| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. بهجت عباس
http://dr-bahjat.com

 

 

 

الأربعاء 13/5/ 2009



أربعة أيام في بغداد
(1،2)

د. بهجت عباس

1
                
بغـداد حزنُـكِ يطفــو                على ضفـافٍ تجــفُّ
                 قد سام أرضَكِ خسفُ               وكنتِ أحلى المغاني

                                                                            (
من زنابق السّنين- للكاتب)

لم يدُر في خاطري أن سأرى بغداد قريباً رغم مغادرتي إيّاها قبل تسعة وعشرين عاماً . أليست هذه مدة كافيةً للحنين إلى مهد الطفولة وربيع الصِّبا ورونق الشباب وإن كان باهتاً في أكثر الأحايين ؟ ولكنْ ما حدث لم يكنْ في الحسبان . فوجودي في أبي ظبي لزيارة أخي وعائلته القاطنين فيها منذ أكثر من عشر سنين ولأمور وجب عليّ أن أكون هناك ليتمَّ حسمُها ولزيارة أخواتي اللائي لم أرَ الكثير من أطفالهنَّ الذين ولدوا بعد مغادرتي ، فنشأوا وتزوجوا ورزقوا بأطفال جعلتني متشوِّقاً إلى رؤيتها ورؤيتهم وأن أشمّها وأتنفَّسَ هواءها فلا بدَّ في الأخير من صنعا وإنْ طال السَّفر! أمّا كيف هي ما عليه فقد كثرت فيها الأقاويل . لذا كان فضولي كبيراً عندما هبطت الطائرة الإماراتية جوبيتر على مطار بغداد الذي بدا للوهلة الأولى كئيباً موحشاَ خالياً. نزلت وأخي الذي صاحبني في زيارتي هذه من الطائرة متقدماً بشوق وحذر إلى مركز تقديم الجوازات، انتظرت ، وما كان الانتظار طويلاً حتى وصل دوري إلى شباك الجوازات فقدمت جواز سفري العراقي إلى ضابط الجوازات الذي تفحصه وختمه وأعاده إليَّ بعد أن سألني فيما إذا كنت حصلت عليه بواسطة السفارة العراقية في كندا . خرجت إلى صالة المطار منتظراً أخي الذي أتى بعدي والذي قال إن ابن عمتنا موظف كبير في المطار وسيتصل به تلفونياً لنسلم عليه . جاء عليّ واحتضنني وكان أولَ قريب أراه بعد هذه المدة ، فلقد كان حينذاك صبياً أثناء مغادرتي العراق والآن بدا عليه الشيب والتعب والإرهاق وكان حديث وحديث ودعنا أو ودعناه بعد فترة قصيرة حيث كنا في عاجل من أمرنا . والآن بقيت مسألة إيجاد تاكسي أو باص يأخذنا إلى ساحة ابن فرناس حيث ينتظرنا هناك أبنا أختي، معتز وعلي ، بسيارتهما (لا يُسمَح إلاّ لسيارات معيَّنة أن تأتي إلى المطار) ، لإكمال الرحلة إلى فندق فلسطين - مريديان الواقع بين شارعيْ أبي نواس والسعدون قرب ساحة الفردوس التي شهدت سقوط أكبر صنم . كان قد حجز أخي غرفة فيه . كان الطلب على التاكسي أو الباص شديداً لكثرة المسافرين وقلة السيارات ، ولكنا استطعنا الحصول على مقعدين في باص صغير أوصلنا إلى ساحة ظنناها ساحة ابن فرناس ولكنها كانت قبلها ، ولما أردنا الاتصال بهما كيْ يأتيا إلى الساحة التي أنزلنا فيها الباص لم نستطع لضعف شبكات الخطوط التلفونية ، فكان هذا أولَّ انطباع سيّء . فما كان علينا إلا أن نسير ساحبيْن حقائبنا قرابة نصف الساعة حتى وصلنا ساحة ابن فرناس حيث كانا بانتظارنا . كان لقاءً حارّاً ، أصرّا أنْ يأخذانا إلى بيتهما فأبينا . وصلنا فندق فلسطين - مريديان الذي كان محاطاً بجدار سمنتي وفي رأس الشارع المؤدّي إلى الفندق كان بضعة حراس أمن يفتشون أيّ سيارة أو راجل يريد الدخول وكان التفتيش محكماً أعقبه تفتيش آخر عند مدخل الفندق ، ففرحت وشعرت بالأمان نسبياً. حصلنا على غرفة نظيفة وواسعة ومريحة بواسطة موظف صديق وجار قديم لنا . كان الفندق ينهض من الأنقاض بعد أن قصفته صواريخ الإرهاب في العام الماضي ، ولكنَّ العمل لإعادته كما كان أو بأحسن مما كان ، بطيء جداً كعادتنا في مثل هذه الأمور، فكثير من الطوابق لم تُصلَّحْ ، وكان مصعد كهربائي واحد يعمل وثلاثة عاطلة . وبالرغم من هذا فالفندق جميل بحدائقه ومساحة بنائه وموظفيه اللطيفين بأخلاقهم العالية وحسن معاملتهم وتعاملهم مع الزبائن التي لمسناها ولاحظناها . تشرف غرفتنا على شارع أبي نواس المطل على نهر دجلة الأخذ ماؤه بالنضوب حيث التقطت صورة له من (بالكون) الغرفة الواقعة في الطابق الثامن وقد بانت في وسطه جزرة (جزيرة صغيرة) كما تظهر أدناه

بعد أن حططنا الرِّحال في الفندق واسترحنا قليلاً خرجنا إلى شارع السعدون نتمشى فيه ونبحث عن مطعم نظيف ، فوجدنا ضالتنا في مطعم (الطبيخ) ، كما بان من واجهته ، في أحد الشوارع الفرعية الواقعة على السّعدون . لم يكن الطعام جيداً ولا رديئاً ، ولم يكن رخيصاً بحساب بغداد ، فقد دفعنا عشرين ألف دينار (18 دولاراً أمريكياً تقريباً) فكنت آكل بيد وأكشّ (أطرد) الذباب المهاجم الذي لم أفلح في التخلص منه تماماً بيد أخرى . بعد هذا تجولّنا في شارع السّعدون المزدحم بالسيّارات التي توقفت فجأة بعد سماع صفارات وجلبة عنيفة فالتفتنا فإذا بمصفحتين أمريكيتين ضخمتين مرّتا في الشارع وكان المارة يبتعدون عنهما إلى أن ذهبتا بعيداً فاستمر السّير . ذهبنا إلى الفندق بعد شراء بضع قناني ماء واسترحنا ساعتين قبل أن ننطلق في شارع السّعدون مرة أخرى ومنه إلى الشارع الجميل يوماً ما المسمّى بشارع أبي نؤاس .

2
أبو نؤاس هذا الشارع العريق لم يكنْ كما كان في أيامنا الخوالي، فالكآبة تخيم عليه والليل الذي كان يضيء بمصابيحه الوهاجة ومقاهيه وباراته وكازينواته التي ينطلق منها صوت أم كلثوم أيام زمان أمسى ليلاً حزيناً تنام فيه كلاب وترقد فيه صخور، وإنَّه لليلٌ حزين ، ذلك الذي ينتظر إلى أن يهُلَّ الصباح ، كما يقول ريلكه . فعلى ضفة دجلة وفي منتصفها توجد بضعة مطاعم ومقاهٍ يقابل معظمها فندق مريديان ، وما خلاها فيصفر فيها الخراب . وعند التجول بين كازينواته ومطاعمه ليلاً وهي بعدد الأصابع ، كان ثمة مطعم بالسمك المسقوف يبيع الكيلو من السمك بخمسة وعشرين ألف دينار (22 دولاراً تقريباً) . وكان الذباب يغطي هذه الأسماك . أما عجينة الخبز الموجودة في الصحن الكبير (الإنجانة) التي يصنع منها صاحب المطعم الخبز الحارَّ لروّاده وزبائنه ، فلا تبين إلا كقطعة سوداء من الذباب النَّهم المتراكم عليها! ولست أدري لماذا لا تُغَـطّى بقطعة قماش أو ورق يمنع الذباب المهاجم عنها ! ذهبنا نسير على الشاطئ الهادئ الذي يترنح النور الخافت عليه وكانت الساعة بين العاشرة والحادية عشرة مساءً ، فلم نرَ أحداً سوى بضعة أولاد مراهقين يتحادثون وكلبيْن سائبيْن ، فشعرت بالوحشة والقلق حيث الأمان ليس متكاملاً وربما كانت مشيتنا ذلك الوقت (مجازفة) ، فأيُّ (شيء محزن أو مؤسف) قد يكون . ولكنَّ المشْيَ كان ضرورة لي بعد الطعام الذي ( لم يكن سمكاً ولا خبزاً مما ذكرتُ سابقاً) ، إذ أنَّ حرق السكّر في الدم بالرياضة كان أمراً محتّماً لمرضى السكر للحفاظ على مستوى طبيعيّ له في الدم ، وهذا ما التزمت به في السنوات التسع الماضية بدلاً من الأدوية . فبالتغذية الصَّحيحة والرياضة البدنية تستطيع أن تحافظ على مستوى سكر الدم دون حاجة إلى أدوية أو أنسولين . لذا عندما أخذت حاجتي من المَشْي ، قفلنا راجعَـيْن إلى الفندق بسرعة حيث انقضى ما تبقى من الليل . في الصّباح خرجنا من الفندق إلى شارع أبي نؤاس بحثاً عن تاكسي يوصلنا إلى الجهة الأخرى من بغداد ، صوب الكرخ، فوجدناه ، حيث قادنا في شارع أبي نؤاس متوجهاً إلى شارع الرشيد . وبعد أن قطعنا مسافة قصيرة فيه سمعنا صفارات وجلبة وضجيجاً ، فانتحت السيّارات جانباً وتباطأتْ لتدعَ سيارة (محجَّبة مظلّلة) تأخذ طريقها ، وقدامها ووراءها بضع من سيارات الهمر البيض المدرَّعة . قال السائق إنها سيارة محافظ بغداد على الأغلب أو وزير أو مسؤول حكومي ، وأكمل ممتعضاً أنه في كل يوم يواجه مثل هذا الحدث مرات فيكون ازدحام وتأخير وكآبة . ومهما تكن ، فكم تُكلف خزينة الدولة هذه الحماية المُصمَّمة المقرّرة لبضع مئات من هؤلاء الساسة المحظوظين والشعب عاطل وفقير؟ لم أستغرب حينذاك من أنَّ ابنة أختي مثلاً بقيت عاطلة سنة أو أكثر بعد تخرجها من الكلية حتى حصلت على وظيفة بعقد لمدة سنة وبراتب مائة وخمسين ألفَ دينار (مائة وثلاثون دولاراً) في الشهر! وطوال فترة سير السيارة (الحكومية) جنبنا وقربنا كنت أحوقـل وأستعيذ بالله أن تذهب وتختفي بعيداً عنا قبل أن يدركنا خطر احتمال مهاجمتها من قبل الإرهابيين فنكون في وسط معمعة لا نعرف نتيجتها . ذهبت سيارة المسؤول مع كوكبة حراسه بعيداً فتنفست الصُّعَداء . لم يكن سائقنا مسروراً طبعاً بما لاقاه ويلاقيه يومياً ولكنه علّق على أنّ هذه هي الحياة الطبيعية في بغداد الآن ولا بدّ من التكيّف معها ، فلا عجب إنْ شاب الفرد وهو شاب أو مات قبل الأوان . دخلت سيارتنا شارع الرشيد الجميل الضاحك في الماضي والكئيب المتوتِّر في الحاضر ، وكان الازدحام شديداً ، فرأيت الخراب في مبانيه على الجهتين وآثار الرصاص والقنابل على عماراته ومخازنه المهجور بعضها والناهض من الرماد البعض الآخر. ولكن السيارة لا تقطعه حتى النهاية ، بل إلى جسر السّنك حيث تعبر عليه إلى صوب الكرخ. أما القسم المتبقي منه ، فقد صار سوقاً ضخماً كبيراً لبائعي الخضر والفواكه والطعام والملابس والبضائع الأخرى لباعة يعرضون ما لديهم في (بسطات) وأكشاك على جانبيه . عبرنا إلى الجانب الآخر من بغداد ، صوب الكرخ، وكان الازدحام شديداً أيضاً . وبمدة غير قصيرة وصلنا حيّ القادسية إلى بيت أختي الذي اجتمع فيه الأخوات وأبناؤهم وبناتهم وكان لقاء حار بعد تسع وعشرين سنة تبدلت فيها الأشكال والوجوه والصور ، أعقبه غداء وأحاديث طويلة.
 

يتبع





 

free web counter