| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. بهجت عباس

 

 

 

 

الجمعة 29/12/ 2006

 



الشاعر فردوسي


للشاعر الألماني هاينريش هاينه ( 1797-1856 )
ترجمة بهجت عباس

أناسٌ من ذهب ، أناسٌ من فضة !
عندما يتكلم صعلوك عن تومان ،
يكون كلامه عن فضة فقط ،
تومان فضة يكون معنيّـاً.

ولكنْ في فم أميـر ،
في فم شاهٍ ، التومان
هو ذهب دوماً ؛ الشاه يأخذ
ويعطي توماناً ذهباً فقط .

هكذا يفكّر الناس المحترمون ،
وهكذا فكّر فردوسي أيضأ
مؤلف الشاهنامه
المشهورة والمعبودة .

أنشودةُ الأبطال العظيمة
كتبها بأمـر من الشاه ،
الذي وعد بإعطائه
توماناً عن كلِّ بيت منها .

أزهرت الوردة سبعَ عشرةَ مرّةً ،
ذبلت سبعَ عشرةَ مرّةً ،
وتغنّى بها العندليبُ
وخَـرِسَ سبعَ عشرةَ مرّةً –

في غضون ذلك الوقت جلس
الشاعـر على نوْل التفكيـر ،
ليل نهار ، ونسج بجـدّ
سجّادة أنشودته الجبّـارة -

سجّادة هائلة ، حيث نسج
الشاعر بإحكامٍ تاريخَ أساطير
بلاده بروعة ،
ملوكَ أرضِ فارسَ القدامى.

أبطالَ شعبه المحبوبين ،
مآثرَ فرسانٍ ، مغامراتٍ ،
كائناتٍ سحريةً وعفاريتَ ،
محاطةً بجرأةٍ بأزهار خرافيّـة .

كلّ شيء مزهرٌ ونابضٌ بالحياة
مُتـَألِّق ألواناً ، متوهِّـجٌ ، مُـتَّـقدٌ ،
و مُشِعّ سماويَـاً
من أنوار إيران المُقّـدَّسة ،

من النور القديم النقيّ ربانيّاً ،
الذي توهّجَ معبدُ نارِه الأخيرُ ،
في قلب الشاعـر ،
غير مكترثٍ بالقرآن والمفتي.

عندما كمَـلتْ الأنشودةُ تماما ً،
سلّم الشاعرُ عرّابَـه
المخطوطـةَ ،
مائتيْ ألفِ بيتٍ.

في غرفة الحمام كان ،
في غرفة الحمام لمدينة غسنا ،
حيث التقى ساعيـا الشاه
الأسودان فردوسي.

سحب كلّ منهما كيسَ نقود
ألقيـاه عند قدميْ فردوسي
جاثميْـن على ركابهما ،
كأرفعَ تكريمٍ لشعـره.

مزّق الشاعرُ الكيسيْـن
بسرعة ، كمن افتقـد
رؤيةَ الذهب الذي ينعش قلبه –
هنا نظر بذهـول ،

إنَّ محتويات الكيسيْـن
فضّة باهتة ، تومانات فضّة ،
مائتا ألفٍ تقريبـاً –
فضحك الشاعر بمرارة.

ضاحكاً بمرارة قسم كلَّ
مجموعة إلى ثلاثة أجزاء
متساوية ومنح كلاّ
من السّاعيـيْن الأسوديْـن

الثّلثَ أجرةَ السّـعْـي ،
وخادمَ الحمّـام الثلثَ المتبقّـي ،
مكافـأةً
لاعتـنائه بحمّـامه.

أمسك بعصا تَرحاله
حالاً وغادر العاصمـةَ ؛
عند البوابة نفض
التراب عن حذائـه.

11

" إذا ما التزم بما وعد ،
كطبيعة بشريّـة ،
لو نقض كلمـتَه وحدها ،
لما حنقتُ عليـه قطّ.

ولكنّـه ليس معذوراً
أنْ خدعني بدناءةٍ
خلال ازدواج جوهر كلامه
وكذبة صمتـه الكبرى.

كرجل دولة كان مَهيـباً
بُـنْـيَـةً وسلوكـاً ،
قلّـة هي أمثـالـه على وجه الأرَضين ،
كان ملكاً لكلِّ حدود.

مثلَ الشّمسِ تتوهَّج اشتعالاً
في قوس السّماء رآني ،
هو رجل الحقيقة المتباهي –
ولكنّـه كذب عليَّ.

شاه محمد تنـاول طيبَ الطعّـام
ومزاجـُه كان رائقـاً.

في الحديقة المغمورة بنور الشَّـفَـق ،
وعلى وسادة أرجوانية يجلس عند
الفسقيّـة التي تخِـرّ ببارد الماء !

يقف الخدم بهيبة واحترام ،
من بينهم خادمه المطيع " أنصاري " .

زَهريّـاتٌ مرمرٌ تنبثق منها خارجاً
باقاتُ أزهارٍ غفيرةٍ متوهجةٍ.

ومثلَ جَـوار ٍممشوقاتِ القَـوام
يُـهَـوّي النخلُ الرشيقُ ذاتَه.

تنتصب أشجار السّرو دون حَراكٍ ،
مثل مَنْ يحلمُ بالسّماء ، وينسى الدنيا.

ولكنْ فجأةً تنطلق أغنيـةٌ رقيقـةٌ
ساحرةٌ مليئةُ سرٍّ مع أنغـام عـودٍ.

يبهت الشّاه كما لو سُحِـرَ –
مِمَّـنْ كلماتُ هذه الأغنيـة ؟

أنصاري ، الذي وُجِّـه السّوالُ إليه ،
أجابَ ، هذه نظمهـا فردوسي.

فردوسي ؟ - صرخ الشاه مذهولاً –
أينَـهُ ؟ كيف حالُ الشّاعـرِ الكبيـرِ ؟

أجاب أنصاري : في فاقـةٍ
وبؤسٍ يعيش مذ زمن طويلٍ

في طوس ، مدينة الشّاعـر ،
حيث لديْـه حديقة صغيرة .

صمت الشاه محمد برهـةً
ثمَّ قال : أنصاري ، إنَّ أمري لعاجلٌ –

اذهبْ إلى حظائر خيلي واختـرْ
منها مائةَ بغـلٍ وخمسين جمـلاً.

عليك أنْ تُحمِّـلَها بكلَّ الكنوز ،
التي تشرح قلبَ المـرء ،

بكلِّ البدائـع ومـا ندرَ ،
ملابسَ ثمينـةً وأدواتِ منـزلٍ

من خشب الصَّـندل ، والعـاج ،
وأراجيلَ ذهبيّـة وفضيّـة

أباريقَ وكؤوسٍ بِعُـرىً مُزخـرفةٍ
جلودِ نمـور مُـرقّـطة.

بسجّادٍ ، ملاحفَ ، ودبابيجَ غاليةٍ
تلك التي صُـنِعتْ في ولاياتنـا.

لا تنسَ ، أن تَرزمَ معـها
أسلحةً برّاقـةً وستائـرَ ،

لا أقلَّ من أشربة من كلّ نوع
وأطعمة يحفظها المرء في القدور.

وحلويّات وتورتة اللوز ،
وكعك مُتبّـل من كل الأنواع.

ضُمَّ إليـها اثنتيْ عشرةَ فرساً ،
عربيّـةَ النشأةِ سريعةً كالسّهم.

وعبيداً سوداً كذلك ، اثنيْ عشرَ
جسماً من صُـلبٍ ، تقتحم الصِّعابَ.

أنصاري ، بهذه الأشياء الجميلة
يجب أنْ تبدأ رحلـتَك فوراً.

يجب أن تأخذها إلى الشاعر الكبير
فردوسي إلى طوس مع تحيتي.

نفّذ أنصاري أوامرَ الشاه ،
حمّل البغـالَ والجِّمـالَ

بهدايـا الشّرف ، التي كلّفتْ
رَيْـعَ ولايـة كامـلة.

بعد ثلاثة أيّـام غادر
محلَّ إقامتـه وبنفسه ،

بعلمِ قائـدٍ أحمرَ
تقـدّم القافلـةَ

في اليوم الثـامن وصلوا طوس ،
التي تقع على سفح الجبل.

دخلت القافـلة من البوّابة الغربيّـة
بضجيج وصُيـاح.

دقّت الطّبـول ، دوّى البوقُ ،
وعلتْ أنشودةُ النَّصر مهلّلـةً.

لا إلهَ إلا الله ! وملءَ الأفـواهِ
هلّل سائقـو الجِّمـال.

ولكنْ خلال البوّابة الشّرقية ، في النّهاية الأخرى
لطوس ، خرج في اللحظة عيـنها

إلى المدينـة موكب الجِـنـازة
الذي حمل الفردوسي الميّتَ إلى قبره.

السّعادة هي مومس خفيفة ،
لا تبقى في البقعة عينها عن طيب خاطر ،
تُزيلُ لك الشَّعـرَ من جبهتـكَ
وتقـبِّـلـكَ بسرعة وترفرف ماضيـةً قُـدُمـاً.

السَّـيدّةُ التّعـاسةُ على نقيضها
تُحبّك بعنف ضاغطةً على قلبك ،
تقول ، إنها ليست على عجـل ،
تجلسُ معك على الفراش وتحـوكُ.