا تعدو عن كونها حدودا إدارية بحته، ولا تمت بصلة لمكونات الناس الإثنية أو أديانهم ولغاتهم أو طباعهم وتحركاتهم. فبالنسبة للمواطن العراقي، فإن الحدود بين المحافظات لا تعبر عن شيء ذي معنى، أكثر من أنها حدود إدارية لتسهيل أمور إدارة الدولة في جباية الضرائب وتنظيم العلاقة مع السلطات المحلية، منذ (تنظيمات) الوالي العثماني مدحت باشا الجديدة لعام/ 1869. *

إن إستخدام بعض (آليات) قانون الأقاليم (الحدود الإدارية)، كأحد بواعث تأسيس أقاليم جديدة، لا أظنه تبريراّ منطقياّ أو علمياّ يمكن إعتماده كمسوغ جديد لتمرير إقرار فدرالية "الجنوب والوسط" بعد أن كشفت الذرائع الأخرى عن ضعف منطلقاتها لتبرير ذلك، أما التعكز عليه، فسوف يضعنا أمام حالة غير مسبوقة من الناحية القانونية والإجتماعية والسياسية، تحتم على الجميع التبصر بالنتائج المحتملة لذلك، خاصة حينما ينتاب المواطن الساكن في محافظة معينة، الشعور بأن جيرانه في المحافظة المجاورة قد أصبحوا قوماّ آخرين، وباتت تفصلهم عنه، حدود ما عهدها يوماّ، قد وقفت بينه وبينهم كجدران للعزل، وكأن لا تربطه بهم صلة قرابة أو لغة أو إقتصاد. أوحينما ينتابه الشعور بأن الحدود الإدارية التي كان يخترقها كل يوم، دون أن يعلم أين تبدأ أو أين تنتهي، ستصبح يوماّ وكأنها بمثابة حدود دولة أخرى، عليه أن يحسب حسابه قبل أن يخترقها، أو حين يرعى أغنامه عند تخومها..!

الحدود الإدارية، عبارة عن تقسيمات إدارية رسمتها الحكومات المركزية ولم ترسمها الجغرافية أو التأريخ، والقاطنين داخلها أو على تخومها أو خارجها، هم نفس القوم ومن نفس النسيج الإجتماعي. وهي عرضة للتغيير والترسيم طبقا لمشيئة وحاجة السلطات الإدارية المركزية في التوسيع أو التقليص. ولم يعهدها العراقيون يوماّ، أنها عزلت بين الطوائف والعشائر، فثمة عشيرة تجد أفرادها وقد شطرتهم الحدود الإدارية بين محافظتين أو أكثر، ولم يغير ذلك من وجود وتواصل أفراد العشيرة فيما بينهم؛ لأن الحدود الإدارية لا تمثل بالنسبة لهم، غير حدود أسمية شكلية؛ وإن جل الناس لا يعرفون مبتداها ولا منتهاها. فعدد المحافظات (الألوية-سابقا)، يزداد أو ينقص تبعا لظروف التحسينات الإقتصادية أو لإعتبارات إدارية أو توجهات خاصة. فعدد المحافظات في العهد الملكي كان (14 لواءّ) وهو الآن ( 18 محافظة). كما ويمكن تحويل مجموعة قرى الى ناحية أو تحويل الناحية الى قضاء، والقضاء الى محافظة، والأمثلة على ذلك كثيرة. ولكن الأهم في الأمر أن جميع هذه التشكيلات بحدودها الإدارية والبلدية، لم تؤثر من الناحية الإجتماعية الإثنية والنفسية بشيء، على التركيبة السكانية للمنطقة. وبالتالي فلا أعتقد أن تلك الحدود يمكن أن يعول عليها على أن تصبح سبباّ مشروعاّ يمكن التذرع به كأساس مسوغ لقيام علاقة "فدرالية" مع المكونات الأخرى مثل الأقاليم، ومنحها صفة أقليم طبقا لذلك. حيث أن المحافظات نفسها تمتلك تلك العلاقة من خلال إرتباطها بالحكومة الإتحادية أو المركزية، عن طريق وزارة المحافظات أو وزارة الداخلية. وإن كان هناك ثمة حديث لا بد أن يقال حول هذه العلاقة، فبالأحرى أن ينصرف ذلك الى شكل تلك العلاقة، فيما إذا كانت تلك التشكيلات الإدارية، تتمتع بالإدارة المركزية أم الإدارة اللامركزية..! أما محاولة توظيف تلك التشكيلات، وفقا لمسوغ سياسي خاص، وإعتبارها مرتكزات لإقامة أقاليم جديدة، وإفتراض تلك الحدود، وكأنها تفصل بين أقوام من أجناس مختلفة إثنياّ، أو من أديان أو لغات متباينة، فلا يعدو إلا أن يكون خلطاّ مقصوداّ للمفاهيم والمصطلحات، وبخلق حالة خاصة غير موجودة أصلا على أرض الواقع، كما بينا أعلاه..!
*****

أما ما يتعلق بشأن المظلومية والتهميشية، والتي جرى كثير من الحديث بشأنها، درجة أضحت معه وكأنها العامل الأساس في تبرير قيام الأقاليم. وكأنما وجودها، يمنح الحق لكل من تعرض لمظلومية ما، بأن يطالب بإقامة إقليم أو كيان منعزل خاص به، يضعه في منجى من الإحتكاك بالآخرين، وأن يكون له الحق في إمتلاك والتصرف بكل ما تحت قدميه من ثروة، أو إرث وهبته الطبيعة، بعيدا عن مشاركة الآخرين ، حتى لو كانوا شركاء في هذا الحق على الشيوع..!؟

المظلومية التي تعرضت لها طائفة الشيعة على مدى عقود طويلة من الزمن، ومنذ أن أصبح العراق تحت هيمنة الدولة العثمانية، لا تعطينا وحدها تفسيراّ صحيحاّ عن طبيعة أنظمة الحكم التي كانت سائدة آنذاك، والتي تقف وراء هذه المظلومية وذلك التهميش..! الملاحظ للتأريخ العراقي على مدى قرن من الزمن، تستوقفه حقيقة يدعمها واقع الحال، وتمنحنا أرضية للوصول الى التفسير الأكثر منطقية وعقلانية في التعرف على مدى التمسك بشعار المظلومية كأساس متين في إسناد مطلب إقامة "فدرالية" الجنوب والوسط " في نظر أصحابه"، من خلال هذا المنظور..!

منذ العهد الملكي وحتى إنهيار الدكتاتورية، كانت الطائفة الشيعية من الناحية النسبية تقريبا، تشكل نفس ما هي عليه الآن من أكثرية عددية في المجتمع قياساّ للطوائف الأخرى (السنية، المسيحية، المندائية والأيزيدية...الخ). وكانت هذه الأكثرية كغيرها من المكونات الأخرى، تشارك الجميع في كل النشاطات الإجتماعية والإقتصادية وحتى السياسية، كطائفة إجتماعية لها ثقلها في المجتمع. وكانت تلك المشاركة، لا تتم على أساس من الإعتناق المذهبي، بقدر ما كانت تجري على أساس المواطنة العراقية. وكان الشيعة من الناحية (المجازية) يمتلكون مواقع متميزة في الحياة الإقتصادية، نزولاّ من شمال بغداد وحتى المحافظات الجنوبية. حيث كانت أسواق ( الشورجة) الشهيرة في بغداد وهي تعتبر المصدر الرئيس والمركز المهم للنشاط التجاري في العراق ولا زالت، تدار من قبل أكبر التجار العراقيين، من معتنقي المذهب الشيعي، جنباّ الى جنب مع أبناء الطوائف الدينية والمذهبية الأخرى، وليست هناك ثمة فوارق تفصل بين الجميع في هذا المجال. وكانت العلاقات الإجتماعية والإقتصادية بين المواطنين تجري، ليس على أساس من إعتبارات مذهبية أو دينية، بل ولا زالت، تجري على أساس التبادل الإقتصادي الصرف، حيث تجري عمليات التبادل المالي والتجاري طبقا لقوانين وقواعد الصيرفة المتعارف عليها، ولم يلمس المرء أي تعامل يجري وفق إعتبارات أخرى. وهكذا الحال في جميع المحافظات. كما ولم يشهد المرء أي تمايز في التعامل يجري وفق المعتقدات الدينية أو المذهبية. بل ومن غير المنطق حتى إفتراض ذلك..!

وعلى الصعيد السياسي؛ فمن المبالغة القول بأن الشيعة كطائفة كانوا محرومين من القيام بالنشاطات والفعاليات السياسية، إذا ما إستثنينا الفترة الدكتاتورية وإبتداء منذ عام 1963 وحتى إنهيار النظام الدكتاتوري عام/2003. فأبناء الطائفة الشيعية كغيرهم من أبناء الطوائف الأخرى كانوا مشاركين فعالين في النشاطات والفعاليات السياسية، لا بإعتبار إنتسابهم للمذهب الشيعي وحسب، بل على أساس مواطنتهم كعراقيين لا غير. وكذلك الأمر فيما يتعلق بتسنم الوظائف الحكومية بما فيها الحقائب الوزارية والوظائف العامة. أما مشاركتهم في الأحزاب والتنظيمات السياسية، فهي الآخرى لم تتم وفقا للإنتماء المذهبي وحسب، بقدر ما كان يجري كل ذلك وفقاّ للمصالح الإقتصادية والطبقية، وقلما عرفت الساحة السياسية العراقية أحزاباّ سياسية جرى تأسيسها طبقاّ للإنتماء الطائفي المذهبي، إذا ما إستثنينا الفترة التي أعقبت إنقلاب 8 شباط/1963، وحتى سقوط النظام الدكتاتوري في نيسان/2003. مع الإشارة الى بدء تكون نواتات حزب الدعوة الإسلامية من قبل الشهيد محمد باقر الصدر عام/،1957 وتأثير الثورة الإيرانية فيما بعد عام/1979، حيث بداية تشكل الأحزاب السياسية بمسميات دينية..!
وحتى التكوين القبلي العشائري للسكان في مناطق الوسط والجنوب، والذي غالبية سكانه من أبناء الطائفة الشيعية في المدن والأرياف، كان من حيث ولاءاته وإنتماءاته السياسية، منخرطاّ في أحزاب سياسية يغلب عليها الطابع العلماني. وكان الغالب في قيادات تلك الأحزاب مشتركاّ، من بين جميع الطوائف الدينية في المجتمع وتضم في صفوفها مختلف الفئات السكانية من بين هذه الطوائف ، بما فيهم أعداد غير قليلة من رجال الدين ومن مختلف الديانات..! وكان جميع كبار رؤساء العشائر العراقية في الوسط والجنوب من سنة وشيعة، ممثلين في البرلمان العراقي ومجلس الأعيان في العهد الملكي. حيث إنحسرت بعد ذلك الحياة السياسية، على كافة المستويات والأشكال، لتطبق على العراق فترة زمنية دامت ما لايقل عن أربعة عقود، من التنكيل والعسف تحت ظل نظام شمولي ديكتاتوري، سام الجميع ومن كافة المكونات القومية والدينية والمذهبية سوء العذاب..!

فإن كان ثمة مظلومية أو تهميش تعرضت لها الطائفة الشيعية في المجال السياسي، فهي تدخل أو تنحصر في الحقيقة ضمن مجمل المظلومية التي تعرضت لها كافة القوى (السياسية) للمعارضة الوطنية والقومية من سائر مكونات المجتمع العراقي؛ عربأ وكوردا وكلدو آشوريين وتركمانا وأرمنا، من شيعة وسنة ومسيحيين ومندائيين وأيزيديين وأقليات دينية أخرى؛ وجميع هذه المكونات قد قدمت ألوف الضحايا من الشهداء، وأرتكبت بحق أبناءها أبشع أشكال الجرائم المنافية لحقوق الإنسان، وقلما تجد فئة أو طائفة من هذه المكونات لا تمتلك رموزها من الأبطال من الشهداء الذين سقطوا في ساحة النضال من أجل الحرية والديمقراطية وحق تقرير المصير، وأصبحوا رموزا لشهداء الحرية في العراق. وتقف النخب (السياسية) من كافة المكونات الإجتماعية للشعب العراقي، في مقدمة تلك الرموز من شهداء الوطن. وتعتبر الفترة الدكتاتورية، التي إمتدت لما يزيد عن ثلاثة عقود، المثل الصارخ لشمولية المظلومية والتنكيل جميع مكونات الشعب العراقي المختلفة..!

فليس هناك ثمة طائفة إثنية وعلى أساس ديني أومذهبي، تملك حق الإستئثار وحدها بتأريخ النضال العراقي ضد الظلم والإستبداد والدكتاتورية، وليس لها أن تتذرع بمظلوميتها على حساب مظلومية الآخرين. فإذا أريد أن يكون الأمر كذلك، فإنه من الأولى ، أن يجري الإعتراف بهذا الحق للطوائف الأخرى من الأقليات الأثنية أو الدينية ، ليصبح بذلك؛ من حقهم إقامة أقاليم "إنعزالية" على أساس طائفي أو مذهبي، وعلى غرار ما تدعو اليه كتلة الإئتلاف بإسم الطائفة الشيعية، رغم عدم حصولها على الإجماع في ذلك، بل إنها تقف في مواجهة معارضة معلنة من قبل أطياف واسعة من مكونات الطائفة نفسها، بما فيهم أطراف سياسية أعضاء في هذه الكتلة..! أقول عليها أن تعترف بهذا الحق لتلك الأقليات، لكونها تعرضت ولا زالت تتعرض الى مظلوميتين على مدى تأريخها السياسي والإجتماعي، إحداهما من قبل أنظمة الحكم والأخرى بحكم أقليتها في المجتمع أمام الأكثرية العددية للطوائف الأخرى، إذا ما "إفترضنا" ذلك جوازا..! فإذا ما أخذنا بمقولة المظلومية كأساس لقيام الأقاليم، فلا غرابة والحال، أن نجد العراق وقد تشضى الى عشرات الشضايا من "الكونتونات" المنعزلة وفقاّ لهذه النظرية..!

إن المظلومية المدعى بها من قبل الإئتلاف الشيعي، وهو كتلة سياسية؛ لا يمكن أن تقوم أساساّ لبناء أقاليم جديدة تحت ما يسمى بفدرالية "الوسط والجنوب" لأنها تفتقد لمدلولها الموضوعي، لكونها تؤسس على أساس "مذهبي"، وهذا مخالف من الناحية الدستورية من جهة، ولأن المظلومية" نفسها عبارة عن حالة (شعورية نسبية) لا تربطها أية رابطة مع حالات الإختلاف الأخرى مثل (اللغة أو الدين ، أو الحالة الأثنية، أو الثقافية..الخ)، التي تسمح بإتخاذها مسوغات مقبولة لبناء علاقة فدرالية قانونية بين مكونين او أكثر من جهة أخرى..!؟
وحتى إن أغفلنا ذلك، فعلينا أن نشير، بأن المنطقة التي يفترض أن تغطيها فدرالية "الجنوب والوسط" المقترحة، جغرافيا، عبارة عن نسيج متماسك من العشائر العربية؛ المتعايشة منذ مئات السنين تحت سقف واحد، هو سقف (المواطنة العراقية المشتركة)، وفي علاقة وطيدة راسخة من المحبة والوئام والقربى والصفاء والإحترام المتبادل. وأغلبية سكانها إثنياّ إذا لم نقل جميعهم ، هم من السكان العرب ذوي الديانة الواحدة، وينطقون بلغة واحدة..! وبإختصار؛ فهم مكون شعبي واحد متحد، لا تتوفر فيه أي من العوامل التي يمكن إعتمادها كأسباب ومسوغات في تأسيس الأقاليم، وربطها مجددا في علاقة فدرالية. اللّهم إلا في حالة إرادوية واحدة، الهدف منها رسم خارطة جديدة لجغرافية المنطقة ولإهداف غير واضحة المعالم..!؟

وللزيادة في الإيضاح، نود أن نشير هنا؛ الى أن إقرار تأسيس الأقليم الكوردستاني نفسه، لم يبن على أساس من المظلومية والتهميش وحسب، رغم ما تعرض له الشعب الكوردي والقوميات الصغيرة، التي تعيش في نفس المنطقة الجغرافية، من مظالم وتنكيل وأضطهاد فاق في حدوده كل ما يتصوره المرء من قياسات أو مقارنات على الصعيد المحلي أو حتى العالمي بعد الحرب العالمية الثانية على أقل تقدير. إن إستحقاقات هذا التأسيس، قد فرضت نفسها بحكم موضوعيتها وأسبابها الموجبة ومسوغاتها التي لا تقبل النقاش..!(4)

فأية مخاوف من محاولة تشكيل ما يسمى بإقليم "الجنوب والوسط" على أساس "طائفي مذهبي"، إنما ناجمة من توقع تأسيس كيان "جغرافي _ سياسي"، على شكل "إمارة منعزلة"، تدفع في النتيجة الى أن يؤول الحكم فيها وإدارتها، ليس لأبناءها وحسب_ وهذا ما تتخوف أوساط واسعة من العراقيين من وقوعه_ بل أن يتحولون فيه الى مجتمع من التابعين الخاضعين لأحكام السادة الجدد، المدعوميين بالمرجعيات الدينية، والمسنودين من قبل دولة الجوار ذات المذهب المشترك..! وما قد يستتبعه ذلك من التخوف من إحتمالية فرض شكل الحكم المبني على قاعدة ما يسمى ب"ولاية الفقيه" الذي يعتمده نظام الحكم في الجمهورية الأيرانية الإسلامية منذ عام/1979. وهناك الكثير من المؤشرات على قبول الأخذ به من قبل بعض المرجعيات الدينية العراقية، ممن يقف وراء مشروع فدرالية "الجنوب والوسط"..!؟

وللتبصير والتذكير، فأن هذا الشكل من نظام الحكم (ولاية الفقيه)، يمثل طموحاّ تأريخياّ طالما تمسك به بعض القائمين على الطائفة الشيعية من رجال المرجعية الدينية وليس جميعهم، خاصة بعد تبنيه من قبل آية الله الخميني بعد الثورة الإيرانية عام/1979 ، رغم الإعتراض عليه من قبل عدد غير قليل من رجال الفقه الشيعة في النجف وقم إيران، وفي مقدمتهم رجل الدين الإيراني الروحاني الكبير (شريعة مداري). وهذا الشكل من الحكم بطبيعته الإنفرادية، يتعارض مع المباديء الحديثة لحقوق الإنسان وأنظمة الحكم الديمقراطية، بما فيها أنظمة الحكم في الدول العربية والإسلامية بإستثناء الجمهورية الإيرانية الإسلامية، لأنه مبني على أساس من سلطة الفرد الواحد و القائل بالتمثيل الإلهي، ولأنه لا يمنح الفرص أمام المواطنين في المشاركة الفعلية بأتخاذ القرار، ويتقاطع مع حرية إبداء الرأي، ويمتلك من تتمثل فيه الولاية، صلاحيات مطلقة في إدارة الدولة والحكم..!؟

وللتعريف بسمات هذا النمط من أشكال الحكم، ندرج في أدناه نصاّ من دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية الذي أعتمد (ولاية الفقيه) (المرشد) كأساس للحكم:

يقول البند 110 :
المرشد هو القائد الأعلى للقوات المسلحة وله الصلاحيات المدرجة أدناه :
1. تعيين الفقهاء المراقبين على صيانة الدستور والقوانين التي يسنها مجلس الشعب .
2. تعيين أعلى سلطة قضائية في البلاد .
3. نصب وعزل رئيس أركان الحرب .
4. نصب وعزل قائد الحرس الثوري .
5. صلاحية تعيين أعضاء الدفاع الوطني .
6. تعيين قادة القوات المسلحة (الأرض ، الجو ، البحر ) .
7. إعلان الحرب والصلح .
8. تنفيذ رئاسة الجمهورية .
9. عزل رئيس الجمهورية إذا اقتضت مصالح الأمة .
10. العفو عن المحكومين في حدود قوانين الإسلام وباقتراح من المحكمة العليا .

وليس بعيدا عن النص المذكور، ما تفضل به النائب العراقي عن كتلة الإئتلاف الموحد السيد ( سامي العسكري) بتأريخ 2/10/20066، من مقترح " تشكيل لجنة من فقهاء الشريعة لمراقبة مدى تطابق القوانين التي يشرعها البرلمان ، مع أحكام الشريعة". حيث جاء المقترح المذكور مطابقاّ لظاهر وروح النص أعلاه من البند/110- الفقرة /1 من الدستور الإيراني وهي تتعلق بصلاحيات (مرشد الجمهورية)، أي بمعنى آخر ما يدعى ب(ولاية الفقيه)..! مما شكل حالة من الريبة والأرباك لدى القوى السياسية الأخرى في البرلمان من مقاصد المقترح المطروح، وأثار إعتراضها، مما دفع برئيس البرلمان السيد المشهداني الى قمع المعترضين وإسكاتهم بطريقة إستهجنها الكثير من المواطنين، والحادثة ما عادت خافية على أحد بعد ذلك..!؟

في الواقع، لا أظن أن الأخذ بهذا الشكل من نظام الحكم، سيكون مقبولاّ من قبل الجماهير بما فيهم أبناء الطائفة الشيعية نفسها، الذين لم يعتادوا في العراق على هذا النمط من الحكم، خاصة وأنه لا زال حتى هذا اليوم، مسألة خلافية بين فقهاء الطائفة أنفسهم ومحل إعتراض العديد منهم. كما وأنهم وعبر عقود طويلة من الزمن لم يألفوا ربط الدين بالأمور السياسية، كما وأنهم لم يعتادوا في شؤونهم الدينية الإقتصار على تبعية فقيه ديني واحد (مقلد)، بل إن مسألة (التقليد) لديهم، حالة مشاعة لجميع الفقهاء والمجتهدين في أمور الطائفة الشيعية الدينية، لإجماع فقهاء الطائفة الشيعية على القول بمبدأ ( الإجتهاد ) في فقه الشريعة. فكيف سيكون عليه الحال في الشؤون السياسية..؟ ولكن هذا، لا يعني من جانب آخر، عدمية إنخراط رجل الدين في الشؤون السياسية، ولكن ليس بصفته الدينية وحسب، بل وفقاّ لمواطنته، التي يقرها الدستور أسوة بأبناء المجتمع الآخرين حيث لا تمييز في الحقوق السياسية بين المواطنين..!

إن جميع الإعتبارات التي تبني عليها كتلة الأئتلاف العراقي الموحد موقفها من مطلب فدرالية "الجنوب والوسط"، وإصرارها المتواصل على التمسك بها كمشروع مطروح للمناقشة أمام البرلمان، وفي ظل الظروف الشاذة التي تطبق على العراق اليوم، ورغم إتساع دائرة المعارضة السياسية والإجتماعية للمطلب المذكور، وسيول الدماء العراقية الجارفة ، التي ليست بعيدة في بعض أسبابها عن ذلك؛ إن جميع هذه الإعتبارات والمبررات، لا يدعمها واقع الحال؛ وإن مجرد التشبث بها لا يمكن تفسيره، إلا بأنه صادر من منطلقات خاصة، لا تخدم في أهدافها، مصلحة العراق والعراقيين ، بقدر ما تعرض في نتائجها، البلاد الى مخاطر الضعف والتفتت، والهيمنة المحتملة من دول الجوار، وتعزز أحقية التخوف الذي أظهرته طوائف ومكونات سياسية أو دينية عديدة ، من الدفع بإتجاه ما يدعى بنظام (ولاية الفقيه)، رغم النفي الذي تعلنه بعض أوساط كتلة الأئتلاف لذلك..!

كما وأنه وطبقاّ للمقولة التي يروج لها كثيراّ من قبل أصحاب مطلب الفدرالية المذكور والقائلة؛ بضرورة رفع الغبن التأريخي الذي لحق بأبناء المنطقة، المفترض شمولها بالفدرالية، فيما يتعلق بالتصرف بثروات مناطقهم، ولذلك فأن من أهداف الفدرالية؛ هو ضرورة إعادة هذا الحق الذي سلبته الحكومات المركزية الى أصحابه؛ أقول وطبقا لهذا الإدعاء، لابد وأن يدرك المرء بأن الثروات الوطنية وفي مقدمتها النفط والغاز والثروات الأخرى في باطن الأرض، إنما هي (ملك مشاع) بين جميع العراقيين وفي جميع الأقاليم.** وأي تجزئة للثروة الوطنية عن طريق تقسيمها ووضعها تحت هيمنة الأقاليم والمحافظات، ليس فقط لا يساعد على تطوير وتنمية تلك الثروة وحسب، بقدر ما يعمل على إهدارها وتبديدها بعيداّ عن مصالح المجتمع والأجيال القادمة. خاصة إذا ما علمنا بأن عمليات التنمية والأستخراج تتطلب مهارة عالية وتمويلات باهضة، لا تقوى أقاليم، أو محافظات "مؤقلمة" على النهوض بمفردها بذلك..!؟(5)

إنه ومن نافل القول، أن تضع الطائفة الشيعية، وكذلك باقي الطوائف الدينية والمذهبية الأخرى ، مصلحتها جميعاّ ضمن إطار مصلحة الوطن. وإنه لمن القوة أن تصبح مظلومية الجميع مجتمعة، هي الدرع المانع من تجزأة الوطن، وتلك المصلحة وحدها، هي الإطار الجامع والموحد للجميع..!

في الختام أؤكد ما أتيت عليه في مقالات سابقة ومشار اليها ضمن الروابط أعلاه، من الدعوة الى ضرورة الأخذ والتمسك بكل ما يصب في خدمة الصالح العام بعين الحق والعدل، وبما يعزز الوحدة الوطنية ويقوض أسس التجاذب الطائفي، ويوقف نزيف الدم، ويشد لحمة العراقيين للوقوف في وجه الإرهاب، ويعجل في إنجاح المصالحة الوطنية وفق أسس من الديمقراطية والعدالة، ويعزز وسائل بناء هياكل الدولة الديمقراطية الحديثة..!
إلا أن ما يؤسف له ولإعتبارات سياسية، لايزال الجميع يتحدثون فقط، عن الحق في تأسيس الأقاليم المنصوص عليه دستورياّ ، ولكنهم يغفلون الحديث عن شروط وأسس وقواعد وأسباب ومسوغات التأسيس..!؟
 


1- فدرالية الوسط والجنوب: مقال سابق – إضغط الرابط *

http://www.al-nnas.com/ARTICLE/BFadli/7fdr.htm

2- العراق: إشكالية الفدرالية والتوازن الإجتماعي: مقال سابق – إضغط الرابط *

http://www.al-nnas.com/ARTICLE/BFadli/9fdr.htm

3- نفس المصدر السابق/2 - إضغط الرابط *

http://www.al-nnas.com/ARTICLE/BFadli/9fdr.htm

*- دراسة في الزعامة العراقية: الدكتور خالد التميمي/ص18-19

Ireland P.W., Iraq A study in political Development, p47))

4- نفس المصدر السابق/1 - إضغط الرابط *

http://www.al-nnas.com/ARTICLE/BFadli/7fdr.htm

**- نص مسودة الدستور الدائم – إضغط الرابط *

5- هل يمتلك العراقيون نفطهم..؟ مقال سابق – إضغط الرابط *

http://www.al-nnas.com/ARTICLE/BFadli/18oil.htm